احتضنت محافظة الحسكة في الشمالي الشرقي السوري اجتماعًا لمجموعة قوى كردية سورية في مدينة رميلان لإعلان ما أسموه اعتماد النظام الفيدرالي في المناطق التي تسيطر عليها الجماعات الكردية المسلحة في الشمال السوري.
وقد أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وهو أهم الفصائل الكردية المتواجدة على الأراضي السورية إقرار النظام الفيدرالي فيما يُطلق عليه “روج آفا – شمال سوريا”، كما أعلنوا الاتفاق على تشكيل مجلس تأسيسي للنظام ونظام رئاسي مشترك.
هذه المناطق التي يتحدث الأكراد عن فيدراليتها هي المقاطعات الثلاث، وأولها عين العرب “كوباني” في ريف حلب الشمالي، وعفرين الواقعة بريف حلب الغربي، والجزيرة بالحسكة، إضافة إلى تلك التي سيطرت عليها قوات سوريا الديمقراطية أخيرًا، خصوصا في محافظتي الحسكة شمال شرقي سوريا وحلب في الشمال.
تلك المساحة المقدرة بـ 400 كليومتر على طول الحدود السورية مع تركيا يسيطر عليها مسلحو وحدات حماية الشعب الكردية بعد أن عززوا سيطرتهم ونفوذهم في تلك المناطق من خلال نزاع مسلح مع تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” انتهى بطرد التنظيم من بعض المناطق السورية لصالح سيطرة الفصائل الكردية المسلحة التي سارعت بإعلان استقلال إدارة هذه المناطق.
هذه الخطوة التي تحدث الأكراد عنها منذ بزوغ نجمهم في الصراع السوري الممتد منذ قرابة 5 سنوات، أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط السورية والإقليمية والدولية، خاصة وأن القضية الكردية تعد خطًا أحمر للجارة تركيا التي منعت بكل ثقلها الدبلوماسي حضور الأكراد أو ممثلين عنهم في محادثات جنيف الأخيرة.
قام بهذه الخطوة حزب الاتحاد الديمقراطي وبعض القوى الكردية والعربية التي تدور في فلكه في هذه المناطق، بينما سارعت مجموعات عربية أخرى إلى تشكيل كيان منظم لرفض هذا الحراك الكردي في هذه المناطق، حيث أن أحزاب المجلس الوطني الكردي الممثلة في ائتلاف المعارضة السورية لم تشارك في هذا الاجتماع الفيدرالي.
تحرك يبعثر الأوراق من على طاولة جنيف
استبعاد تمثيل حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في مفاوضات جنيف، بجانب عدم الرضى ربما عما يجري هناك كانا دافعين ربما لدى المكون الكردي الأثقل لبعثرة الأوراق التي وضعت على طاولة جنيف في خطوة جريئة ستفتح اشتباك مع قضية الفدرلة والتقسيم بشكل أكثر جدية من قبل كافة القوى المعنية بالأزمة السورية.
سمى البعض هذا التحرك بإثبات الوجود من الجانب الكردي جراء تهميشه في المفاوضات الحالية لذلك لجأوا إلى مثل هذا الإعلان من طرف واحد، في ظل غياب أي قوة مسلحة في هذه المناطق قادرة على تغيير هذا الواقع في الوقت الحالي على الأقل أمام قدرة المسلحين الأكراد على جذب التعاطف والدعم الدولي لقواتهم التي نجحت في مواجهة داعش في نفس تلك المناطق.
هذه الخطوة أربكت الحسابات في جنيف وهو ما عبرت عنه واشنطن في تصريحات وزارة الخارجية الأميركية ردا على هذه المحاولة الكردية لإقامة منطقة حكم ذاتي في سوريا حيث أكدت إنها لن تعترف بمناطق للحكم الذاتي داخل سوريا وإنها تعمل من أجل دولة موحدة غير طائفية تحت قيادة مختلفة.
كما أكد المتحدث باسم الوزارة جون كيربي في تصريحاته: “لا نؤيد قيام مناطق ذات حكم ذاتي أو شبه مستقلة داخل سوريا”.
وتابع كيربي “ما نريده هو سوريا موحدة بكاملها بها حكومة لا يقودها بشار الأسد تستجيب لتطلعات الشعب السوري. سوريا كاملة موحدة غير طائفية.. هذا هو الهدف”، مشيرا إلى أن دولا أخرى تؤيد أيضا هذا الهدف.
فيما عارض أيضًا الائتلاف السوري الممثل للمعارضة السورية هذه الخطوة محذرًا من المشاريع الاستباقية التي تحاول بعض الأطراف فرضها على إرادة الشعب السوري، رافضًا تشكيل أي إدارات أو مناطق على هذه الشاكلة.
أما النظام السوري فلأول مرة يتفق مع المعارضة السورية ويصف هذه الخطوة الكردية بأنها ليست ذات قيمة أو جدوى.
محاولة استغلال المقترح الروسي الفيدرالي
هذا التحرك الكردي على خلفية مقترح روسي باعتماد النظام الفيدرالي في الحكم بسوريا، يوضح التقاط حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي المقترح بسرعة لمحاولة تطبيقه بسقف عالي يسمح بالمفاوضات فيما بعد على المناطق الكردية فقط.
حيث حرص الجانب الكردي على تقديم النظام بصورة غير عرقية في اجتماع الرميلان بدعوته أكثر من 150 ممثلا عن شمال سوريا، إضافة إلى الأحزاب الكردية الأساسية، لكنه من المعلوم جيدًا أن هذه القوى تسير في فلك قوة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ولا تمثل الشمال السوري ككل.
وكانت روسيا أعلنت في السابق على لسان وزارة الخارجية إن النظام الاتحادي يمكن أن يكون نموذجا محتملا في سوريا.
الخط الأحمر التركي
مثل هذه الخطوة تراها تركيا خطرًا داهمًا على أمنها القومي ووحدة أراضيها، حيث يرى مراقبون أن من شأنها أن تذكي النزعة الانفصالية لأكراد تركيا الذين يرون أن كيانات كردية مستقلة تنشأ في العراق ومن خلفها سوريا، ما سيعزز مطالبهم داخل تركيا.
وفي بداية محادثات جينف الأخيرة حرص الأتراك على عدم توجيه الدعوة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري للمشاركة في محادثات السلام وهددوا بالانسحاب إذا تمت الاستجابة للرغبة الروسية بدعوتهم.
حيث تعتبر تركيا الحزب الكردي السوري امتدادًا لحزب العمال الكردستاني المصنف ككيان إرهابي، والذي يشن تمردًا في جنوب شرق البلاد ويخوض حربًا ضد قوات الأمن التركية. وبدون شك ستثير هذه الخطوة لدمج ثلاث مناطق كردية متمتعة بالحكم الذاتي في شمال سوريا قلق تركيا التي تخشى أن يذكي نفوذ الأكراد في سوريا النزعة الانفصالية بين الأقلية الكردية التركية.
وفي تعليق على هذه التحرك الكردي الأخير، صرح مسؤول بوزارة الخارجية التركية لوكالة رويترز قائلًأ: إن بلاده تدعم وحدة سوريا وإن أي خطوات منفردة مثل إعلان اتحاد من جانب واحد باطلة. وأضاف المسؤول، الذي لم يكشف عن هويته، إن شكل الحكومة والهيكل الإداري في سوريا ستقرره كل قطاعات الشعب السوري في دستور جديد.
هذه الخطوة إذا ما سارت في اتجاه التنفيذ الفعلي فإن احتمالية رد الفعل التركي سوف تكون عنيفة بحسب محللين ومتابعين للشأن التركي، إذ أن الأمر يمثل حساسية لدى الحكومة التركية، ويعد أحد محددات التداخل في القضية السورية بالنسبة للأتراك.
وقد اتضح هذا الأمر في قصف قوات كردية في الشمال السوري من قبل الجيش التركي حينما حاولت القوات الكردية الاقتراب من المعابر الحدودية مع تركيا التي سيطرت عليها المعارضة السورية.
كما أن تركيا تعلم جيدًا أن ورقة الأكراد في سوريا مستغلة من بعض القوى الإقليمية للتلاعب بها ضد تركيا، حيث تدعم روسيا والولايات المتحدة الفصائل الكردية في سوريا في شبه إجماع نادر لم يحدث مع أي فصيل آخر، وهو أمر لا تستبعده تركيا في هذه الخطوة التي ربما قد تكون تمت بتنسيق مع الجانب الروسي.
كما توضح الشواهد التنسيق الأمني بين الوحدات الكردية المقاتلة التي ساندت قوات نظام الأسد لفترة طويلة، ثم انسحبت قوات الأسد من بعض المناطق لصالحها، لذا لا يستبعد البعض أن تكون هذه الخطوة بتنسيق مع النظام من جانب آخر رغم إظهاره الاعتراض عليها، والتي يمكن أن تكون تهديدًا وتحذيرًا صريحًا لتركيا.
بين طموحات الأكراد وواقع الأرض
لم يتوقف الأكراد في الشرق الأوسط عن مطالبتهم بدول مستقلة أو بأقاليم حكم ذاتي منذ عقود، لكن الأمر لم يكن خاضعًا للأمنيات أو الطموحات، وإنما لواقع الأرض والجغرافيا وإمكانيات هذه الأقاليم من حيث عناصر ومقومات البقاء التي كانت تحكم استمرار هذه المطالب من عدمها.
فلطالما طالب أكراد العراق بهذه الخطوة مئات المرات دون جدوى إلى أن نجحوا في في العام 1970بالتوافق على معاهدة سلام تمنح الاستقلال للأكراد، ولم يستطيع إقليم كردستان العراق التمتع بالحكم الذاتي إلا في العام 1979، ثم استقل الأقليم بصورة أكبر في العام 2005 ولكن ما تزال له روابط بحكومة بغداد غير خافية.
والحالة العراقية صمدت بسبب الديمغرافيا التي تحكم الأرض وكذلك الموارد النفطية، لذا كان الأمر واقعيًا أما بالنسبة للحالة السورية والخطوة الأخيرة فالأمر مختلف تمامًا.
الديمغرافيا الحالية لا تساعد الأكراد على إقامة مناطق حكم ذاتي في الأقاليم الثلاثة التي أعلنوها لأن المكون العربي حاضر وبقوة هناك وليست مناطق كردية خالصة، وما فرض من إدارة حالية ذاتية إنما أشبه بالاحتلال الكردي لهذه المناطق التي سيصعب تكريدها كما يتخيلون.
النقطة الأخرى التي تصعب الانفصال أو الفيدرالية هي مسألة ندرة الموارد في هذه الأقاليم وصعوبة استمرار القتال إلا بدعم دولي من أجل فرض الانفصال أو الاستقلال، وإذا ما تم التوافق على حل دولي لا يقبل الانفصال، فثمة صعوبة كبيرة لدى المكون الكردي للاستمرار في مطالبته.
وفي النهاية يمكن الحديث عن استغلال للظرف الإقليمي من قبل أكراد سوريا للنفوذ من خلال شقوق المعادلة الصعبة في سوريا لفرض مطالبهم بصورة ما، لكن الحالة الإقليمية قد تنقلب على هذه المطالب بصورة أخرى لم يحسب لها الأكراد السوريين حسابًا، حيث ستتدخل تركيا في المعادلة السورية بوجه آخر غير السابق، وربما يستدعي ذلك تفاهمات مع الجانب التركي من قبل القوى الدولية ستكون على حساب هذه المطالب الكردية بالفيدرالية أو التقسيم.