ساعات محمومة تلك التي قضاها الإيرانيون في الأسابيع الأخيرة من العام الماضي أثناء صياغة الاتفاق النووي، محاولين إقناع واشنطن أن ترفع حظر قديم فرضته الأمم المتحدة على برنامج صواريخها الباليستية، وفي خضم التنازلات التي قدمتها إيران بخصوص البرنامج النووي، وهو الموضوع الرئيسي للاتفاق، يبدو أنها نجحت جزئيًا، فقد وافق الأمريكيون، ليس على رفع الحظر بالكامل بالطبع، ولكن على تخفيفه.
كانت إيران سابقًا ممنوعة نهائيًا وبنص صريح من إطلاق صواريخ بالستية قادرة على حمل رؤوس نووية، وذلك وفق قرار مجلس الأمن رقم 1929، والذي “قرر ألا تقوم إيران بأية نشاط متعلقة بالصواريخ البالستية القادرة على حمل رؤوس نووية،” أما الآن، وبعد الاتفاق النووي وبموافقة واشنطن أثناء المفاوضات، فإن مجلس الأمن قد مرر قرار 2231 في يوليو الماضي ليحل محل القرار القديم، والذي يحمل صيغة أكثر لينًا، فهو “يدعو إيران بألا تقوم بنشاطات متعلقة بالصواريخ البالستية المصممة لتكون قادرة على حمل رؤوس نووية.”
في خضم الجو الإيجابي للمفاوضات الصيف الماضي، صوّر وزير الخارجية الأمريكي جون كيري هذا التنازل باعتباره انتصارًا في إطار الاتفاق النووي، وقال بأن ضغوط إيران ومن ورائها الصين وروسيا لم تُفلِح لرفع الحظر بالكامل، وأن الولايات المتحدة بدلًا من ذلك خرجت باتفاق يُبقي على تقييد برنامج الصواريخ البالستية الإيرانية لثماني سنوات.
الآن، وخلال أقل من عام، فإن سلسلة من التجارب الجديدة لإيران بإطلاق صواريخها البالستية قد أدت لغضب الكثيرين في واشنطن، بل ودعوات بفرض عقوبات جديدة على إيران باعتبار تصرفاتها غير متوائمة مع “روح” الاتفاق النووي، ولكن الواقع هو أنه ليست ثمة مفاجئة، فما قاله كيري المتفائل في يوليو الماضي لم يكن ضمانًا بأي حال لإبقاء القيود على صواريخ إيران، إذ أن الاتفاقات الجديدة لا تتضمن أية نصوص مُلزمة قانونًا على غرار القيود القديمة.
أولًا، ينص القرار الثاني على “دعوة أو مطالبة إيران” ألا تقوم بالنشاطات المذكورة، ولكن عدم تجاوب إيران مع تلك الدعوة أو المطالبة لا يعد خرقًا للقرار، فصيغة “الطلب” ليست صيغة ملزمة كما نعلم على عكس صيغة “القرار” الواضحة لقرار مجلس الأمن القديم 1929.
جواد ظريف والمفاوضون الإيرانيون في فيينا أثناء مفاوضات الصيف الماضي
أضف لذلك أن قرار 2231 يترك مساحة واسعة لتعريف ماهية الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية، فهو يطالب إيران بألا تعمل بصواريخ بالستية “مصممة” لحمل رؤوس نووية، وبالتالي فإن إيران يمكنها ببساطة أن تلتف على القرار وتقول أن صواريخها الجديدة، وإن كانت قادرة بالفعل على حمل رؤوس نووية، ليست مصممة خصيصًا لهذا الغرض ولا تتعارض إذن مع القرار، وهي فجوة أخرى لم تكن موجودة في القرار القديم الذي لم يتضمن كلمة “مصممة” بل ذكر أية صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية جُملة واحدة، بغض النظر عن تصميمها لذلك الغرض بالفعل من عدمه.
***
لطالما اعتمدت الأمم المتحدة على سلسلة إرشادات بخصوص التكنولوجيا الصاروخية الحساسة، والتي وضعتها مجموعة من 34 بلدًا معروفة باسم “نظام تقييد التكنولوجيا الصاروخية” Missile Technology Control Regime، بغية فرض قيود لتصدير أية معدات تُستخدَم للأسلحة النووية أو أي من أسلحة الدمار الشامل، وطبقًا للنظام فإن أي صاروخ باليستي يصل مداه لأكثر من 300 كيلومتر، وحمولة أكثر من 500 كيلوغرام، هو صاروخ قادر على حمل رأس نووي.
بطبيعة الحال، فإن الصواريخ التي أطلقتها إيران مؤخرًا يصل مداها لأبعد من ذلك بكثير، وهو ما أدى لاستياء الكثيرين في واشنطن وأروقة الأمم المتحدة، أبرزهم جاكلين شاير، العضو السابق بلجنة مجلس الأمن والمسؤولة عن الإشراف على تنفيذ العقوبات الاقتصادية على إيران، “إطلاق الصواريخ الإيرانية خرق واضح لروح القرار 2231، إن لم يكن خرقًا صريحًا لنصه، وإنه أمر حزين ألا يتفق كافة أعضاء مجلس الأمن على هذا البند الجوهري.”
كلمات تعبر عن غضب مفهوم بالطبع، ولكن المفاوضين الغربيين والإيرانيين على السواء كانوا قطعًا على علم بأن اللغة الجديدة لقرار 2231 غير مُلزمة، وأن خرق إيران “لروح” القرار أمر لا يمكن الإمساك به أو اتهام إيران بفعله، فالقرار الجديد ببساطة، كما تقول بولينا إزيفيتش، الباحثة بالمعهد العالمي للدراسات الإستراتيجية في لندن، يتعلق بالأساس بنية إيران لا أفعالها المباشرة، وهو أمر يصعب التوثق منه على المستوى القانوني، وتلك اللغة بالطبع مقصودة “خصيصًا لمنح مجلس الأمن هامشًا للمناورة حال توترت العلاقات مع إيران مجددًا،” ولكنه في نفس الوقت يعطي إيران هي الأخرى هامشًا للمناورة إلى حين يقرر الغرب قلب الطاولة على طهران مرة أخرى، وهو أمر لا يبدو سيحدث قريبًا.
ماذا فعلت إيران إذن في مجال الصواريخ الباليستية منذ توقيع الاتفاق النووي؟ في مطلع هذا الشهر، أعلن الحرس الثوري الإيراني إجراء اختبارات بصواريخ يصل مداها لحوالي 135 كيلومتر، وهو ما يتيح لها ضرب إسرائيل، لتنطلق الاستنكارات بعد ذلك من إدارة أوباما والمطالبات بفرض عقوبات من بعض القيادات بالكونجرس، بما في ذلك المرشحة الديمقراطية الأبرز هيلاري كلينتون، والتي اعتبرت النشاط الإيراني خرقًا يجب أن تكون له عواقب.
صورة من الاختبار الذي أجرته إيران مطلع هذا الشهر
من ناحية أخرى، يقول أحد المسؤولين الأمريكيين أن تعديل لهجة قرار مجلس الأمن ليس هو مربط الفرس هنا، فإيران تمتلك عشرات من الصواريخ البالستية منذ زمن طويل، حتى حين كان القرار 1929 لا يزال ساريًا، وذلك لأن النظام في طهران ببساطة لا يبالي أصلًا بالقوانين والأعراف الدولية في شتى الأحوال، بيد أن الحقيقة الآن هي أن نشاطات إيران تتمتع ولو جزئيًا بغطاء شرعية دولي بعد قرار 2231، وهو ما يجعل الموقف الإيراني أقوى إقليميًا ودوليًا، علاوة على أن النشاطات التي جلبت العقوبات الاقتصادية في السابق، تتم الآن في إطار اتفاق مع القوى الغربية ورفع للعقوبات عن النظام الإيراني، على الأقل من ناحية أوروبا، وهو مكسب كافي لطهران لم تكن لتحلم به في 2010.
في هذه الأثناء تبدو بعض الأصوات داخل الإدارة الأمريكية عازمة على تصعيد المسألة وإعادة موضوع العقوبات للطاولة ردًا على التصرفات الإيرانية، فقد صرح جون كيربي الأدميرال الأمريكي المتقاعد والمتحدث الرسمي باسم نائب وزير الدفاع للشؤون العامة، والنائب السابق لوزير الدفاع للشؤون الإعلامية، بأن ثمة “نقاش مثير سيُطرح عن مدى ما يشكله النشاط الإيراني من انتهاك للاتفاق الجديد، وهو أمر لا يعني أن النشاط أمر مقبول، ولكنه لا يعني في نفس الوقت أن يدير مجلس الأمن ظهره لما يجري.”
بالمقارنة مع الأحوال في السابق فيما يخص العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران في إطار المنظومة الدولية ومؤسساتها الراهنة، يبدو كيربي مقرًا بشكل ما بأن الموقف الإيراني أقوى من أي وقت مضى، وأن الحُجة الأمريكية الحالية ستعاني بشدة لإقناع الروس والصينيين لتمرير أية عقوبة من أي نوع، ولا يمكننا بحال أن نعتبر تلك مفاجأة لواشنطن، بل نتيجة مباشرة في الحقيقة للتنازلات التي قدمتها لطهران، والتي كانت تدرك تمامًا تبعاتها على الأرض.
ستتعقد الأمور بطبيعة الحال مع دخول إدارة أمريكية جديدة للبيت الأبيض، سواء أكانت ديمقراطية، والتي ستمثلها كلينتون على الأرجح بمواقفها الأكثر تحفظًا ناحية إيران من أوباما كما تشي تصريحاتها، أو جمهورية بمواقف الجمهوريين المعهودة والمعادية لإيران، وفي كلا الحالتين فإن الإدارة الأمريكية الجديدة إما ستضطر للتعامل مع الواقع الجديد الذي رسمه أوباما ووزير خارجيته جون كيري، وإما ستبذل جهودًا دبلوماسية مكثفة لمواجهته، وعلى الأرجح بلا فائدة، فأوروبا والصين وروسيا والهند وغيرهم لن يقبلوا بأي حال بإغلاق الباب مجددًا بوجه إيران، لا سيما وأن الجميع راغب في توسيع العلاقات معها الآن ولأسباب مختلفة.
الموقف الإيراني الأكثر قوة من أي وقت ينعكس بالطبع في تصريحات واثقة من مسؤولي إيران بالأمم المتحدة، فالتصريحات الإيرانية القادمة من طهران لم تتغير كثيرًا في لهجتها عن تعزيز قوة الجمهورية الإسلامية بوجه أعدائها، لكن خطابًا إيرانيًا جديدًا أيضًا يتبلور داخل أروقة المؤسسات الدولية استنادًا للاتفاق النووي مفاده أن إيران في تصرفاتها لا تنتهك أي قرارات دولية تخصها، كما جاء على لسان ممثلها في الأمم المتحدة، والذي صرح بأن “كامل الحقوق مكفولة لإيران لبناء قوة كافية لردع أي هجوم عليها.. لا سيما وأن المخاطر قد تضاعفت بوجهها في السنوات الأخيرة.. والاتفاق النووي لا يمنعها من كافة النشاطات العسكرية العادية والشرعية.”
المصدر: فورين بوليسي