لا نعلم بالتفصيل ماذا جرى داخل أروقة الدولة التركية يوم حادث إسقاط الطائرة الروسية، وهل كان قرارًا سياسيًا تضمن الرئاسة والحكومة التركيتين، أم قرارًا عسكريًا صرفًا قام به الجيش وقياداته، إلا أن المؤكد هو أن القرار كان قصير النظر وأضر كثيرًا بموقف تركيا في الملف السوري نتيجة التوتر غير المسبوق، منذ الحرب الباردة ربما، الذي أحدثه في العلاقات التركية الروسية، في وقت باتت فيه موسكو هي اللاعب الرئيسي لأسباب كثيرة.
لقد بدا مبكرًا أن الدعم الأمريكي لقوى الثورة السورية خاليًا من أي حماس أو التزام، وأن واشنطن تفضل التنسيق مع موسكو، وأنها تركز الآن كافة جهودها على مواجهة داعش، وعدم الإصرار على رحيل الأسد، بشكل يجعل لها هامشًا واسعًا من المصالح المشتركة مع الروس، وهو ما يعني ببساطة أن أنقرة كان يجب أن تُبقي على قنواتها مفتوحة وعلاقاتها جيدة بالروس باعتبارهم الطرف الدولي المتحكم فعليًا بإيقاع العملية السياسية والعسكرية لما يدور.
ما حدث بالطبع هو العكس، فقد قامت تركيا بإسقاط طائرة روسية لم تكن الأولى ولا الأخيرة التي تخترق مجالها الجوي لوقت قصير، في محاولة لإرسال رسالة لحلفائها قبل خصومها مفادها أنها ضاقت ذرعًا بعدم أخذ مصالحها في الاعتبار، وللمفارقة فإن ما فعلته كان نوعًا ما استدعاءً للسياسة التركية القديمة المعروفة في الحرب الباردة، بتحفيز انحياز الأمريكيين لصالحها عن طريق افتعال أزمة مع الروس إو إظهار خطورتهم على أمنها، وفي ظل وضع تعلم تركيا قبل غيرها أنه مختلف تمامًا عن منظومة الحرب الباردة، لم يكن غريبًا ألا تُحدث حادثة إسقاط الطائرة الروسية مفعولها المرجو، بل وأن تزيد من الأوضاع سوءًا بخسارة العلاقة الجيدة مع الروس، وهو ما أفقد تركيا هامش المناورة الواسع الذي امتلكته سابقًا، وأعطاه لغريمها الممثل في مجموعات أكراد سوريا، والتي تحظى منذئذ بدعم الأمريكيين ضد داعش، وبدعم الروس مؤخرًا كضغط من جانبهم على تركيا.
لعل تركيا كانت معذورة في تلك اللحظة التي وجدت نفسها وقد رفعت سقف طموحاتها بالمنطقة، بالحديث عن إستراتيجيات جديدة وإحياء لدورها العثماني والإسلامي وما إلى ذلك مما عهدنا سماعه طوال فترة حزب العدالة والتنمية، دون أن تمتلك في الواقع “الأدوات العثمانية الصلبة” التي كفلت لها في الماضي التحرك منفردة كإمبراطورية، فالأزمة السورية كشفت بجلاء لصناع القرار في أنقرة أن تركيا عسكريًا لا تزال مقيدة بتحالفها الغربي، ولن تتمكن من تحقيق أهدافها في سوريا بدون التنسيق مع واشنطن على المدى القصير، وهو ما أدى لحادث إسقاط الطائرة كمحاولة لجذب واشنطن، وهي محاولة فشلت بطبيعة الحال.
مأزق إذن ذلك الذي تقع فيه تركيا اليوم لا سيما في الملف السوري، فطموحات الماضي لم تتبلور أدواتها بما يكفي، كما أن أدوات الحرب الباردة نفسها انتهت صلاحيتها، وهو مأزق ستحتاج معه تركيا إلى امتلاك هامش واسع لحرية الحركة إلى حين تقرر وضع إستراتيجية حقيقية لبلورة أدواتها بنفسها على المدى البعيد، وإن كان البعض يرى في المحاولة التركية السابقة إبرام اتفاق مع الصين لتزويد أنقرة بنظام دفاع صاروخي خطوة في هذا الاتجاه، فإن سير الأحداث أولًا قد أجبر تركيا على العدول عنه، وثانيًا يبدو من الوقائع أنها لم تكن سوى مناورة من جانب تركيا لا أكثر، والتي ستكتشف قريبًا أنها بحاجة إلى اتفاقات متجاوزة للناتو مثل هذه بالفعل كخيارات حقيقية لا كأوراق تناور بها تحالفها الغربي التقليدي.
هل فشل داوود أوغلو إذن؟
حين ظهر اسم أحمد داوود أوغلو واشتهر في أواخر العقد الماضي كمستشار لرئيس الوزراء أنذاك رجب طيب أردوغان، ثم وزيرًا للخارجية، كان عمله النظري الأبرز “العُمق الإستراتيجي” هو ما يشهد له بكفائته كرجل صاحب رؤية إستراتيجية لدور تركيا في العالم، بيد أنه في خضم الحفاوة التي لاقاها الرجل، والحماس لعودة تركيا لدورها بالشرق الأوسط بعد حوالي قرن من الغياب، فاتنا جميعًا، أولًا، محدودية الدور الذي يمكن لداوود أوغلو أن يلعبه كرجل نظرية بالأساس في ترجمة أفكاره على الأرض، كما فاتنا ثانيًا النظر إلى سياق الدولة التركية الأوسع الذي انتمى له حديثًا وأهميته في تطبيق أفكاره.
بخصوص النقطة الأولى، تجدر الإشارة هنا إلى أن داوود أوغلو بالأساس رجل نظرية، وأن كتابه الشهير، وعلى عُمقه وعبقريته بالفعل في رسم ملامح إستراتيجية جديدة لتركيا في القرن الواحد والعشرين، وتوقيته الهام في لحظة يتراجع في الغرب عن المنطقة وتحتاج فيها تركيا لإعادة تعريف دورها، إلا أنه في الحقيقة صياغة نظرية لما يجب أن تكون عليه الإستراتيجية التركية في المُطلق، ولا يحتوي أية إرشادات تكتيكية لتطبيق تلك النظرية على الأرض في اللحظة الراهنة التي يمر بها العالم.
تباعًا، فإن التسمية الشهيرة التي أطلقتها بعض المنابر الغربية والعربية على داوود أوغلو باعتباره “كسينجر تركيا،” لم تكن دقيقة، فالرجل لا يملك براعة كسينجر على الإطلاق في وضع التكتيكات السياسية، وإن كان يفوقه ربما في رؤاه النظرية، وهو أمر كشفته بجلاء الأزمة السورية، فوجود رؤى كرؤية داوود أوغلو في السلطة التركية أمر شديد الأهمية في تلك المرحلة، لكنه لا يغني عن وجود كوادر أخرى تفتقدها تركيا حاليًا، أبرزها أنها لا تمتلك “كسينجر” خاص بها.
لماذا قد لا تمتلك كادرًا هامًا بهذا الشكل، والكثيرون منه موجودون في شتى أنحاء العالم من الصين إلى إيران ومن الهند إلى روسيا؟ ببساطة لأن الدولة التركية لا تمتلك أية إستراتيجية إقليمية أو عالمية أصلًا منذ حرب الاستقلال وتأسيس الجمهورية عام 1923، والتي كتبت بها أنقرة نهاية أي دور لها بكلمة أتاتورك البسيطة والسطحية في الحقيقة، “سلام في الوطن وسلام في العالم،” وهي سياسة بُنيت عليها الجمهورية التركية الحديثة بمؤسساتها العسكرية والدبلوماسية، واستمرت لتسعين عامًا تقريبًا دون أن تمتلك أي تقليد يولّد صناع قرار من هذا النوع.
في أمريكا مثلًا توجد المؤسسات المعروفة بالـ”ثينك تانكس،” وأقسام العلاقات الدولية بالجامعات المرموقة، ومراكز الدراسات المتخصصة لكل منطقة، وفي إسرائيل وأوروبا بالمثل، أما في تركيا فإن أحدًا لم يرعى مؤسسات حكومية أو خاصة بهذا الطابع من قبل، وبالتالي فإن الجمهورية حتى الآن لا تملك مصنعًا لصناع القرار إن جاز القول، بشكل يتناسب مع الرؤية النظرية التي وضعها داوود أوغلو، وهي ليست مشكلة داوود أوغلو بطبيعة الحال كمفكر ومستشار للحكومة، وإن كان من الممكن من موقعه حاليًا كرئيس الوزراء أن يساهم في سد تلك الفجوة داخل الدولة التركية.
في نهاية المطاف، لا يمكننا إنكار أن خوض الحرب السورية كان اختبارًا عصيبًا على تركيا كأول اختبار حقيقي لنظريتها الإستراتيجية الجديدة، وأن الفشل فيه لا يعني توقف المحاولات، وإن كانت المعارضة العلمانية في الداخل بالطبع ستسوق الحُجج استنادًا لفشل أنقرة في سوريا (حتى الآن) باعتباره دليلًا على صحة الموقف الأتاتوركي التقليدي بالابتعاد عن الشرق الأوسط تمامًا، بيد أننا يجب ألا ننسى مجددًا أن الفشل سيتكرر في ملفات أخرى إذا لم تجد تركيا على المدى القصير منهجًا تكتيكيًا واضحًا للتعامل مع الواقع السياسي والعسكري من حولها، وتقليدًا جديدًا داخل الدولة لتفريخ صناع القرار في هذا المجال على المدى البعيد، وهو أمر من المفترض أن تكون الدولة في تركيا قد أدركت حاجتها له خلال الأزمة السورية، سواء أكان الجيش التركي متقبلًا بالفعل لرؤية داوود أوغلو أم لا، فنهاية الإستراتيجية “الاعتمادية” القديمة للحرب الباردة يعني أن الدولة التركية في شتى الأحوال مطالبة في تلك المرحلة بالبحث عن تعريف جديد لدورها ومكانها في العالم، بكتاب داوود أوغلو أو بدونه.