يصادف يوم 20 مارس من كل سنة الذكرى السنوية لتوقيع بروتوكول استقلال تونس بعد 75 سنة من الاحتلال الفرنسي أو ما سمي وقتها بالحماية الفرنسية، وتصادف هذ السنة الذكرى الستين للاستقلال الذي جاء بعد تضحيات استمرت طويلاً قدم خلالها الوطن مئات الآلاف من الشهداء الذين حلموا طويلاً بوطن حر ومستقل يتركونه لأحفادهم، لكن دائمًا ما ظل السؤال يطرح نفسه بعد سنوات من الاستقلال حول تخلص تونس من الهيمنة الاستعمارية الفرنسية وحول المقابل الذي تمتعت به فرنسا مقابل إنهاء الانتداب.
هيمنة اقتصادية بعقود ما قبل الاستقلال
رغم حصول تونس على استقلالها الذي يتضمن في وثيقته الأولى وجوب مراجعة الاتفاقيات السابقة التي جمعت البلدين تحت الاستعمار بما يضمن الخير ومصالح البلدين، إلا أن كل المؤشرات أظهرت بأن تونس رغم استقلالها مازالت إلى اليوم ضحية الشركات الفرنسية الكبرى والعريقة التي مازالت تنتصب في تونس وتنهب خيرات البلد من ثروات طبيعية وباطنية بناء على اتفاقيات تم إمضاؤها يوم كانت فرنسا حاكمة فعلية في تونس، تفعل ما تريد لضمان دعم اقتصادها المنهك بفعل الحروب العالمية عن طريق استباحة مستعمراتها وخيراتها باستعمال شركاتها الكبرى التي تحصل على ثروات البلد مقابل أسعار رمزية، ويتواصل ذلك حتى اليوم وبعد تعديل الاتفاقيات مع بعض الشركات فإنها مازالت تحصل على العديد من الامتيازات مقارنة ببعض الشركات من دول أخرى التي تريد منافسة الشركات الفرنسية في السوق التونسية.
ولعل آخر الدلائل على حديثنا هذا، ما خرج بعد الثورة من وثائق تؤكد أن شركة كوتوزال الفرنسية مازالت تحصل إلى حدود اليوم على الملح من تونس مقابل اتفاقية تم إمضاؤها قبل حصول تونس على استقلالها، وأن تلك الاتفاقية لم يتم مراجعتها رغم مرور السنوات؛ ما ضمن لتلك الشركة الحصول على أحد خيرات تونس لسنوات طويلة مقابل أسعار زهيدة لم تكن تمنح حق الدولة التونسية حتى في ذلك العهد دون أن نصف حجم الكارثة والمهزلة في الوقت الحالي، ورغم كل ذلك لم تقم الدولة إلى اليوم بأي إجراء لمعالجة هذا الاتفاق ومحاسبة الشركة على السنين الماضية رغم إثارة الموضوع بعد الثورة وما لقيه من تجاهل إعلامي متعمد.
تتعدد الأمثلة حول الشركات الفرنسية التي طالما نهبت ثروات تونس دون أن تجد من يردعها، ضف عليه تحكم فرنسا في السوق التونسية وهيمنتها الواضحة عليه وتمتعها بكل الصفقات الكبرى التي تفتحها الدولة عن طريق لوبيات مازلت تتحكم في القرار السياسي والاقتصادي التونسي، مقابل عروض ضعيفة ماديًا مقارنة بشركات دول أخرى تريد دخول السوق التونسية في العديد من المجالات لكنها تجد الرفض بأوامر عليا فرنسية، لتكرس بذلك هيمنة اقتصادية كارثية أضرت الاقتصاد التونسي وأنهكته، بالإضافة إلى القروض التي تمنحها فرنسا لتونس والتي كثيرًا ما رهنت تونس مقابل فوائض كبرى كان بالإمكان تفاديها لو كانت السلطة بأيدينا دون سيطرة فرنسية.
لغة فرنسية ميتة.. وسياسيون بجنسية فرنسية يصنعون القرارات
تعد اللغة الفرنسية إحدى اللغات الميتة تقنيًا واقتصاديًا والتي لا يتم التعويل عليها لا في سوق العمل الخليجية ولا الأوروبية ولا الأمريكية، وتعدت ذلك لتصبح لغة من الماضي معزولة في بلدها الأم، إلا أننا في تونس مازلنا إلى اليوم نعتبر اللغة الفرنسية لغة ثانية بعد العربية، نعلمها لأبنائنا دون اللغات الأخرى انطلاقًا من أولى سنوات التعليم الابتدائي، ونعتمد عليها في سوق الشغل داخل الوطن لكن بمجرد خروج مواطنين إلى الخارج يكتشفون أنها لغة غير مطلوبة وأن لغة العالم الآن هي اللغة الإنجليزية، ورغم ذلك لم يحدث إلى الآن أي تغيير في المناهج الدراسية لمواكبة العصر والتخلي عن هذه اللغة التي أصبحت عبئًا ثقيلاً على طالب الشغل التونسي، حتى باتت اللغة الفرنسية في تونس استحقاقًا استعماريًا لا استحقاقًا علميًا أو تقنيًا أو اقتصاديًا.
إلى جانب ذلك مازالت تونس تعاني من سياسيين درسوا في فرنسا وأصبحوا يدينون بالوفاء لها، حتى إن العديد من التقارير تؤكد أن أغلبهم يحملون جنسية مزدوجة، فرنسية وتونسية، ونجد من هؤلاء من شغل مناصب وزارية وأعضاء في البرلمان، حتى إن رئيس الحكومة السابق بعد الثورة مهدي جمعة كان متمتعًا بالجنسية الفرنسية بالإضافة إلى رئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر الذي كان يحمل بدوره الجنسية الفرنسية، وبهذا سيكون من المستحيل على أي سياسي يحمل جنسية بلد آخر غير بلده الأم أن يعمل باستقلالية وحرية ودون ضغوط وإملاءات خارجية من الدولة التي تمنحه جنسيتها باعتباره مواطنًا من مواطنيها وجب عليه حماية مصالحها.
ويؤكد وصول اسم كمهدي جمعة إلى منصب رئاسة الحكومة أن فرنسا تتدخل أيضًا في اختيار أسماء الوزراء والفاعلين في القرار السياسي التونسي حتى تبقى دائمًا تضع أيديها على تونس وحتى تكون كل القرارات السياسية التونسية مستجيبة للمصالح الفرنسية وقادمة من وراء البحار، والأكيد الدستور التونسي مادام لم يمنع ترشح أي سياسي للانتخابات أو تقلده لأي منصب قبل التخلي عن جنسيتها الثانية، فإنه مازال يزيد في تعميق التبعية لدول الغرب عامة ولفرنسا خاصة ويؤكد أن الدستور أيضًا صيغ بأيادٍ تونسية فرنسية وحظي بموافقة الفرنسيين قبل التونسيين.
إثبات نسب مفقود
نشر مواطن تونسي منذ سنتين تقريبًا قرارًا استعجاليًا من المحكمة الإدارية التونسية ردًا على طلب تقدم به للمطالبة بالحصول على نسخة من اتفاقية استقلال تونس عن فرنسا، والغريب فيما نشره هذا المواطن أن الرد جاء فيه أنه يستحيل الاستجابة ماديًا لمطلبه على اعتبار أن الوثيقتين الوحيدتين اللتين تثبتان استقلال تونس هما وثيقة الاستقلال الداخلي وبروتوكول الاستقلال وأنهما غير منشورتين في الرائد الرسمي التونسي وغير متوفرتين لدى مصالح رئاسة الحكومة.
لا يبدو هذا الشيء عاديًا بالنسبة إلى بلد حصل على استقلاله منذ ستين سنة، فحتى الأرشيف الوطني لا يحمل هذه الوثيقة رغم أن أي وثيقة مضى عليها أكثر من 30 سنة يسمح بنشرها للعموم مادامت لا تمس من الأشخاص، وذلك مازاد من حيرة العديدين حول الوثيقة الأصلية للاستقلال وحول جملة التفاهمات التي حدثت لتمنح فرنسا تونس استقلالها، حتى إن البعض وصف ذلك بمجرد الانسحاب العسكري الفرنسي من تونس مقابل أشياء أخرى بيعت للمستعمر مقابل إظهار ذلك في شكل استقلال حقيقي، فإلى متى سنبقى نطرح هذا السؤال الذي يؤرقنا: إذا ما كانت تونس فعلاً دولة مستقلة!