تحولات كبرى تلك التي تمر بها الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، بدءًا من ثورة الإنترنت والتكنولوجيا، وحتى الهجرات المستمرة والتنوع العرقي غير المسبوق والانخفاض في مستوى الالتزام الديني وقبول المثلية الجنسية على نطاق أوسع من ذي قبل وغيرها الكثير، ففي نيويورك مثلًا يشكل المولودون خارج أمريكا حاليًا 40% من السكان، وهي نفس النسبة تقريبًا في لوس أنجلوس، بل وتصل إلى 58% في ميامي، ومن ناحية أخرى يقود الأزواج غير المتزوجين رسميًا غالبية البيوت الأمريكية، كما أن 40% من البيوت في المدن الكبرى يعولها شخص واحد لا اثنان، أضف لذلك أن عدد العلمانيين أو غير المنتمين لدين محدد قد فاقوا لأول مرة معتنقي المسيحية البروتستانتية.
هو مجتمع أمريكي أكثر تعددية ثقافيًا ولغويًا مما كان سابقًا، وأكثر قبولًا لكافة الأنماط الاجتماعية التي اعتبرها الجيل السابق مخالفة للدين، وأقل ارتباطًا بأي دين بشكل عام، وهو أمر ينعكس بالطبع على السياسة، والتي شهدت ظهور “أغلبية جديدة” من تلك الأقليات العرقية الكبيرة، والنساء المعيلات، واللادينيين إن جازت تسميتهم كذلك، وغيرهم، وهي أغلبية شكلت 51% من أصوات الناخبين في انتخابات عام 2012 ذهبت لباراك أوباما، كما تشير إحصائيات عدة أنهم قد يشكلوا فعليًا 63% (بالنظر لعدم مشاركة كل فرد منهم بالضرورة في التصويت،) علاوة على أن بعضهم كما نرى الآن يرى في هيلاري كلينتون عقلية قديمة ومحافظة نسبيًا، وهو ما يفسر صعود اسم برني ساندرز وإن كانت حظوظه ضعيفة، إلا أن مجرد وجوده على الساحة الأمريكية بأفكاره تلك يُعَد جزءًا من الثورة الاجتماعية الحاصلة.
يعني هذا ببساطة أن الحزب الجمهوري يعاني من مأزق سياسي وانتخابي حقيقي، وأنه صار أصعب من أي وقت مضى فوزه بانتخابات رئاسية، فالحزب قد خسر في الانتخابات الستة الأخيرة أربعة منها، في حين كان فوز جورج بوش الابن باثنين منها بفارق ضئيل جدًا في فترته الأولى، وقد شهدت رئاسة جورج بوش بالتحديد دلائل كثيرة على استشعار تلك التغيرات داخل مؤسسات الحزب الجمهوري، والتي اتجهت نحو فكر محافظ جديد حشدت به كافة القطاعات المحافظة بكل ما أوتيت من قوة، والتي تضمنت معظم الأزواج المتزوجين رسميًا ودينيًا، والشرائح الأكثر تدينًا في البلاد، وكذلك القطاعات الريفية المحافظة بطبيعتها على عكس مجتمع المدينة الأكثر اختلاطًا عرقيًا وجنسيًا، بل ومحاولة الوصول إلى قطاعات مسيحية جديدة كالإنجيليين.
تجمع لأنصار المرشح الديمقراطي برني ساندرز
بينما انكب الجمهوريون بنَهَم على حشد أية شريحة محافظة في وجه تلك “الأغلبية الأمريكية الجديدة”، كان من ضمنها مجموعات استدعوها لأول مرة، وربما كانت أفكارها محافظة أكثر من اللازم مقارنة بالأيديولوجية التقليدية للحزب الجمهوري، وقد كانت تلك الشرائح سابقًا غير مسيّسة، وبعيدة عن التيار الرئيسي الأمريكي نسبيًا بشكل عزلها في الريف والولايات المحافظة، وهي علاوة على ذلك لم تكن بالضرورة منتمية للأجندة التقليدية للحزب، والتي عادة ما تهتم بتقليص دور الدولة في الاقتصاد وتخفيض الضرائب، فبإمكاننا القول أن الجمهوريين نحوا أجندتهم جانبًا جزئيًا من أجل هدفهم الجديد، وهو توسيع قواعدهم الانتخابية خارج نطاقها التقليدي.
بالإضافة لهؤلاء، ظهرت مؤخرًا شريحة جديدة، لا سيما بعد الأزمة المالية عام 2008، وهي شريحة من المحافظين اجتماعيًا والبيض في غالبهم ومن هم في منتصف أعمارهم وينتمون للطبقة الوسطى ولم تتحسن أحوالهم المالية بشكل مطرد كما تعودوا في الاقتصاد الأمريكي، وهم يتسمون بعقلية قومية نوعًا ما مستاءة أولًا من نفس التحولات الاجتماعية المذكورة، لا سيما شعورهم بأنهم كذوي بشرة بيضاء صاروا منبوذين نوعًا ما فيما يعتبرونه بلدهم الأصلي، وانعدام ثقتهم في مؤسسات الدولة الأمريكية أثناء رئاسة أوباما، وحنينهم إلى أمريكا القديمة التي انتموا لها أكثر، وحصلوا منها في نفس الوقت على رواتب أكبر ومعيشة أفضل.
لا يجدر بنا أن نسمي هؤلاء محافظين بالمعنى التقليدي الذي مثله الحزب الجمهوري، فهُم ليسوا من أعداء فكرة امتلاك الدولة لدور فعال في الاقتصاد مثلًا أو لفكرة الضرائب أو الخدمات العامة، بل هم في الحقيقة حريصون على تأمينهم الصحي ومعاشهم وغيرها من مميزات “دولة الرفاهة،” وهي مميزات يهددها صعود المهاجرين الذين يأكلون من نصيبهم في خدمات الدولة، كما حدث مع “أوباماكير،” والذي لم يعدو ببساطة كونه برنامجًا لتقليص نفقات برنامج ميديكير التقليدي، واستخراج 500 مليار دولار منه لصالح برنامج جديد لصالح الشرائح التي لا تتمتع بتأمين صحي، وهي شرائح شكل 20% منها أشخاص لسوا مواطنين للولايات المتحدة اًصلًا، و27% مواطنون مولودون بالخارج، أي أن نصف المستفيدين من أوباماكير على حساب المؤمّنين صحيًا كانوا “أجانب” في نظرهم.
هذه الشريحة من “الغاضبين البيض” إن جاز القول، والحانقين بالأساس على المهاجرين، بالإضافة إلى المجموعات الجديدة المنضمة لقواعد الحزب الجمهوري من الريف والمسيحيين الجدد، شكلت قاعدة كبيرة وجديدة للحزب الجمهوري غير مرتبطة بأجندته التقليدية، وهو ما خلق لوقت قصير نوعًا من الإحباط من ناحيتها تجاه الحزب الذي اعتبرته في لحظات عدة منتميًا للسياسة التقليدية الأمريكية وغير قادر على التعبير عن آمالها، مما أدى لظهور حركة حزب الشاي على الساحة.
حزب الشاي ومأزق الجمهوريين
تظاهرة لمعارضي برنامج أوباماكير
ظهر حزب الشاي في الأعوام السبعة الأخيرة، وكان الجمهوريون في البداية يظنونه مجرد صورة محافظة أكثر من أفكارهم التقليدية، لكن ظنونهم لم تكن في محلها، ففي إحدى الدراسات التي أجرتها أستاذة العلوم السياسية بجامعة هارفرد، ثيدا سكوكبول، فإن “أنصار حزب الشاي لا ينظرون للبرامج السياسية من حيث اتفاقها مع أفكار السوق الحر من عدمه، ولكن من حيث أحقية المستفيدين منها، والفرق بين العاملين والعاطلين هنا محوري جدًا بالنسبة لهم،” فالمثال الأشهر وهو اعتراضهم على أوباماكير لم يكن اعتراضًا على دور الدولة في الاقتصاد، ولكن اعتراض على تخصيصها جزءًا من الضرائب لغير المؤمَّنين، باعتبارهم “غير مستحقين” لذلك التأمين الصحي.
لم يدرك الحزب الجمهوري في البداية رسالة ظهور حزب الشاي، وظن أن الضربة القاضية ستكون التمسك بالأفكار الجمهورية التقليدية لكسب هؤلاء، وهو ما حدث بالفعل بترشيح ميت رومني أمام أوباما بأيديولوجيته المحافظة الكلاسيكية التي أكدت على حرية التجارة وتخفيض الضرائب وعدم تدخل الدولة في السوق وغيرها، لكن هذه القواعد الجمهورية الجديدة لم يعجبها ما قدمه رومني، ليخسر في النهاية أمام أوباما في نوع من المفاجأة للحزب الجمهوري الذي كان واثقًا من فوزه.
استمرت تلك القواعد في لعب دورها السياسي الجديد، والذي وصل لأوجه في صيف 2014 حين خسر قائد الجمهوريين بمجلس النواب، إريك كانتور، أمام ديف برات أستاذ الاقتصاد المسيحي والمعبر عن هذه القواعد الجديدة، والتي علا صوتها مرات ومرات خلال فترة أوباما الثانية بالهزائم التي ألحقتها بالشخصيات التقليدية التي رشحها الحزب الجمهوري مقابل تصويتها لصالح مرشحي حزب الشاي وفوز الأخير بالتالي في ولايات عدة بانتخابات مختلفة دون أن تعتبر أي من قيادات الحزب الجمهوري، إلا أن هزيمة كانتور أحد الجمهوريين البارزين في الحزب كان جرس إنذار كافي على ما يبدو، وهو ما دفع بالبعض إلى النظر للانتخابات الرئاسية، وضرورة اختيار مرشح يجذب الناخب “الأبيض الغاضب” والناخب “المحافظ المسيّس حديثًا.”
في هذه الأثناء ظهر دونالد ترامب، وكان هو المرشح المجنون في البداية كما رآه الجميع، والذي يستحيل أن يمثل الحزب الجمهوري مهما كان، لتتفرق إذن قيادات الحزب بالأساس بين جِب بوش وماركو روبيو وتِد كروز، بين المتمسكين بالخط الجمهوري التقليدي الممثل في بوش، والراغبين ربما في استيعاب جزء من رسالة حزب الشاي داخل برنامج روبيو أو كروز لكسب رضا القواعد الجديدة، بيد أن الديمقراطية التي تسير بها العملية الانتخابية للوصول لمرشح جمهوري، علاوة على معركة رأس المال والذي يملك منه ترامب الكثير، سارت عكس ما تشتهي قيادات الجمهوريين، وأوصلت ترامب إلى القمة.
شعار حملة ترامب الرئاسية: لنبني عظمة أمريكا من جديد
حتى الآن، حصل ترامب على أكثر من ثلث أصوات القواعد الجمهورية كافة في الولايات التي جرى فيها الاقتراع الأولى لاختيار المرشح الجمهوري، ويعتقد كثيرون أنه سيمضي حتى النهاية، ومقومات استمراره كما ناقشنا موجودة بالفعل، فمن يصوتون له إما ناخبون محافظون غاضبون سأموا من الأجندة التقليدية للجمهوريين، أو ناخبون جدد لم ينتخبوا من قبل حشدهم للمفارقة الحزب الجمهوري خلال السنوات السابقة ليدخلوا عالم السياسة بوجه انحدار الحزب، دون أن يدرك أنه قد لا يتمكن من السيطرة عليهم، أو ربما ناخبون يصوتون للجمهوريين لأول مرة بعد أن صوتوا مرات عديدة سابقًا لحزب الشاي.
“لا تكترثوا كثيرًا بالمسميات، فما كان يومًا هو حزب الشاي أصبح اليوم الحزب الجمهوري،” هكذا تقول ثيدا سكوكبول صاحبة الدراسة المذكورة أنفًا عن أنصار حزب الشاي، وهو ما يؤكده أستاذ آخر من جامعة واشنطن، كريستوفر باركر، “حتى ولم تعد تلك القواعد من الناخبين مرتبطة بحزب الشاي، فإنها لا تزال حاضرة على الساحة، وإذا نظرت بتمعن إلى التصرفات المعادية للمنظومة الأمريكية من ممثلي الحزب الجمهوري، ستجد أنها تتناسب طردًا مع حجم المجموعات التي لم تعد تؤيد حزب الشاي، ولكنها لم تتخلى عن أفكارها.”
اليمين الشعبوي ظاهرة غربية عامة
في الحقيقة تُظهر الإحصاءات بالفعل أن القواعد المحافظة التي تقف خلف ترامب تأتي في معظمها من تلك القواعد الجديدة والغاضبة البيضاء والريفية، فنصف أنصار ترامب داخل الحزب الجمهوري لم يكملوا تعليمهم بعد المدرسة الثانوية طبقًا لإحدى الاستطلاعات، كما أن 19% منهم فقط حاصلين على درجة جامعية أو ما بعدها، في حين يحصل ثلثهم تقريبًا على أقل من 50،000 دولارسنويًا، وهو ما لا يتفق بالضرورة مع الصورة القديمة عن الحزب الجمهوري باعتباره الحزب المفضل لدى الأغنياء، أضف لذلك أن 63% من أنصار ترامب من المطالبين بإلغاء الحصول التلقائي على الجنسية لمن يولد على أرض أمريكا وإن لم يكن أبواه أمريكيَّين، وهي نسبة أعلى كثيرًا حتى من الجمهوريين التقليديين، كما أن 66% منهم يعتقدون أن أوباما مسلم بالفعل (!) في تجلي واضح لتشكك تلك القطاعات في الحزب الديمقراطي عامة، وارتباطاته الحالية بمصالح المهاجرين والأقليات والموجة الاجتماعية الجديدة الأكثر تحررًا وابتعادًا عن الدين.
للمفارقة هي موجة “شعبوية” ولكن يمينية، على غرار تلك التي تقودها مارين لو بِن في فرنسا وحركة استقلال بريطانيا في إنجلترا وغيرها من حركات يمينية لكن شعبوية لا رأسمالية محافظة في البلدان الغربية، كما أن أنصار تلك الحركات مهمومون، لا بالسوق الحر، ولكن بأمنهم الاقتصادي والاجتماعي، فبلدانهم لم تعد تدر نفس الدخول كما كانت سابقًا نتيجة ظهور اقتصادات كبرى كالصين والهند على مسرح الاقتصاد العالمي ومقاسمتهما أوروبا والولايات المتحدة لكعكة النمو العالمي، وبالتالي فإن استمرار موجة المهاجرين لأوروبا وأمريكا كما كان في الماضي يعني إمكانية تشكيلهم منافسة لمواطني تلك الدول على خدماتها أكثر من ذي قبل.
قواعد اليمين الشعبوي تلك إذن تخشى أن يسلبهم المهاجرين قوت يومهم وينافسوهم في “السوق الحر،” وهو ما يجعلهم في الحقيقة أحيانًا باحثين عن بعض ملاذ في الدولة التقليدية القومية من مجتمع رأسمالي ومفتوح للمهاجرين، وبالتالي أكثر ميلًا للأفكار القومية، كما أن الكثير منهم من الطبقات الوسطى القديمة لا العُليا، وخدمات تلك الدولة بالنسبة لهم من حقهم لأنهم فرنسيون أو بريطانيون أو أمريكيون، “أما هؤلاء القادمون عبر البحر، أو عبر المكسيك، أو غيرها، فليسوا منتمين لتلك الدولة ولا يحق لهم مشاركتنا في قوت يومنا،” كما يقولون.
لا نعرف بالطبع ما ستؤدي له الأحداث في نهاية المطاف، فالأغلبية الأمريكية الجديدة قد تنتصر مجددًا بوقوفها خلف كلينتون، خاصة إن واجهت خطر وصول ترامب للرئاسة، وهو خطر قد يتيح لكلينتون حشد أكبر عدد ممكن من تلك الأغلبية الأمريكية، غير أن وصول ترامب للبيت الأبيض يظل احتمالًا قويًا ومنطقيًا، على عكس من يرونه أمرًا ساخرًا أو مجنونًا، فالديمقراطية في النهاية تتيح بسهولة انعكاس التحولات الاجتماعية على قمة الهرم السياسي، وهو ما قد يحدث بالفعل في الولايات المتحدة كما يحدث في أوروبا كلها الآن.
لقد امتلأ الحزب الجمهوري بصفوفه التقليدية بالكثير من التساؤلات مؤخرًا عن طبيعة التوائم مع المجتمع الأمريكي بتغيراته، والحفاظ على موقع الحزب في السياسة الأمريكية خلال القرن الواحد والعشرين، بيد أن قادة الحزب لم يتصوروا ربما أن الإجابة على سؤالهم، والقادمة من قطاعات جديدة حشدوها هم بأنفسهم قبل سنوات قليلة، قد لا تعجبهم بالضرورة، بل وقد لا يتمكنوا من السيطرة عليها بالكامل داخل أروقة الحزب كما يحدث الآن، وهو ما قد يؤدي ببساطة إلى احتمالية قوية لوصول ترامب للبيت الأبيض، واحتمالية أقوى كثيرًا أن يستمر بقواعده كعامود جديد للحزب الجمهوري خلال العقود المقبلة.
*من المصادر: ذا أطلانتك وصحيفة واشنطن بوست