لا شك أن شخصية وسياسات “باراك حسين أوباما” الرئيس الأمريكي الرابع والأربعون، شكلت مثارًا للجدل الداخلي والخارجي، أوباما كأول رئيس أمريكي من أصول أفريقية يصل البيت الأبيض في يناير عام 2009، ومن ثم يرشح بعدها مباشرة للحصول على جائزة نوبل للسلام ويفوز بها بشكل فاجأ الجميع، إذ لم يكن قد أمضى في منصبه أكثر من تسعة أشهر، ولم يكن قد حقق آنذاك – إن كان حقق بعد ذلك – أي انجاز يذكر في مجال السلم المجتمعي أو السلام العالمي.
مؤخرًا نشر الصحفي الأمريكي – الإسرائيلي جفري مارك جولدبرج عدة مقالات مطولة عنون إحداها بـ “عقيدة أوباما”، ولعلنا قبل الخوض فيما أورده الكاتب في مقالاته نقف بعض الشيء مع توقيت نشره للمقالات والغرض منها، فقد نُشرت المقالات حديثًا في مجلة “أتلانتك” الأمريكية في الوقت الذي تشتد فيه منافسة الانتخابات الرئاسية بين مرشحي الحزبين الديمقراطي والجمهوري، ويزداد التخوف من ظاهرة الانبهار المتزايد والإعجاب المتصاعد بشخص “دونالد ترامب” المرشح القادم من خارج مظلة الجمهوريين ليتصدر قوائمهم! وينافس الديمقراطيين الذين سيشكل انتخابهم امتدادًا لسياسات أوباما وإن باختلافات محدودة.
يرى البعض بأن تلك التصريحات المنسوبة إلى أوباما في مقالات جولدبرج، وبشكل خاص فيما يتعلق بسياسته تجاه الشرق الأوسط، ستؤدي لا محالة إلى موجة جديدة من خيبة الأمل بالسياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط وقضاياه، إذ إن جل ما يقدمه أوباما في حواراته تلك هو التذمر والشكوى من عدم تعاطي اللاعبين الأساسيين وحلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بإيجابية وبروح مبادرة فيما يتعلق بحلول عملية لقضايا المنطقة، فجلهم ينتظر الولايات المتحدة لتخطو الخطوة الأولى ومن ثم يمشي في ركابها ويدور في فلكها وهو ما يشكل مصدر فخر له ولكن بشرط ألا يكلف جيش الولايات المتحدة قطرة دم واحدة.
ولكن في الحقيقة، إن المتصفح للمقال يرى للوهلة الأولى أن الغرض منه هو الترويج لسياسة أوباما الناجحة والناجعة في التعامل مع قضايا شائكة ومعقدة خاصة في منطقة الشرق الأوسط، وذلك عقب تزايد الانتقادات الداخلية والخارجية لسلبية إدارته المترددة في العديد من القضايا الساخنة في المنطقة، إذ يتعرض الكاتب من خلال عرضه للمقال لجملة من القضايا التي يعرضها على الرئيس الأمريكي في حوارات خاصة دارت بين جولدبرج نفسه وأوباما في عدد من الزيارات المتكررة لدول شرق أسيا على متن طائرة الرئاسة الأمريكية، وكذلك لقاءاته الرسمية وغير الرسمية في البيت الأبيض، هذا بالإضافة لحوارات الكاتب مع كبار مستشاري أوباما ومساعدية، وأيضًا من خلال لقاءاته وحواراته مع منتقدي ومعارضي سياساته.
لقد ورث الرئيس الأمريكي تركة ثقيلة نتيجة التدخل الأمريكي في مناطق متعددة من العالم، وخوضها حربين شرستين في أفغانستان والعراق، ويرى بأن الظروف ومتطلبات المرحلة قد تغيرت بشكل دراماتيكي، ولا بد وأن تتغير معها سياسة الولايات المتحدة الخارجية، فهو يرى أن معظم الإمبراطوريات الكبرى قد أفل نجمها وانطفئ نورها لسبب واحد، ألا وهو السياسة التوسعية، ولذا فإن الولايات المتحدة إن أرادت أن تحافظ على ريادتها وقيادتها للعالم فلا مناص من تغيير جذري في استراتيجيتها وسياساتها الخارجية وما أسماه “بالتخندق” وإعادة التموضع من خلال أربع نقاط رئيسية: التراجع التكتيكي من بعض النقاط الساخنة، تقليل نفقات السياسة الخارجية، تقليص المخاطر والتهديدات المحتملة، وفي النهاية تحويل الأعباء بشكل كامل على الحلفاء وتمكينهم من المبادرة.
فأوباما يرى بشكل لا يقبل الريبة ولا الشك أن على الولايات المتحدة أن تتبني سياسة “فك الارتباط/ الانفصال” عن مشاكل الشرق الأوسط ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، وهو الأمر الذي شكل له تحديًا صعبًا عبّر عنه في اقتباسه من فيلم “العراب” لألباتشينو حين قال “كلما أردت الابتعاد والخروج، سحبوني وأعادوني ثانية”، ولكن ما الذي يسحب الولايات المتحدة ثانية للمنطقة؟ هل هي الضغوط التي يمارسها عليها الحلفاء بمختلف ألوانهم السنية والصهيونية؟ أم تخوفها من تنامي الإرهاب والتطرف أو عدم الاستقرار الذي قد يؤدي في النهاية إلى التسارع في سباق نووي يهدد حليفتها الأولى وربيبتها المدللة “إسرائيل”؟ أم هي سياسة الدول العظمى “شرطي العالم” وما يفرضها حجمها وقوتها في المنطقة؟
هناك ثلاثة أمور رئيسية تشكل حجر الأساس في سياسة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط في فترة باراك أوباما الثانية وهي ببساطة البترول واللاجئين والإرهاب.
أما فيما يتعلق بالبترول، فلم يعد يشكل هاجسًا ولا مطمعًا حقيقيًا للولايات المتحدة فقد أضحت مكتفيةً ذاتيًا بعد سيطرتها على معظم حقول المنطقة بوضع اليد على مصادره كما في العراق أو باتفاقات هزيلة مع دول الخليج المختلفة لشرائه بثمن بخس دراهم معدودة، وهو ما جعل سياسة فك الارتباط مع الشرق الأوسط ممكنة ومتاحة.
نظرية إدارة أوباما بالنسبة للإرهاب، أو هكذا تروج، هي أنها إن لم تستطع أن تحتويه في منطقته فإنه سيمتد إليها ولذلك لا بد من التعاطي مع مشكلة الإرهاب على أرضه بأسلوب جديد وهو استهداف الطائرات بدون طيار، والعمل الاستخباراتي والتعاون الأمني عوضًا عن التدخل العسكري المباشر الذي كلف الولايات المتحدة الكثير.
أما القضية الثالثة فهي أوروبا وتهديد اللاجئين لها، فأوروبا هي الحليف الأكبر للولايات المتحدة في المنطقة والصراع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا شكّل وسيشكل مصدرًا مزعجًا لموجات المهاجرين واللاجئين الفارين من نيران الحروب في بلادهم واللاجئين إلى السلام والرفاهية في أوروبا وهو ما سيشكل عبئًا اجتماعيًا واقتصاديًا عليها.
كانت جملة المحاور التي شملها المقال وكذا طبيعة التصريحات وخروجها عن دبلوماسية العلاقات الدولية لافتًا للنظر، وسأفرد لها مقالات منفصلة في الأيام القادمة، فمثلًا:
•أوباما يؤمن إيمانًا عميقًا أن الاحتباس الحراري ومشكلة المناخ تشكل تهديدًا وجوديًا للولايات المتحدة بخلاف تنظيم “داعش” الذي شبهه “بالجوكر” في فيلم “الرجل الوطواط” وهو الذي يُستدعى دائمًا ليقلب الطاولة ويفسد كل المخططات، بالنسبة لأوباما فإنه لا يرى ضرورة للتدخل العسكري المباشر لمواجهة أي خطر إرهابي ما لم يشكل تهديدًا حقيقيًا ووشيكًا للولايات المتحدة أو أحد حلفائها في الشرق الأوسط.
• يفتخر أوباما بل ويزهو بأنه لم يستمع لنصائح مستشاريه وعلى رأسهم وزير خارجيته “جون كيري” بضرب الأسد عقب استخدامه للسلاح الكيماوي في غوطة دمشق في 21 آب/ أغسطس من عام 2013 وكان ذلك تخطيًا واضحًا لخطوط أوباما الحمراء والتي كانت قد أثارت جدلًا كبيرًا في أوساط السياسيين الأمريكيين آنذاك، إذ شكلت مصدر إحراج لمصداقية قوة الردع الأمريكية وتراجعًا ملحوظًا للتأثير الأمريكي في المنطقة.
• كما ويرى أوباما القوة الروسية “كقوة إقليمية” لا بد أن يتعاون معها، بل ويوظفها في بعض الأحيان، وهو ما اعتبره الكاتب صفعة حقيقية وإهانة واضحة للدب الروسي بأن يصفه أوباما بالقوة الإقليمية وليس بالقوة الدولية والتي، من وجهة نظر أوباما، قد تركتها روسيا للصين كقوة دولية قادمة بقوة، ولكنه يرى أيضًا أن بوتن وعلى ما به من صفات البلطجة والغطرسة إلا أنه ليس “غبيًا” تمامًا.
• يُحمّل أوباما كلاً من بريطانيا وفرنسا المسؤولية الكاملة عما حدث في ليبيا إذ كانتا سببًا أساسيًا في الفوضى التي اجتاحت البلاد بعد مقتل القذافي، فهو يلقي باللوم عليهما لاعتمادهما واتكالهما الكامل على الولايات المتحدة والتي يرى أوباما أن منهجه بـ “القيادة من الخلف” والذي طبقه بشكل جيد بداية الأزمة في ليبيا، لم يبنِ عليه قادة فرنسا وبريطانيا، وكانا دائمًا ينتظران تقدم الولايات المتحدة وتصدرها للمشهد، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى تصدع في طبيعة “العلاقات الاستثنائية” بين البلدين الشريكين إن لم يتخلصوا من أنانيتهم وخاصة بريطانيا، إذ يرى أوباما أن كاميرون يحاول أن يستفيد من تصدر الولايات المتحدة للمشهد، ويشارك هو بقوات بلاده جزئيًا، وهو ما يراه أوباما تهديدًا للعلاقات الأمريكية البريطانية، إذ إن بريطانيا لا بد وأن تزيد من ميزانية دفاعاتها العسكرية بما يزيد عن 2% من إجمالي الناتج المحلي، وإلا فإن أنانية بريطانيا والتفاتها إلى قضاياها الداخلية سيؤدي بالضرورة لتراجع دورها الإقليمي وهو ما أثبتته التجربة في ليبيا.
• لماذا يستاء أوباما بشكل كبير من لقاءات رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي بينيامين نتنياهو؟ لأن نتياهو يتعامل معه بطريقة استعلائية وبغطرسة وتكبر، ويرى أوباما أن نتنياهو لا يراه مدركًا لطبيعة العلاقات والعقبات التي تزخر بها منطقة الشرق الأوسط، وكثيرًا ما يعطيه الدروس وكأنه تلميذ في مدرسة، بل ووصل الأمر إلى أن يستقطب نتياهو أعضاء مجلس شيوخ ويشكل جبهة ضد أوباما وسياساته، بشكل بدا وكأن نتياهو يظن نفسه الرئيس الفعلي للولايات المتحدة وكان ذلك جليًا عقب المحادثات الأمريكية الإيرانية، ما دفع أوباما لأن يذّكر نتنياهو بأنه كافح وناضل وخاض التجارب القاسية والحروب الطاحنة ليصل في النهاية لأن يكون رئيسًا لأكبر دولة عظمى في العالم وينجح في الاحتفاظ بمقعده لولايتين متتاليتين ولا يحتاج إلى أمثال نتنياهو ليأخذ منهم دروسًا.
• العلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، لا يبدو أنها كانت تروق لأوباما على عكس ما كان يظن البعض، فهو يرى أن المملكة وكذا معظم دول الخليج مبنية على القبلية والعوائل التي تنظر بمنظار ضيق لمصالحها ومصالح عشائرها فقط، وتريد أن تركب في قطار الولايات المتحدة المريح والسريع مجانًا دون أن يكلفها ذلك شيئًا! وتريد أيضًا أن تستفيد من ذراع الولايات المتحدة الطويلة والقوية دون أن تدفع مقابل ذلك شيئًا! فهو يعتقد أنها ليست حليفًا حقيقيًا يمكن أن يُعتمد عليه، بل “ما يسمى بالحليف” كيانًا أنانيًا لم يعد يقدم للولايات المتحدة أي شيء.
• القضية الأكثر دهشة هي أردوغان وتركيا “اللاديمقراطية”، فإدارة أوباما ترى في تركيا خدعة كبرى اكتشفتها مؤخرًا، إذ إن أردوغان أحجم عن تقديم الدعم الكافي في مواجهة تنظيم الدولة “داعش” ولم يقدم ما طلبته منه الولايات المتحدة، في حين أن ما تريده الإدارة الأمريكية من تركيا هو باختصار القبول بتقسيم سوريا وبقاء الأسد وتوطين اللاجئين وقبول كنتونات كردية على حدودها الجنوبية وهو ما يعد تخليًا عن دور تركيا في حل القضية السورية كأكبر جارة وأكثر المتضررين من الحرب فيها بل وتماهيها تمامًا مع المطالب الأمريكية التي لا توصف إلا باللاإنسانية، إذ إن آخر أولوياتها حقوق الإنسان والمهجرين والمعذبين المشردين.
• القضية المحورية التي سيطرت على تفكير إدارة أوباما في فترة رئاسته كانت إيران وبرنامجها النووي، فأوباما يؤمن بشكل أساسي أن إيران دولة عظمى يحق لها أن تتقاسم النفوذ مع السعودية وتركيا في الشرق الأوسط ويرى أن لإيران مبرراتها المقبولة في عدائها ونفورها من الولايات المتحدة وسياستها تجاهها، كما ويرى أن الحل الأفضل مع إيران لم ولن يكون إلا بالتفاوض والتفاوض فقط، وليس باللجوء إلى القوة العسكرية ويرى أن إيران قد تتغير وسياساتها وسياسيوها آخذون في التغير ولا بد من مساعدتها على ذلك، ويرى بأن رفع العقوبات عنها مصلحة لدول حليفة أخرى في أوروبا وأسيا إذ إنها تعاني أكثر من إيران بفعل تلك العقوبات.
• أما الغريب والمستغرب فهو أن “جولدبرج” لم يتطرق من قريب أو بعيد لمصر سوى في نقطة واحدة وهي الغضب الذي أبداه حكام الإمارات، ومحمد بن راشد “المفكر الاستراتيجي المستنير”، من سماح الولايات المتحدة بسقوط مبارك وأوضح أن الرئيس الأمريكي يتجنب الحديث في قضية مصر لأنها تعكر مزاجه وتفسد عليه يومه، وهي القضية الأكبر والأعمق في الشرق الأوسط التي لن يستطيع جولدبرج ولا غيره من منظري ومروجي المنهج الأوبامي أن يبيعوا الوهم بسياساته المخادعة، فالأمر في مصر كان ولا زال واضحًا وضوح الشمس في وضح النهار، انقلاب عسكري دموي بدعم وغطاء أمريكي وأممي، ولا زال الرئيس المنتخب الشرعي الوحيد في سجنه يعاني بينما أوباما ينّظر أن منهجه وسياسته تعتمد في أحد أركانها على نشر قيم الديمقراطية والتحرر وهو ما قاله في خطابه الشهير في جامعة القاهرة عام 2011 ولكن الحقائق والتطورات كشفت زيف هذا الخطاب وكشفت أن للولايات المتحدة أجندات في المنطقة بخلاف ما يظهره منظرو سياساتها.
• في النهاية، تبقى القضية الفلسطينية وكعادتها محور الصراع ورمانة الميزان في الحكم على منهج ومذهب أوباما، فهو يعتقد أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يمكن أن يصل لنهايته إن استطاع “نتنياهو” استغلال الفرصة التاريخية بوجود شخص الرئيس محمود عباس الذي يقبل بحل الدولتين والذي يبدي استعدادًا للتعاون الأمني والتنسيق اللامحدود في قضايا المنطقة، هذا بالإضافة لاستعداده التام للاعتراف بيهودية الدولة الصهيونية وحقها على الأراضي الفلسطينية، ومع ذلك فقد فشل وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ومن خلال زياراته التي لا تنقطع في أن يقنع الدولة الصهيونية بوقف الاستيطان فقط هذا فضلًا عن العودة إلى العملية المسماة بالسلام.
هذه كانت بعض من محاور السياسة الأمريكية “الأوبامية” في منطقة الشرق الأوسط وسأحاول في المقالات القادمة أن أسلط الضوء تفنيدًا وتحليلًا بأمثلة واقعية حية، عشناها وعايشناها وهي تظهر كيف أن أوباما وعلى عكس ما يرى البعض كان من أفشل وأضعف رؤساء الولايات المتحدة وأكثرهم سلبية وترددًا، كان يعمل بشكل جاد وفعال لمصالح الولايات المتحدة ولكن على حساب شعوب منطقتنا ودماء أطفالنا ومستقبل شبابنا وشباتنا، وأزعم أن دراسة النموذج الأوبامي سيكون منيرًا لنفق الإدارة القادمة إن كانت ديمقراطيةً.