أثبتت تجارب عدة لعلماء النفس عن اتباع أغلب الأفراد لما يعرف بثقافة القطيع وهي القيام بفعل غير منطقي وغير مبرر فقط لأن جميع من حوله يفعل ذلك في إثبات على التأثير البالغ للجماعة على الفرد والحد من استقلاليته كما أنها تثبت نزعة الفرد للطاعة والتماثل أكثر من نزعته للتمرد.
وقد أطلق عالم النفس البولندي سولمون أش على تلك الظاهرة “ضغط النظائر Peer Pressure” بعد القيام بعدد من التجارب والدراسات التي أثبتت ميل الفرد لاتباع رأي الأغلبية.
تجربة المصعد
في بداية الستينات قامت أحد برامج الكاميرا الخفية في أمريكا بتطبيق ذلك المفهوم عبر تجربة المصعد؛ حيث أظهرت محاولة الناس التجاوب مع المجموعة دون أي فضول لمعرفة الأسباب التي تدفعهم إلى فعل ذلك.
وكانت التجربة كالآتي:
فور دخول الشخص الذي تجرى عليه التجربة للمصعد يتتابع ثلاثة من المشاركين في التجربة على الدخول إلا أنهم يقومون بالوقوف بشكل عكسي أي يعطون ظهورهم للباب على عكس الشخص الأول، فتكون النتيجة أن الشخص سرعان ما يبدأ بعمل حركات عفوية تدل على ضعف ثقته في موقفه مثل حك أنفه أو وضع يده على رأسه ويبدو وكأنه يعاني من جراء شعوره بالشذوذ عن الجماعة وبعدها يقوم تدريجيًا بالدوران والوقوف مثلهم.
الأغرب من ذلك أنه وبالتمادي في التجربة يقوم الثلاثة بالدوران في كل الاتجاهات بصورة متتابعة فتكون النتيجة أن الشخص الذي تجرى عليه التجربة يستمر في مجاراتهم بشكل تام ويصبح متماثل تمامًا مع المجموعة.
تجربة سولمون أش
تجربة أخرى تثبت تأثير الجماعة على الفرد حيث قام صاحب التجربة بسؤال ثمانية من الطلاب المشاركين عن أي الخطوط المستقيمة الثلاثة على اليمين يماثل الخط المستقيم على اليسار وهو سؤال بسيط وسهل الملاحظة إلا أنه اتفق مع سبعة من المشاركين أن يتبنوا رأي خاطئ في عدد من الأسئلة ثم كان على الثامن أن يقول رأيه في ذلك.
أُجريت هذه التجربة عدة مرات وفي كلّ مرة استعملَ “آش” طلابًا جدد ونتائجها كانت أن الطالب المنفرد ساير الجماعة بآرائها الخاطئة بنسبة 37% مع ملاحظة أن أكثرهم كان مُترددًا في إطلاقِ حكمه أمام السبعة المُجمعين على الخطأ.
أجرى آش مرحلة ثانية من التجربة بأن اتفق مع 6 طلاب فقط بينما منح الممتحن حليف هذه المرة في صراعه مع الجماعة بأن طلب من واحد أن يذكر الإجابة الصحيحة؛ فكانت النتيجة أن نسبة مسايرة الأغلبية انخفضت من 37% إلى 5% فقط؛ ما يعنى أن كسر الإجماع الكامل للجماعة قد أثر بشكل سلبي على طاعة الشخص لرأي الجماعة.
قامَ “آش” بتجارب مماثلة ولكنّه استعمل مثيرات أكثر غموضًا، فلجاً إلى تجارب بخطوطٍ ملتوية ويصعب الحكم عليها إلا بعد تأمل طويل فكانت النتائجُ أنّ الطالب الخاضع للتجربة أصبح أكثر ميلاً إلى الانضمام إلى رأي الجماعة الخاطئ، وخفّ الصراع الذي يحدث لديه عند إجراء التجربة بالخطوط المستقيمة.
تجربة العيادة
وهى تشبه تجربة “القرود الخمسة” الشهيرة التي تنص على وضع القرود في قفص وكلما حاول أحدهم الصعود لالتقاط الموز من أعلى يتم إغراقهم بالمياه الباردة حتى امتنعوا عن الصعود، فيتم إدخال قرد جديد لا يعرف الرابط بين الأمرين وسرعان ما يحاول التقاط الموز إلا أن زملاءه يقومون بمنعه حتى يلتزم وهكذا يتم إضافة قرود جديدة حتى لم يعد بالقفص أي من القرود التي شهدت الإغراق بالماء إلا أن ما حدث كان غريبًا وهو استمرار القرود الجديدة في منع غيرها من التقاط الموز حتى من دون أن ترى عقاب ذلك.
كذلك تجربة العيادة حيث يذهب الشخص المستهدف إلى عيادة طبية وبينما هو جالس في انتظار دوره للدخول للطبيب يصدر صوت جرس فإذا بكل الأشخاص الجالسين يهموا بالوقوف للحظات ثم يجلسوا مرة ثانية، مع تكرار الأمر تجد الشخص في البداية يستغرب الفعل ويرتبك قليلاً قبل أن يسارع بمشاركة الجميع فعلهم من دون فهم.
الخطوة الثانية من التجربة تكون بانصراف كل الجالسين وترك الشخص وحيدًا فإذا به يلتزم أيضًا بالوقوف كلما سمع صوت الجرس وعندما دخل أشخاص جدد للعيادة وشاهدوا الشخص يفعل ذلك بادر الأول بالسؤال لماذا تفعل ذلك؟ فكانت الإجابة ” كلهم كانوا يفعلون ذلك ففعلت مثلهم”.
الأغرب أن الشخص الثاني والثالث استجابوا وشاركوا بالوقوف مع كل صوت جرس وهكذا تكونت مجموعة جديدة لم تشهد بداية الفعل ولا تعرف لماذا عليها القيام بهذا.
بعد التجربة علق الشخص الأول بأنه لم يرد أن يشعر بكونه منبوذًا وشاذًا عن الجميع، وهذا التعبير هو جوهر الفكرة إذ لا يميل غالبية الأفراد لمخالفة رأي أو فعل يتصورون أن الجميع يفعله وذلك لسببين إما للاعتقاد بأن الجميع يقومون بالفعل الصحيح أو خوفًا من مواجهة السائد والمجمع عليه حتى لو أدركوا أنه خطأ وهو ما يفسر حالة الارتباك والتردد التي ظهرت على الخاضعين للتجارب قبل أن يشاركوا الجميع ما يقومون به.
من هذه التجارب وغيرها ندرك كيف تقوم كثير من وسائل الإعلام خاصة في الأنظمة الشمولية المستبدة بإقناع الجمهور بأفكار تنبني عليها أفعال قد تكون غير إنسانية ولا تستند إلى منطق أو مبرر حقيقي، وكثير من الجمهور يقع بالفعل ضحية لذلك ويتبنى الآراء التي يعتقد أنه مجمع عليها ويعتبرها بعد ذلك من المسلمات التي لا تقبل الشك بدون معرفة وإدراك، لذلك فتأثير الجماعة على الفرد هو إحدى وسائل الإقناع الشائعة.
نخلص من ذلك إلى إدراك معنى الحرية وما يستلزمه من الشعور بالمسؤولية الفردية وممارسة ذلك باستقلالية والحد من التأثر برأي القطيع وأستشهد بحديث رسول الله “لا تكونوا إمعة، تقولون إنْ أحسنَ الناس أحسنا، وإنْ ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، و إن أساؤوا فلا تظلموا” حديث حسن رواه الترمذي.
والقول البليغ للفضيل ابن عياض: “اتبع طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين”، فليست العبرة أبدًا بالكثرة والقلة وإنما بالصحيح والخطأ.
وأختم بقوله تعالى {وكلهم آتيه يوم القيامة فردا}.