استوقفني خبر بوكالة الأناضول للمدير التنفيذي في اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة “كارلوس لوبيز” يقول فيه “إن أفريقيا تستورد 83% من احتياجاتها الغذائية المصنعة من دول العالم”، وأشار كذلك إلى أن الإنتاج الزراعي في القارة يعد من أدنى الإنتاجيات في العالم، وأن القارة الأفريقية لا تزال موطنًا لأعلى نسبة فقراء في العالم على الرغم من نسب النمو الذي شهدته خلال العقد الماضي”.
لو نظرنا من الأعلى إلى إثيوبيا لظهرت لنا مزارع الزهور الكبيرة حتى تكاد لا تعرف نهايتها حيث تعد ثاني أكبر مصدر للزهور في أفريقيا بعد كينيا، يأتي المستثمرون من أوروبا وأمريكا للاستثمار بهذه السلعة التي أنشأوا من أجلها بورصات خاصة بها، حيث يجد المستثمر الأجنبي في أفريقيا أرضًا خصبة صالحة للزراعة في أغلب الظروف ويدًا عاملة رخيصة جدًا، فضلاً عن ضعف البنية التحتية والتقنية والتكنولوجيا في البلاد ما يسمح للمستثمر بامتلاك أدوات الاستثمار والتحكم بالقواعد الاستثمارية بما يرضي أطماعه المادية، أضف إلى ذلك الترحيب الذي يلقاه من الحكومة للاستثمار بدون رقيب أو عتيد، لذلك لا يستفيد العامل ولا البلد المستثمر فيها إلا النذير من الأرباح بينما تظهر أضعاف الأرباح إلى المستثمر.
مزارع الزهور في إثيوبيا
وبالنظر إلى السلع الاستراتيجية كالنفط والذهب التي تزخر بهما الأراضي الأفريقية نجد أنها ليست أفضل حالاً من سابقتها؛ فالمادة الخام يتم استخراجها وشحنها بشكل مباشر إلى أفريقيا ليتم إعادة استيرادها من جديد على شكل مشتقات نفطية ومواد أخرى، فالثابت في الاستثمارات الأجنبية في أفريقيا هي أنها ترضي طموح وأطماع المستثمر المادية حيث يحصل على جل الأرباح ويعطي العامل والبلد اليسير من الأرباح.
المفارقة التي نجدها أن نسب النمو في العشر سنوات الماضية كانت مرتفعة بشكل واضح حتى سجلت أفريقيا من البلدان الأسرع نموًا في العقد الماضي، والسبب الأساسي هو الاستثمارات الخاصة التي جاءت من الصين وفرنسا والولايات المتحدة وتركيا وغيرها.
بنظري أن النظام الاقتصادي المعمول به في الدول الأفريقية هو ما يسمح لتلك الدول باستغلال الموارد إلى أبعد حد ممكن وعدم الاكتراث بأحقية البلد المستثمر فيه، وحجم الأرباح وحق الملكية وحق العمالة وما إلى هنالك، فالاستثمارات الأجنبية ومشاركة القطاع الخاص في عملية التنمية في البلاد شيء لا بد منه ولكن وفق قواعد تحمي بالدرجة الأولى البلاد والمواطنين، فلو اشترطت الحكومة – التي تصوب سياساتها الاقتصادية لجذب الاستثمارات الأجنبية – على المستثمر نظام الاستثمار القائم على “B.O.T ” أي “الإنشاء والتشغيل ونقل الملكية” في النهاية بعد فترة معينة يستعيد فيها المستثمر رأس ماله مع تحقيق شيء الأرباح، بهذه الطريقة تستطيع البلاد إنشاء استثمارات قومية مهمة لم تكن قادرة على إنشائها ومن ثم تدريب قوى عاملة فيها أثناء التشغيل واكتساب الخبرات اللازمة وينتهي الاستثمار بنقله للحكومة للتصرف فيه كما تشاء بحيث يمكن لها إدارته من خلال القطاع العام أو عطائه للقطاع الخاص المحلي في البلاد.
الغريب أن بلاد تفتقر للموارد الطبيعية أصبحت من أغنى البلدان في العالم ووجدت لها مكانًا بين الدول المتقدمة والسبب ليس سحرًا ولا حكرًا، علمًا أنها تعرضت في البداية لضغوطات سياسية واستغلالية من الدول الأقوى منها ولكنها تعاملت مع الأمر بالتدريج وامتلكت الإرادة الوطنية التي منحتها قوة الشعب، وحاربت الصعوبات وتغلبت عليها وأسست أرضية صلبة لتنقل اقتصادياتها من التخلف إلى التقدم ومن بلدان زراعية إلى صناعية ومن متخلفة إلى نامية فقارعت الدول الكبيرة بالتذلل لها تارة ومعارضتها تارة أخرى واعتمدت على تحالفات متنوعة.
باتت مقولة “الدول الأفريقية مستعمرة” و”الحكومات الأفريقية لا تمتلك القرار السياسي والاقتصادي” هي مقولة مستهلكة، فلو هي كذلك حينها لابد لنا أن نغير نظرتنا تجاهها ونسميها دولاً مستعمرة، ولا نطلب منها أن تقوم بعملية تنمية شاملة ومن الطبيعي عندها أن تواجه معدلات بطالة وفقر وجهل وتخلف مرتفعة نزولاً عند رغبة المستعمر، في حين إذا كنا نعامل تلك الدول على أنها مستقلة – وهذا المفترض – فلا بد لحكوماتها أن تغير المناهج الاقتصادية المعمول بها لأنها أثبتت أنها جوفاء، فلم تستفد الدول الأفريقية إلا من تحقيق معدلات نمو مرتفعة، والمعلوم أن النمو هو الزيادة المرصودة في كمية إنتاج السلع والخدمات في بلد ما، من خلال إعطاء اهتمام أكثر بالكم دون الكيف، فلم تسهم في تحسين الأزمات التي تعاني منها دول القارة بقدر ما أفادت الدول المستثمرة والمستثمر ذاته في تحقيق عوائد مرتفعة على حساب المواطن الأفريقي.
فبحسب تقرير “نبض أفريقيا” الصادر عن صندوق النقد الدولي في عام 2013 فإن “معدلات الفقر وعدم المساواة مازالت مرتفعة بدرجة كبيرة ووتيرة انحسارها بطيئة بصورة غير مقبولة حيث يوجد واحد تقريبًا من كل اثنين من الأفارقة يعيش الآن في فقر مدقع، وبحسب التقديرات المتفائلة فإن المعدل سينخفض إلى ما بين 16-30% بحلول عام 2030″، ويقول التقرير “إن معظم فقراء العالم سيعيشون في أفريقيا في ذلك العام”.
شخصيًا أعتقد أنه في حال بقي القرار الاقتصادي لا يعبر عن رغبة وطنية نحو التحرر الاقتصادي من قيود الدول المتقدمة فإنه لا عجب أن نرى الفقر في ازدياد في العقد المقبل مع بقاء معدلات النمو مرتفعة وموطن لانتشار الأمراض والفيروسات، فالحالة التي فيها الدول الأفريقية لا تشي بتحسن فهي تغري الدول القوية التي تحتاج لكل ما تحتويه القارة من موارد طبيعية وبشرية من أجل تلبية شروط التنمية المستدامة في بلدانها وإرضاء نزوة الاستهلاك لدى المواطن هناك، فالمواطن هناك اعتاد أن يشتري ورودًا جميلة، بينما لا تهتم تلك الدول بمواطني القارة فيما إذا ازدادوا فقرًا وتخلفًا وبطالةً في ظل حصرهم بلقمة العيش فقط، فالحياة الرغيدة تليق بهم وبشعوبهم ولا تليق بالموطن والبلد الأفريقي.
ولا أرى حجة لحكومات القارة في كبح جماح هذا الاستغلال لمواردها ولمواطنيها، فبإمكان الحكومة التعاقد مثلاً مع دول تراها صديقة وأكثر شفافية من تلك الدول، وتعديل السياسات الاقتصادية التي هي السبب الرئيسي فيما تعانيه من سطوة واستغلال يمارس عليها من الدول القوية، ولا نقول أن تعمد الحكومة إلى طرد المستثمرين ولا تستقبلهم بل تحاول تطويع استثماراتهم لما يخدم الاقتصاد الوطني والمواطن الأفريقي بالدرجة الأولى.
في هذه الأيام قد يهدم مضارب أو مستثمر في الأسواق المالية دولة بأكملها ويسبب لها انهيارًا في عملتها الوطنية وهذا حدث بالفعل لدول عظمى كما في بريطانيا 1992 عندما ضارب مجموعة من المستثمرين أبرزهم “جورج سوروس” لشراء الجنيه الإسترليني مستغلين ظرف ارتباطه بالمارك الألماني آنذاك وسياسة المركزي البريطاني النقدية، فوجدوا ثغرة فيها قاموا باستغلالها لاستنزاف الحكومة من العملة الأجنبية في المركزي، ورفع سعر الإسترليني لمستويات مرتفعة مشكلين فقاعة كبيرة تنتظر الانفجار وعندما أذنوا لها بالانفجار هبط الاسترليني لمستويات متدنية واضطرت الحكومة لتغيير سياساتها النقدية، لذلك أثبت مجموعة شخوص فشل الحكومة والسياسة النقدية التي تتبعها آنذاك، وتكررت هذه المضاربة من نفس الشخص مع دول النمور الخمسة في العام 1997 وسببت بانخفاض عملات دول شرق آسيا من بينها إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة والفلبين وتايوان، بسبب ثغرات في سياساتها الاقتصادية.
الخلاصة من هذه القصص والتي يجب أن تعتبر الدول الأفريقية بها أن الاستغلال الاقتصادي ناجم عن ثغرات في الاقتصاد الوطني تسمح للدول القوية بتطويع الاقتصاد وما فيه من موارد طبيعية وقدرات بشرية وتصل لحد الساسة لقرارات تلك الدول، والحل أن تجد الدول الأفريقية تلك الثغرات وتحاول تعديلها بما ينسجم مع المصلحة الوطنية والتكامل الاقتصادي بين دول القارة، ومن ثم السير في خطوات التنمية المستدامة التي تضمن حلولاً للجهل والتخلف والفقر والبطالة والكثير من المشاكل التي تعاني منها دول القارة.
نعم لا تستطيع أي دولة أن تغرد وحدها خارج السرب الدولي أو الخروج من المنظومة الدولية، ولكن كل دولة تستطيع تكييف سياساتها ومواردها لما يخدم شعبها وبلادها لا لما يخدم الدول الاستعمارية والمتقدمة، وبدون هذا ستبقى أفريقيا تستورد حاجياتها الغذائية بنسب عالية وستبقى نسب الفقر والمرض والبطالة مرتفعة أيضًا.