ترجمة وتحرير نون بوست
في مارس 2004، كنت عائدًا من العمل من قاعدة سانت مير العسكرية الأمريكية في الفلوجة بالعراق، وكان يرافقني حينها صديقي المقرب وزميلي في العمل فرديناند إيبابو.
لقد كان يومًا طويلًا وحافلًا بالتحقيقات، لذا كنا نتطلع للعودة إلى منازلنا لرؤية رسائل البريد الإلكتروني التي وردتنا، والتكلم مع عائلاتنا في الوطن.
أثناء تجولنا ضمن المساحة الكبيرة ضمن القاعدة العسكرية، توقف حديثنا لعدة مرات جرّاء الصوت المتميز لسقوط قذائف الهاون من حولنا، وحينها كنا نتحدث عن ضرورة العثور على وظائف تعاقدية جديدة في العراق، لأن وظيفتنا المتمثلة بإجراء التحقيقات في أماكن مثل أبو غريب والفلوجة باشرت تجثم بثقل على صدورنا، واتفقنا بأن الوقت قد حان للانتقال إلى وظيفة أقل تعقيدًا، وظيفة لا تجبرنا على التخلي عن إنسانيتنا بغية الذهاب إلى العمل.
في كل مرة كانت تنفجر فيه قذيفة هاون في مكان ما بقربنا، كان فرديناند يطلق مزحته الشهيرة، حيث كان يهب ليركض حول المكان كلاعب بيسبول في محاولة للقبض على الشظايا ويصيح بعدها “أمسكتها، أمسكتها!”، فمن وجهة نظره الموت بهذه الطريقة سيكون نوعًا من القتل الرحيم.
مؤخرًا، وجدت نفسي مضطرًا للتفكير بفرديناند ومزحته الكوميدية السوداء بعد أن اتفق تيد كروز ودونالد ترامب، بشكل غير قابل للتبرير، على استخدام أسلوب تعذيب محاكاة الغرق خلال نقاش جمهوري في الشهر الماضي.
“سأعيد استخدام أسلوب محاكاة الغرق”، قال ترامب، وتابع: “بل إنني سأعيد استخدام أساليب تعذيب أبشع من ذلك بكثير”.
أسلوب تعذيب المحاكاة بالغرق
لا أعرف حقًا ما الذي قد يدفع رجلًا عاقلًا للتفوه بهذه الكلمات، ولكن الأمر الذي أدركه تمامًا بأنه عندما يتم التفوه بها، فإن رجالًا، مثلي ومثل فرديناند، سيضطرون لتحمل العواقب.
بصفتي أحد المتعاقدين المدنيين في وزارة الدفاع الأميركية، قضيت الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2004 بتعذيب السجناء العراقيين، وفي ذلك الوقت، كنا نصف ما نفعله باسم “الاستجواب المعزز”، ولكنني لم أعد استعمل هذه العبارة بعد الآن؛ فالأوضاع المجهدة، الصفعات على الوجه، والحرمان من النوم، هي أفعال ترقى لإهانة الكرامة الإنسانية للسجناء العراقيين، ونحن قمنا بإذلالهم واحتقارهم، وكذلك فعلنا بأنفسنا.
قضيت وفرديناند الأشهر الأولى من عام 2004 ننفذ برنامج الاستجواب الأمريكية، وكنا نناضل من أجل احتواء الشعور المتزايد الذي أضحينا نشعر فيه بداخلنا بأننا صدمنا ضمائرنا ولطّخنا نفوسنا، وعلى الرغم من أن أساليب استجوابنا كانت تتوافق مع المعايير المعتمدة، حيث كنا نقوم بالعمل الورقي اللازم ونلتزم بالمبادئ التوجيهية ونلتزم بالقواعد، إلا أننا ومع كل سجين أجبرناه على الوقوف بمواجهة الحائط، أو عاريًا ضمن زنزانة باردة، أو منعناه من النوم لفترات طويلة، كنا نشعر بأننا نفقد رويدًا رويدًا كرامتنا الإنسانية، وشعرنا بشكل متزايد بأننا لم نعد أميركيين.
منذ عام 2007، أضحيت أتكلم علنًا حول الأفعال التي ارتكبتها أثناء عملي كمحقق مدني، وكثيرًا ما سُئلت: متى كانت المرة الأولى التي أدركت فيها بأنني انغمست أكثر من اللازم؟ أو متى أحسست بأنني قد تجاوزت الحدود؟ وفي كل مرة، على مدى العقد الماضي، كنت أقدم إجابة مختفلة ردًا على هذا السؤال؛ فلقد قلت سابقًا بأنني تجاوزت الحد عندما شاركت في عملية حرمان سجين من النوم في الفلوجة، ولكني أتساءل أيضًا إذا كنت قد تجاوزت الخط منذ أول مرة انخرطت فيها بأعمال سجن أبو غريب، أول مرة وضعت سجينًا فيها بوضع مجهد، أو في أول مرة قلت فيها لسجين عراقي بأنه لن يرى أسرته مرة أخرى، بل لربما تجاوزت الحدود في اللحظة التي قررت فيها أن أكون أحد المحققين في العراق، لكن بجميع الأحوال، لم ينجم تغيري للإجابات بدافع من رغبة الخداع، بل جرّاء عدم قدرتي على استيعاب مدى سهولة أن تصبح جلادًا أمريكيًا.
عندما اقترح دونالد ترامب وتيد كروز بأن أسلوب محاكاة الغرق وغيرها من أساليب التحقيق البغيضة لا يجب اعتبارها غير قانونية، أُغريت في البداية لتبرئة ساحة نفسي؛ فأنا لم أمارس أسلوب تعذيب محاكاة الغرق ضد أي شخص في العراق، وأود أن أتصور بأنه خط لن أتجرّأ على تخطيه، ولكن على أرض الواقع، لا حق للتفكير بهذه الطريقة، فسلوكي في العراق يجبرني على الاعتراف بأنه لو كان طُلب مني أن أعذب شخصًا ما بأسلوب محاكاة الغرق في سجن أبو غريب في أوائل عام 2004، فلم أكن على الأرجح لأتردد، ولكنت تجاوزت هذا الخط أيضًا.
إذا أتيحت لي الفرصة لأتحدث مع المحققين وخبراء الاستخبارات، فإنني أود أن أحذرهم من رجال كدونالد ترامب وتيد كروز، أود أن أحذرهم بأنه سيتم إجبارهم على تخطي الحدود من قبل رجال لن يقوموا بذلك بأنفسهم، وأنهم سوف يتجاوزون تلك الحدود قبل فترة طويلة من تطبيقهم أي أسلوب تعذيب مهما كان نوعه، كما أود أن أحذرهم بأنهم وبمجرد تخطيهم للحد، فإن أولئك الرجال لن يكونوا حاضرين لمساعدتهم لتلمس طريق العودة.
وجد فرديناند في نهاية المطاف وظيفة جديدة في العراق، كما أنه أمسك بالمحصلة بكرة البيسبول، حيث قُتل في هجوم انتحاري ضمن المنطقة الخضراء في أكتوبر 2004 مع ثلاثة متعاقدين أميركيين آخرين.
عدت إلى العراق في عام 2005، ورغم أنني لم أمسك بكرة البيسبول، ولكنني في بعض الأيام تمنيت حقًا لو كنت قد أمسكت بها لأتلقى مصير موتي الرحيم؛ فكمحقق، أجبرني التعذيب أن أطرح إنسانيتي جانبًا في كل مرة كنت أذهب فيها إلى العمل، إنه أمر لم أستطع أن أجمع شتاته مرة أخرى، أمر لا يجب علينا أن نطلب من أمريكي آخر القيام به.
المصدر: نيويورك تايمز