يُفتح باب الجناح الأول فجأةً، يتدافع كل من في مهاجع الجناح “آ” العشرة نحو الزاوية المعتمة المقابلة للباب في كل مهجع.
دخل الجلادون وقد اصطحبوا معهم شاويش المهجع الرابع، الذي كان قد خرج قبل برهة إليهم، كان شابًا عشرينيًا اختاروه ليكون شاويش المهجع (رئيس المهجع)، أو الأسم السوقي “عر.. المهجع” الذي يطلقه السجانون في صيدنايا الأحمر عادة على رؤساء المهاجع.
سجن صيدنايا
كانت إدارة السجن تنجح في حالات قليلة لحسن الظن في إغراء بعض رؤساء المهاجع، ومنهم رئيس المهجع الرابع للتعاون معها مقابل أن يكون – فيما عدا بعض اللطم والركل والرفس – في منأى عن سياطهم وشديد سطوتهم وغدرهم، فيما يعيش نفسه حياة الصيدناويين بكل آلامها وجراحها، بكل وجعها وجوعها ومرضها وعريّها وبردها.. وموتها.
يتهامس المعتقلون فيما بينهم..
“وصلوا إلى مهجعنا.. الكل جاثيًا..
جلس مقعدتك وشد ظهرك..
إيديك على عيونك..
اخرج من الحمام بسرعة وخذ مكانك”.
يدور مفتاح المهجع في مكانه مرتين وتفتح مع الباب طاقة من الجحيم تلفح فيحٌ منه ما بقي من حياةٍ في أجسادهم المتهالكة، وينبئهم بموت آخر سيزور مكانهم هذا اليوم أيضًا.
تتسارع تمتمات ألسنتهم بالدعاء، يروم أحدهم لو يطوف بالقرآن الكريم كله في لحظات تختصر كل ألم الاعتقال، يتجاذبون فيما بينهم ما علق من ذاكرتهم من مأثور الأذكار وكل ما يمكنه أن يشد من أزرهم ، يُدارون بقدرة الله وقدره قدرًا من الموت والعسف نازلًا لا محالة بين لحظتي فتح باب المهجع وإغلاقه.
“شاويش.. مابدي أسمع ولاهمس” يصيح السجان.
“حاضر سيدي” يجيب الشاويش بعد أن يُدفع بين الجثاة إلى الجدار برفسة حاقدة.
يغادر اللُئام إلى رجعة قريبة، يقف الجميع على أقدامهم، ثم ينكبون في عرس لحظي من أعراس صيدنايا العابرة ، هذا يعانق أخاه فرحًا أن عدّاه الموت هذه المرة، وذاك الذي يسجد لله سجدة شكر لأنه لم يكن ضمن دائرة الاستهداف العشوائي للمجرمين رغم كونه في النسق الأخير من الجثاة، وآخر يعيد بخرقة قذرة ربط ركبته المتقرحة دمًا وصديدًا وقد أرغمها أن تحمل بقية جسده جاثيًا إلى الجدار.. وآخر وآخر… حياة مؤقتة ثم عودة إلى انتظار الموت.
أدرك الجميع منذ زمن أن ثمة رابط بين خروج الشاويش المتكرر من المهجع، وافتراءاته اليومية على بعض زملائه وابتزازهم بمكتسباتهم النادرة في السجن واقتران عودته بعودة تالية للجلادين لاقتطاف حياة واحدة من السجناء، فتجهزوا لذلك وأخفى من كان يصلي منهم عنه صلاته، وغيب من كان يناصر الثورة ويدعو للأبطال في خارج السجن عنهم حديثه وتحليلاته، ثم اتفقوا وتواصوا فيما بينهم أن يوهموا الشاويش الذي كان حديث عهدٍ بمهجعهم بأسماء مزيفة لهم، حتى إذا نودوا بها علموا إنما نودوا لوشاية واستعدوا لما بعد ذلك، وإذا نودوا بأسمائهم فثمة زيارة أو خروج إلى الإعدام أو نقل إلى جحيم آخر.
دخل السجان ممر الجناح، صاح على أبي ناصر باسمه الآخر مصطفى، ركض مصطفى إلى وسط المهجع جاثيًا وصاح “حاضر سيدي”، ثم نادى السجان على المعاقبين اليوميين من كل مهجع، وهم يُختارون من قِبل كل شاويش بالترتيب، ثم يختار لكل واحد منهم تهمة وهمية؛ فواحد همس في أذن صديقه وآخر تجاوز خط الحمام وثالث اقترب من باب المهجع ورابع غفى في النهار وخامس استيقظ في الليل.
خرج السجان من الجناح فتراكض الجميع نحو أبي ناصر والمعاقبين معه، يحاولون جهدهم أن يرفعوا من معنوياتهم وأن يبثوا فيهم مزيد من الثبات والعزيمة والأمل، كان أبو ناصر يرتعد خوفًا وهو ينتظر مجهولًا لا يجهله الصيدناويون بل يتجاهلونه بالأمل الذي تحييه في كل حينٍ أصوات بنادق الثوار الممزوجة بزقزقات العصافير على تخوم التلة اللعينة.
“طول بالك أبو ناصر.. شد حيلك وخليك قوي.. عرضية إن شاء الله” همس أحدهم في أذنه، كان أن أبو ناصر يعاني من ارتعاش شديد وحرارة مرتفعة أعقبتا حزنه الكبير على فراق ابن قريته ورفيق صباه خالد الذي قضى في الليلة الماضية متأثرًا بجراحه التي خلفتها سياط المجرمين التي استقرت ثلاث قاضيات منها في جبهته التي لم يعرفها أهل القرية إلا في طليعة تظاهرات الجمعة مطلع الثورة، فيما أُجهز على عمار رفيق محنته وسجنه برد الليلة الماضية، وإغراق المهجع من قِبل السجانين بالماء البارد في ليلة من أشد ليالي برد كانون الثاني، حيث لفظ أنفاسه الأخيرة بين رفقاء الدرب الممددين معه عراة على البلاط الجامد المبلل.
“تفاءل بالخير أبو ناصر” صاح آخر.
“أتفاءل؟! اضحك على حالي؟ كل واحد عم يتعاقب إما عم يموت بين إيديهم، أو بعد قليل من أثر العذاب الشديد” رد أبو ناصر بحزن يخالطه رعب شديد.
عاد الجلادون أدراجهم يرافقهم السخرة – مجموعة من المجندين المعاقبين يتم اختيارهم من سجن الجنايات العسكرية صيدنايا الأبيض (القائم أسفل التلة التي يقوم عليها البناء الأحمر)، ليقوموا بأعمال توزيع الطعام وتنظيف ممرات السجن الأحمر – وبخطوات سريعة كانت تطرق آذان جميع السجناء الذين عادوا جثاة إلى الجدار، تم توزيع قصعات الطعام على أبواب المهاجع؛ قصعة رز تحوي قدر 15 ملعقة مخلوطة بمرق البندورة وبرتقالة أو نصف برتقالة، وثلاث بيضات وحبة بطاطا، إضافة إلى ملعقتي حلاوة أو مربى بين الفينة والأخرى، أو هيكل عظمي لدجاجة نحيلة تزور المهجع مرة في الشهر، وأربع ربطات خبز بنكهة “المازوت”، أحيانًا كل هذا هو قوام وجبة يومية يتيمة لما يقارب الثلاثين سجينًا في المهجع الواحد، قد يحرمون منها ليومين أو ثلاثة إذا أراد السجانون أن يوجدوا لهم ذنبًا ويعاقبوهم على اقترافه.
غادر الجلادون والسخرة مجددًا، قفز مسؤول توزيع الطعام والشاويش إلى الشبك المعدني حاولو أن يتلصصوا، علهم يأتوا ببشرى للبقية بأن وفرةً ما في الطعام أو أن هناك لقيمات من الحلاوة.
فجأة يعاود الجلادون الدخول إلى الجناح يعود الجميع إلى الزاوية، ثم يصيح السجان المناوب “يلي ذكرت أسماءهم والمعاقبين عاري ولنص المهجع”.
رؤساء المهاجع بصوت مرتفع: حاضر سيدي.
يرد السجان: “رئيس المهجع يلي بقول ما في معاقبين بنزل هوه محلهم، بدي ثلاثة على الأقل من كل مهجع”.
رؤساء المهاجع: حاضر سيدي.
سراعًا يقفز أبو ناصر والمعاقبون الثلاثة سمير وزياد ومحمد إلى الوسط الخالي من المهجع.
يفتح الجلادون الباب، يدفع السخرة قصعات الطعام ثم يبدأ الجلادون بسفح القصعات على الأرض القذرة وعلى أجساد المعاقبين في وسط المهجع.
يسأل الجلادون: أين مصطفى (أبو ناصر)؟ فيجيب: حاضر سيدي.
يسألون الشاويش الراكع في الطرف الآخر من المهجع باتجاه المساجين المعاقبين وبعيدًا عنهم “شو عاملين هدول العر.. يا ابن الشر.. “، يبدأ الشاويش بسرد التهم المؤلفة لهم والمتفق عليها بينه وبينهم.
ثم تبدأ الحفلة السوداء، يُدفع بسمير نحو طرف الجدار، يجبر على وضع رأسه على “النعلة” يتلفظ بالشهادتين، فهو يدرك تمامًا إلى ما يرمي المجرمون، فقد قضى بهذه التسلية المحببة لهؤلاء الذئاب العشرات قبله على مسمع منه وممن معه، يسحق السجان رأس سمير بهرسه بين حافة “النعلة” والبسطار، يرتقي سمير شهيدًا.
يسحب جلاد آخر زياد إلى المرحاض وسط ضرب وحشي ثم يمرغ رأسه في قاعها، فيما يتهادى محمد بين الموت والحياة بعدما أوسعوا رأسه ضربًا بقشاط الدبابة تارة وأخرى بما يسمونه “بالأخضر الإبراهيمي” وهو عبارة عن عصا بلاستيكية خضراء اللون تستخدم في تمديدات المياه، شديدة الإيلام والإيذاء وكثيرًا ما تفضي إلى تهتك في النسج العظمية والعضلية ونزيف داخلي يفضي إلى الموت.
التفت السجان المناوب إلى أبي ناصر سأله عن اسمه الكامل ثم قال له: “سأسألك عن اسم إذا صدقت نجوت وإذا كذبت أنت بتعرف النتيجة”.
أجاب أبو ناصر: “اسألني”.
“وين كنت مسجونًا سابقًا قبل الأزمة؟” سأل السجان.
“هون بصيدنايا” أجاب أبو ناصر.
السجان: ما تهمتك؟
أبو ناصر: تهريب.
السجان: تهريب شو؟
أبو ناصر: تهريب أشخاص.
السجان: قصدك تهريب مجاهدين إلى العراق
ثم التفت السجان إلى بقية المعتقلين وسألهم: مين منكم بيعرف هالمعلومة الأمنية الخطيرة وكان مخبيها علينا؟
لم يكن لدى إدارة السجن العسكري الأول أي معرفة بتفاصيل تهم النزلاء ولا بأضابيرهم وملفاتهم التي بقيت بين رفوف المحاكم الميدانية والفرع الأمني الذي أوقف كلًا منهم، لكن الشاويش نقل للإدارة حديثًا كان يدور بين أبي ناصر ومجموعته القادمة معه من فرع فلسطين عن اعتقاله الأول وظروف صيدنايا قبل الثورة وأعاد الحديث لهم عن تهمته ودوره في نقل “المجاهدين” إلى العراق إبان الغزو الأمريكي للعراق، أطرق أبو راتب أحد أفراد مجموعة أبو ناصر وقال في نفسه “نحنا انتهينا بعد قليل سينادي على أولاد دعوته وأبناء قريته ليخرجوا إلى وسط المهجع”، عاد السجان وكرر “يلي كان بيعرف وساكت يحيكي وعليه الأمان”.
قرر أبو راتب أن يخرج عن صمته بعد أن شعر أن النداء الآتي سيكون لأبناء دعوة أبي ناصر للخروج إلى وسط المهجع، رفع أبو راتب يده ومعه صديق آخر، صاح السجان “اتنين شرفاء من كل المهجع؟ بدكم تقنعوني أنو بس اتنين بيعرفوا؟”، ثم نادى الشاويش قائلًا له “مين بقعد مع جماعة فرع فلسطين”، ثم صاح بالمعتقلين “جماعة فرع فلسطين لنص المهجع”، ثم بدأت حفلة سوداء دامية أخرى، ضُرب أبو راتب رغم الأمان الذي أعطي له، بعنف على قفا رأسه بقشاط الدبابة وقع بعدما كان جاثيًا، أمره المجرمون أن يعود جاثيًا ثم كرروا الضرب في ذات المكان، دخل أبو راتب في غيبوبة ليجد نفسه بعد 6 ساعات مرميًا في الحمام وقد فقد ذاكرته تمامًا.
أمسك البقية بأبي راتب كي لا يصدر أي صوت، فقد أصبح بالمصطلح الصيدناوي “فاصل” ثم أعلمه زملاؤه أنه معاقب في الحمام ومحروم من الأكل والشرب لمدة ثلاثة أيام.
استعاد أبو راتب وعيه بعد ثلاثة أيام وكان يشعر أن ثمة كسرًا في ظهره وجروحًا غائرة في رأسه ووجهه، سأل عن أبي ناصر، فقال السجناء له إنه نُقل إلى مكان آخر، أدرك أبو راتب أن أبا ناصر ما يزال في صيدنايا، كونهم أبناء دعوة واحدة، فلو أرادوا نقله لنقلوه معه ولو أرادوا تنفيذ حكم الإعدام فيه لنفذوه فيه أيضًا.
دخل الجناح “آ” 300 معتقل من معتقلي الثورة نهاية شتاء العام 2014، قضى ثلثهم حتفه خلال شهرين من تاريخ دخولهم نتيجة الإعدامات اليومية، أو بسبب المجاعة، أو نتيجة البرد وعقوبات الماء، أو بسبب الأمراض الفتاكة وانعدام الرعاية الصحية.
كان المعتقلون يستيقظون على نداء السجان فجرًا “مين عندك فطسان ولااا”، فيجيب كل شاويش برقم مهجعه، وريثما يأتي السجان بالمفاتيح يكون السجناء قد صلوا على السجين صلاة الجنازة ثم جردوه من ثيابه ، وألبسوه شيئًا رقيقًا يستر عورته، وأعطو ثيابه لحي منهم فتت البرد القارص عظمه.
استعاد أبو راتب قليلًا من صحته بعدما غالب وهن جسمه ببعض السير بين طرفي المهجع في أوقات خلو الجناح من الجلادين، فيما يواجه ومن معه جوعًا مروعًا وانقطاعات للمياه قد تتجاوز الأيام الأربعة أحيانًا.
تُختزل حياة السجين في صيدنايا خلال أيامه المتشابهة الطويلة، إلى مغازلة لأصناف الطعام والمأكولات عبر استجرارها من الذاكرة ولوكها بين ثنايا اللعاب والأسنان، وتعلم فنون الطبخ وصناعة الحلويات والأجبان والألبان خلال مطابخ شيدها في خياله كل سجين، فيما ينتقل السجين بعد أن يُشبع شهوته للطعام افتراضيًا أو وهميًا إلى تحليل كل ما سمعه أو رآه في نومه أو يقظته ليجره صوب الأمل بالحرية والفرج القريب، فتغيير في نوع المسبات والشتائم إلى درجة أقل في السوقية ولو نسبيًا يعني للسجناء أن ثمة عفوًا قادمًا يلوح في الأفق وأن المعارضة قد وضعت نصب عينها ملف المعتقلين وهي تنادي بقضيتهم في كل محفل ومؤتمر، ولقيمات تزيد في طعام المعتقلين تعني لهم أن المفاوضات تمضي قدمًا نحو الإفراج عنهم وأن زيارة قريبة للجان الدولية الحقوقية ستجري للسجن، فيما يستبشر الكثير منهم رغم المجاعة الشديدة من تقليل كمية الطعام لأنها تشير في محاكمات الصيدناويين الخاصة إلى النظام وعدم قدرته على تزويد السجن بتعيينات السجناء (مستحقاتهم من الطعام)، وعندما يُحرم السجناء من الأكل ليومين، فإنهم يتداولون فيما بينهم حديثًا عن هجوم الثوار على سيارة السجن التي تحمل الطعام إليه، وقطع الطريق الواصل بين دمشق وصيدنايا.
تُختزل الحرية عند سجناء صيدنايا لتعرّف بأنها الخروج إلى السجون المدنية عصمة من العذاب أو الموت في صيدنايا.
فيما يكون همُّ الكثيرين وشغلهم الشاغل سبر أغوار ذاكرة رفقائهم، علّهم يستزيدون من علمٍ مخبوء في عقل أحد منهم أو سور من القرآن يضيفونها لباقتهم التي جمعوها ممن صادفوه خلال رحلة السجن الطويلة، لتغدوا أيام الكثيرين مشغولة بالقرآن وبإسقاط الآيات المرتبطة بالمحن والصبر وحسن الظن بالله والتوكل عليه، على كل تفصيلة من تفاصيل المواقف التي تدهم ليلهم ونهارهم وتحفر جراحًا غائرة في نفوسهم ترافقهم فيما تبقى لهم من حياة.
في صبيحة يوم ربيعي دافئ، استيقظ أبو راتب فجرًا على حلم غريب، فرأى أنه يغتسل من سواد يملأ جسده ويمضي هذا السواد مع الماء بعيدًا، سأل أبا محمود – من يؤول للمساجين أحلامهم ويزرع في روعهم أحلامًا جديدة بالفرج والحرية -، قال له أبو محمود أنه سيمضي صوب الحرية قريبًا وأن فرج الله قد يلامس عذاب روحه التي أتعبتها رحلة السجن المريرة.
بعد ساعات قليلة دخل الطعام ثم نادى السجان على أبي راتب وأولاد قضيته: “كل واحد طلع أسمو يطمش حالو بالكنزة ويطلع لعندي ولاااا أخو الشر”، لم يكن يومًا للزيارات وكان أبو راتب ومن معه على يقين أنهم على موعد مع الموت شنقًا، اُستقبلوا من السجانين بضرب شديد.. ثم اُقتيدوا إلى غرفة الزيارات والموتى، الغرفة التي انتظر فيها أبو راتب طويلًا قبل أن يخرج لرؤية أمه التي أتت لزيارته لمدة ثلاث دقائق في يوم من الأيام، حيث كان المجرمون يجمعونهم والمرضى المحالين إلى مشفى تشرين العسكري والشهداء الذين يتم ترحيلهم إلى المشفى ذاته أيضًا.
في غرفة الزيارات لمح أبو راتب خيال أبي ناصر، بادره خلسة بالسؤال عن إن كان هو أبو ناصر، ليتمكن الرجلان بصعوبة من تذكر بعضهما، إنه أبو ناصر وقد اعتراه نحول شديد لا يزيد عليه إلا نحول أبي راتب الذي كان مصابًا بجفاف وإسهال حادين.
اُقتيد الجميع إلى غرفة الأمانات سلمهم المساعد أماناتهم وأعلمهم أن “السيد الرئيس” قد أعفى عنهم رغم أنهم إرهابيون لا يستحقون عفوه، تحسنت المعاملة بشكل مفاجئ ثم اقتيدوا إلى باص صغير، ليركب معهم مساعد آخر فيأمرهم بدفع غرامة مالية للسجن 1200 ليرة سورية لكل منهم، ثم ليتكلم معهم عن مكرمة “السيد الرئيس” وبأن عليهم أن يعيشوا الحياة الجميلة الوادعة وأن يهجروا كل ما من شأنه أن يعرضهم للمسؤولية أمام النظام، ثم هبط الباص صوب أسفل تلة الموت عبر حاجز ثم آخر ثم وصل إلى البوابة، تفقد سريع وجدوا أنفسهم بعده خارج أسوار صيدنايا يصافحون في لحظات تختزل كل سعادة الدنيا الحرية من جديد.
كان أبو ناصر يحدثهم كثيرًا أنهم إن خرجوا يومًا ما، فإنهم سيخرجون إلى بلد غير البلد الذي تركوه وحفروه في ذاكرتهم ووجدانهم، وإلى أناس غير الذين عرفوهم وعاشوا معهم كل لحظات حزنهم وفرحهم، كان كل حديث أبي ناصر مجافاة فجة للحقيقة حيث لم يبق هناك بلد ولم يبق هناك ناس.
بقي السجن الذي يغالب حرية كل منهم ويحاصر أيامهم، حاضرهم ومستقبلهم، أنهم تركوا هناك المئات وربما الآلاف ممن يحسبون لأجل عذاباتهم وآلامهم كل لحظة جميلة يعيشونها في الحرية وكل لقمة هنية يأكلونها بين الأهل والأحباب، وكل دقيقة يضيعونها هباءً حيدًا عن درب أولئك الصامدين أو تقصيرًا في السعي في سبيل حريتهم.