في يوم من الأيام كانت المصالح السعودية والأمريكية في الشرق الأوسط تبدو في غاية التناسق لدرجة أن الأمير بندر بن سلطان، السفير السعودي السابق المدخن للسيجار، كان يعتبر واحداً من أكثر الدبلوماسيين نفوذاً في واشنطن.
ولت تلك الأيام. فقد أمضى الملك السعودي ومبعوثوه، كما الإسرائيليون، أسابيع يحاولون التأثير على القرار الأمريكي ولكن دونما جدوى، إذ عارضوا بشدة الاتفاق النووي المرحلي الذي تم التوصل إليه مع إيران في جنيف يوم الأحد. وفي النهاية، لم يعد لديهم ما يفعلونه. فقد رأت إدارة أوباما المحادثات النووية بمنظار مختلف تماماً عما كان يراه السعوديون، الذين خشوا أن يكون ثمن أي تخفيف للعقوبات المفروضة على إيران هو منحها دوراً أوسع نطاقاً وأكثر خطورة في الشرق الأوسط.
رغم أن السعوديين مايزالون حلفاء مقربين للولايات المتحدة الأمريكية إلا أن الاتفاق النووي مع إيران شكل ذروة التنابذ المتبادل الذي بدأ مع نهاية الحرب الباردة.
منذ عقود والولايات المتحدة الأمريكية تعتمد على المملكة العربية السعودية – التي يبلغ عدد سكانها ٣٠ مليون نسمة وهي صاحبة أكبر احتياطي نفطي في الشرق الأوسط – في ضمان الاستقرار في منطقة يهيمن عليها الحكام المستبدون وينتشر فيها العداء لحليف آخر لأمريكا هي إسرائيل. فقد استغل السعوديون دورهم كقوة نافذة في أوبيك لكبح جماح العراق وإيران، كما دعموا وجود قواعد للجيش الأمريكي مما مكن الأمريكان من السيطرة على الشرق الأوسط وما بعده.
إلا أن الانتفاضات العربية غيرت ميزان القوة في الشرق الأوسط، وخاصة من خلال الإطاحة بالرئيس المصري حسني مبارك الذي كان حليفاً حميماً للسعوديين والأمريكان على حد سواء.
كما ترددت الولايات المتحدة في الانحياز إلى جانب ضد آخر في الصراع الطائفي المتفاقم بين الشيعة والسنة، والذي يعتبر السعوديون فيه طرفاً رئيسياً في الجانب السني.
في نفس الوقت، أدى الكشف عن مصادر جديدة للنفط إلى التقليل من أهمية السعوديين. ثم ما لبثت المبادرات الدبلوماسية الأخيرة لإدارة الرئيس أوباما بشأن سوريا وإيران أن أفزعت السعوديين الذين باتوا يخشون أن يتخلى عنهم حليفهم التقليدي.
يقول إف. غريغوري غاوز الثالث، أستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة فيرمونت: “مازلنا نشترك في كثير من الأهداف نفسها، إلا أن أولوياتنا غدت بشكل متزايد تختلف عن أولويات السعوديين. فحينما تتأمل في آرائنا المتباينة بشأن الربيع العربي وحول كيفية التعامل مع إيران، وإذا ما أخذت بعين الاعتبار التغير الطارئ على أسواق الطاقة الأمر الذي يقلل من مركزية الخليج، تجد أن ذلك كله ساهم في تغيير الأساس الذي تقوم عليها العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة الأمريكية.”
يضيف البروفيسور غريغوري بأن الولايات المتحدة طالما كانت لها تباينات مهمة السعوديين، بما في ذلك الموقف من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني وانتشار تيارات الإسلام الأصولي. إلا أن عزم إدارة الرئيس أوباما على تخفيف القطيعة مع زعماء إيران الثيوقراطيين (الملالي) يبدو أنه أثار حفيظة السعوديين بشكل خاص بسبب عداوتهم المتجذرة للشيعة الذين ينافسونهم على زعامة العالم الإسلامي.
كان رد الفعل السعودي على اتفاقية جنيف متحفظاً وحذراً يوم الإثنين، حيث جاء في تصريح بثته وكالة الأنباء السعودية الرسمية ما نصه: “إذا حسنت النوايا فإنه يمكن لهذه الاتفاقية أن تشكل الخطوة الأولى” نحو حل شامل لطموحات إيران النووية.
ولكن في الأيام الأخيرة، أخذ المسؤولون السعوديون وكتاب الأعمدة يعبرون عن تخوفهم من أن تكافئ الاتفاقية في الوقت الخطأ إيران بمنحها شرعية جديدة وبتخفيف العقوبات عنها بما قيمته عدة مليارات من الدولارات. فقد بذلت إيران جهداً مضنياً ومكلفاً في دعم حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، بما في ذلك تزويده بالسلاح وتدريب رجاله ومده بعناصر من الحرس الثوري العزيز عليها، وقد مكن هذا الجهد بشار الأسد من تحقيق انتصارات مهمة خلال الشهور الأخيرة.
يخشى السعوديون أن تترجم أي مكاسب إضافية يحرزها بشار الأسد في ساحة المعركة إلى توسيع نطاق الهيمنة الإيرانية في أرجاء المنطقة. ومما دق نواقيس الخطر لدى السعوديين ما رأوه من إيماءات تصالحية تبديها تركيا – حليفها في دعم الثوار السوريين – تجاه إيران، بما في ذلك الدعوة الرسمية التي وجهها الرئيس التركي عبد الله غول إلى الرئيس الإيراني لزيارة تركيا في وقت مبكر من هذا الشهر.
بعيد الإعلان عن إبرام الاتفاق يوم الأحد بدأ المغردون السعوديون على تويتر يعبرون من خلال موجات من التغريدات عن حالة من القلق والانهزام والخوف من أن تتخلى عنهم الولايات المتحدة الأمريكية.
ومع ذلك، تبدو هذه المخاوف متناقضة مع الوقائع التي تؤكد استمرار التعاون السعودي الأمريكي على عدة جبهات تشمل مكافحة الإرهاب. يقول توماس دبلو ليبمان، الباحث في معهد الشرق الأوسط وصاحب مؤلفات كثيرة حول العلاقات الأمريكية السعودية: “ندرب حرسهم الوطني، ونضع الخطط الأمنية ونوفر التدريب الأمني لآبار النفط ومنصات تصديره وغير ذلك من المرافق، وننجز حالياً واحدة من أكبر صفقات السلاح في التاريخ.”
ورغم كل ما يقال عن تدني الاعتماد على النفط السعودي، يظل السعوديون منتجاً في غاية الأهمية في الأسواق العالمية.
إلا أن أياً من ذلك لا يمكنه إخفاء الخلاف المبدئي بين الطرفين في وجهات النظر حول اتفاق جنيف. إذ يعتبر السعوديون الملف النووي إحدى الجبهات التي تدور فيها رحى الحرب الطائفية بالوكالة، التي تتركز في سوريا، والتي ستشكل الشرق الأوسط على مدى العقود القادمة، وتضعهم في مواجهة مع خصمهم التاريخي.
يقول بيرنارد هيكل، أستاذ دراسات الشرق الأدنى في جامعة برينستون: “أخبرني أحد السعوديين المقربين من أصحاب الأمر والنهي أنهم إذا لم يتمكنوا من هزيمتهم في سوريا فإنهم سيضطرون فيما بعد إلى قتالهم داخل المملكة نفسها.”
ليس واضحاً ما الذي يقترحه السعوديون حتى يتمكنوا من كسب الجولة في سوريا. فدعمهم الواسع للثوار الإسلاميين الذين يقاتلون في سوريا – والفرضية الآخذة في الانتشار بأن لهم ارتباطاً بالجماعات الجهادية التي تقاتل هناك – فاقم من مستويات التوتر في أرجاء المنطقة. بعد التفجير الانتحاري المزدوج الذي أودى بحياة ٢٣ شخصاً أمام السفارة الإيرانية في بيروت الثلاثاء الماضي عجت وسائل الإعلام الإخبارية العربية بتقارير أعدت على عجل مفادها أن ذلك التفجير كان “رسالة” إلى إيران قبيل محادثات جنيف النووية. في اليوم التالي أعلنت مجموعة شيعية في العراق مسؤوليتها عن قذائف هاون أطلقت باتجاه الجانب السعودي من الحدود بين البلدين.
فاضت وسائل الإعلام الإخبارية السعودية خلال الأيام القليلة الماضية بالنقد اللاذع، أحد كتاب الأعمدة واسمه طارق الحميد سخر بالرئيس أوباما مشبهاً إياه بالأم تيريزا إذ “يعطي خديه الأيمن والأيسر لخصومه أملاً بتحقيق مصالحة معهم”.
لم تجد نفعاً كل الجهود الأمريكية لتبديد مخاوف السعوديين، ولا حتى زيارة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى الرياض في وقت مبكر من هذا الشهر.
وكان السعوديون قد أعلنوا عن سخطهم الشهر الماضي بشأن الاتفاقية مع إيران والسياسة الأمريكية في سوريا وذلك من خلال رفض تسلم مقعد مجلس الأمن الدولي الذي حازوا عليه مؤخراً. في حينها سخر كثير من المحللين من هذه الخطوة واعتبروها غير موفقة.
فيما عدا مثل هذه المبادرات ليس واضحاً ما الذي بإمكان السعوديين أن يفعلوه. وخاصة أن إدارة الرئيس أوباما أوضحت بما لا مجال للشك معه أنها غير عابئة بسخط السعوديين لأن السعوديين لن يجدوا ملاذاً آخر يلجأون إليه ليحميهم من إيران.
خلال الشهرين الماضيين زاد السعوديون من دعمهم لمجموعات من الثوار السوريين بما في ذلك جماعات إسلامية ليست جزءاً من التحالف العلماني بالمدعوم أمريكياً.
يقول أحد المسؤولين الأمريكيين اشترط عدم الإفصاح عن هويته: “إنهم يعملون مع بعض الناس الذين يشعروننا بالتقزز. ولكنهم فعالون، إنهم هم المعول عليهم. هؤلاء إسلاميون يستشرفون سوريا يعيش فيها العلويون والمسيحيون كأقليات، ولكنهم على الأقل لا يعتبرونهم أعداءً لابد من ذبحهم.”
في أشد أشكاله، لا يقتصر قلق السعوديين على التخوف من أن يتركهم الأمريكان مكشوفين أمام الإيرانيين بل يتجاوز ذلك إلى اعتبار أن المصالحة التي تمت بين أمريكا وإيران سوف تحول الإيرانيين إلى حليف أمريكي في المنطقة. وهذا ما عبرت عنه صحيفة الرياض السعودية مؤخراً في عمود لا يحمل اسم كاتبه إذ قالت: “ما مفاوضات جنيف إلا تمهيد لفصل جديد من التقارب” بين الولايات المتحدة وإيران.
قد يبدو ذلك بعيد المنال في ضوء مشاعر الكراهية والعداء لأمريكا داخل المنظومة الحكومية الإيرانية، إلا أن الملك السعودي ووزرائه لم ينسوا أبام الشاه محمد رضا بهلوي في إيران الذي تمتع بوصفه أعظم أصدقاء أمريكا في المنطقة.
يقول ريتشارد دبليو ميرفي، السفير الأمريكي المتقاعد الذي قضى عقوداً من حياته في الشرق الأوسط: “يشعر السعوديون بأنهم محاطون بدائرة من النفوذ الإيراني – في العراق وفي سوريا وفي لبنان وفي البحرين. إنها حالة ذهنية يصعب التعامل معها، فهي خصومة ذات جذور طانبة، عداء دموي يعتمل في القرن الحادي والعشرين.”
مترجم من النيويورك تايمز