وصل الرئيس الأميركي باراك أوباما أمس الأحد إلى العاصمة الكوبية هافانا في زيارة تاريخية هي الأولى من نوعها لرئيس أمريكي منذ 88 عامًا، ينتظر خلالها أن تفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، بعد عقود من العداء بينهما خلال الحرب الباردة.
القطيعة بين الولايات المتحدة الأمريكية وكوبا استمرت لأكثر من 56 عامًا؛ شهدت هذه الفترة تحولات تاريخية كبرى صعدت فيها دول وتفتت أخرى، وانتهى خلالها صراع القطبين بانهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشيوعي بالكامل بعد أن وقفت كوبا بجانبه ضد المعسكر الرأسمالي الأمريكي بكل ما أوتيت من قوة حتى جاءت لحظة ذوبان الجليد.
أما في التاريخ الحديث قرر الرئيس الأمريكي باراك أوباما في ولايته الثانية والأخيرة في البيت الأبيض أن يغير وجه التاريخ القديم بشأن العلاقات الأمريكية الكوبية بإعادة فتح قنوات اتصال بين الدولتين لمحاولة ترميم العلاقات المقطوعة منذ عام 1961، بالإضافة إلى التنسيق بين الدولتين لإعادة إنشاء السفارات والقنصليات.
حيث صرح أوباما في عام 2014 في كلمة متلفزة له أنه حان وقت بدء “عهد جديد” لتطبيع العلاقات مع هافانا، وأوضح أنه سيعيد فتح سفارة بلاده في هافانا وسيطلب من الكونغرس رفع الحظر المفروض على كوبا منذ نصف قرن، وقال أوباما إن “عزل كوبا لم يعط نتيجة”، مضيفًا “سننهي سياسة عفا عليها الزمن في العلاقة مع كوبا”، ثم قال بالإسبانية “نحن كلنا أمريكيون”.
واليوم في عام 2016 قبل شهور من مغادرته للبيت الأبيض وصل أوباما إلى مطار خوسيه مارتي الدولي في هافانا على متن طائرة الرئاسة الأميركية، ليصبح بذلك أول رئيس أميركي يزور كوبا إبان ولايته منذ أيام كالفين كوليدج عام 1928.
كيف حالك يا كوبا؟
كتب أوباما تغريدة عقب وصوله إلى العاصمة الكوبية قال فيها “كيف حالك يا كوبا؟”، ومن ثم بدأ رحلته بالتنزه مع عائلته في شوارع هافانا القديمة، قبل لقاء الكردينال خايمي أورتيغا، أحد مهندسي التقارب الأمريكي الكوبي الحادث مؤخرًا.
بالتأكيد اختلفت كوبا عما هي عليه منذ 33 عامًا، حيث أدرج الغرب دولة كوبا على لائحة الإرهاب عام 1982، في حين شطبت كوبا مؤخرًا من اللائحة الأمريكية للدول الداعمة للإرهاب.
هذا التقارب الكوبي الغربي سعى فيه البابا “فرانشيسكو” بابا الفاتيكان، وقد قدم له كاسترو الشكرعلى وساطته لتحسين العلاقات بين هافانا وواشنطن، الأمر وصل إلى أن أدلى كاسترو بتصريحات مثيرة للجدل في كوبا، حيث قال إن البابا أثر فيه بشدة لدرجة أن “كاسترو” قد يفكر بالعودة إلى الكنيسة الكاثوليكية، رغم اعتناقه الشيوعية.
هذه المصالحة المفاجئة أعادت إلى الأذهان ذكريات الحرب الباردة بين المعسكرين السوفيتي والأمريكي، إذ مرت كوبا بسنوات عصيبة وعدة أزمات أمام الولايات المتحدة، فأزمة “خليج الخنازير” في بداية ستينات القرن الماضي، وأزمة رئيس الوزراء الروسي “نيكيتاخروشوف” أمام الرئيس الأمريكي “جون كنيدي” وضعا هذه المنطقة على حافة مواجهات عسكرية دامية تعيد ذكريات الحروب العالمية.
كما يذكر أن القطيعة بين كوبا والولايات المتحدة بدأت في أكتوبر من العام 1960 بعد تولى “فيدل كاسترو” الزعيم الكوبي مقاليد الحكم في هافانا المعروف بموالاته للمعسكر الشيوعي، بعدها أعلنت الولايات المتحدة حظرًا اقتصاديًا على كوبا، فيما فكرت بعض الأطراف في الولايات المتحدة في مهاجمة كوبا عسكريًا، إلا أن التدخلات الدولية حالت دون وقوع ذلك لأنه كان من المتوقع أن هذا التدخل العسكري سيوقع حربًا عالمية ثالثة، حتى استقر الوضع على الحصار الاقتصادي والعسكري الذي ظل حتى هذه الفترات.
هافانا متحمسة للتغيير
الظروف التي أحاطت بكوبا طوال هذه السنوات من القطيعة وربما مع انهيار الدعم الفنزولي والروسي المقدم للبلاد جعلت هافانا تفكر بجدية في أن تقطع طريق المصالحة مع الولايات المتحدة غير عابئة بإرث الماضي.
يعمل حوالي ثلاثة أرباع الكوبيين في المصالح الحكومية، وأغلبهم يتقاضى أجورًا هزيلة؛ فأجر الطبيب في الشهر هناك لا يتجاوز حوالي الـ 75 دولارًا أمريكيًا في الشهر أو أقل، ومع أن كوبا تضطر لتوفير شبكة أمان وغطاء اجتماعي لسد عجز هذه الرواتب المتدنية إلا أن القيادة السياسية في البلاد أدركت ضرورة حدوث تغيير.
ومع ظروف الانهيار الاقتصادي إبان تبخر الدعم من روسيا وفنزويلا، بدأت كوبا في عام 2011 بمنهج تحرر تدريجي للغاية، حيث سمحت للمؤسسات الخاصة بالازدهار في بعض القطاعات، سيّما تلك المتعلقة بالسياحة، مثل المطاعم.
“إما أن نغير مسارنا أو سنغرق”، قال راؤول كاسترو الذي خلف شقيقه رئيسًا للبلاد.
واليوم، وبمساعدة عودة انفتاح العلاقات مع الولايات المتحدة، تفيض هافانا بالزوار الأجانب وتضج بالثرثرة حول جحافل السياح المحتملين الذين لم يصلوا بعد إلى البلاد.
إضافة إلى ما تقدم، تم إنشاء منطقة للتجارة الحرة في ميناء مدينة مارييل الصغيرة، وأضحت قيادة البلاد تنشر الآن قائمة أمنيات سنوية تضمّنها جميع المشاريع التي تسعى لتعهد بها للاستثمارات الأجنبية، وأغلب هذه الاستثمارات هي في قطاعات الرعاية الصحية والسياحة والنقل؛ فمثلًا هذا العام، تسعى كوبا لاستقطاب استثمارات أجنبية بقيمة 8.2 مليار دولار لتغطي 326 مشروعًا.
ملفات متوترة
لا تزال منظمات حقوق الإنسان المعنية بالوضع في كوبا غير مستسيغة للصدمة القوية التي تلقتها نهاية العام 2014 عندما علمت من الإعلام بقرار أوباما تطبيع العلاقات مع هافانا، وهو ما قابلته بتحفظ شديد، فيما حاول البيت الأبيض استيعاب هذا الاستياء، عبر إرسال نائب مستشار الأمن القومي بن رودس إلى ميامي لمقابلة بعض هذه المنظمات لشرح موقف البيت الأبيض، كما عقد أوباما اجتماعًا مع قيادات أمريكية كوبية عشية سفره إلى هافانا.
حيث تنظر هي المنظمات إلى التقارب الحادث أنه تقارب مع دولة شيوعية ديكتاتورية لديها عداء للولايات المتحدة والحريات وحقوق الإنسان، علاوة على أنه يوجد أكثر من مليوني أمريكي من أصل كوبي، وهي الجالية الثالثة عدديًا في الولايات المتحدة وتتمركز بشكل خاص في ولاية فلوريدا، وتمثل ضغطًا على الإدارة الأمريكية كي لا يتم هذا التقارب مشتبكة مع تحفظ الكونجرس لهذه العلاقة التي يخطها أوباما في نهاية ولايته.
حيث تعد هذه التجمعات الأمريكية من أصل كوبي الإثنية الثانية الأكثر تمثيلًا في الولايات المتحدة بعد اليهود الأمريكيين، لدرجة أنه يتم وصف هذه الجالية بـ”يهود البحر الكاريبي” نظرًا لقدرتها على التأثير التي تتجاوز عددها.
فيما يتحدث هؤلاء عن قضايا حقوق الإنسان في كوبا التي من بينها السجناء السياسيين المعتقلين منذ فترة طويلة في السجون الكوبية، كما انتقدوا التضييق على رموز المعارضة والمضايقة الكوبية واعتقال أكثر من 1400 معارض في الفترة الماضية.
في حين يحاول أوباما وفريقه في البيت الأبيض تخطي هذه العقبات، مؤكدًا أنه سيفتح ملف حقوق الإنسان في كوبا أثناء زيارته لهافانا، وفي هذا يعتمد على جيل جديد من الكوبيين الأمريكيين الذين لا يعانون من آثار الحرب الباردة وغير محملين بالعداء التاريخي التقليدي بين الأنظمة في الولايات المتحدة وكوبا.