ترجمة وتحرير نون بوست
عندما اختار الرئيس أوباما تجنب العمل العسكري في سوريا في عام 2013 ومن ثم توصل إلى اتفاق للتخلص من معظم الأسلحة الكيماوية للنظام السوري، بدا لي حينها بأنه تعثر في الوصول إلى انتصار تكتيكي؛ فبعد كل شيء، الغارات الجوية المقترحة، والتي وعد بها وزير الخارجية جون كيري، كانت لتكون “صغيرة بشكل لا يصدق” بشكل من غير المرجح أن تسفر فيه عن تحقيق الكثير من النتائج المرجوة، في حين أن تحييد الترسانة الكيميائية لنظام الأسد من شأنه أن يرفع خطرًا داهمًا وشاملًا عن المنطقة بأسرها.
ولكنني غيّرت رأيي بعد سماعي لآراء وزراء الخارجية وكبار المسؤولين من حلفاء الولايات المتحدة خلال زياراتهم لواشنطن في الأشهر والسنوات التي تلت ذلك، حيث أسّر لي أعضاء الوفود اليابانين، الكوريين الجنوبيين، السنغافوريين، وحتى الهنود، بأنهم كانوا مقتنعين تمامًا بأن فشل أوباما في استخدام القوة ضد نظام بشار الأسد كان مسؤولًا بشكل مباشر عن الانفجار اللاحق للنزعة العدوانية الصينة ضمن النزاعات الإقليمية في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي.
من جهتهم، يرسم البولنديون، الليتوانيون، والفرنسيون علاقة واضحة ما بين تراجع أوباما وغزو الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا، أما بالنسبة للسنة العرب والأتراك والإسرائيليين، فهم يؤمنون بأن قرار أوباما سارع من حدوث الكارثة في سوريا، وفي جزء كبير من بقية دول الشرق الأوسط، ووجهة نظرهم في هذا المجال صحيحة بشكل لا يقبل الدحض؛ فمئات الآلاف لقوا حتفهم، الاتحاد الأوروبي يتداعى اليوم جرّاء خطر سيل اللاجئين المنهمر، ومازلت الدولة الإسلامية (داعش) ونظام والأسد بعيدان عن الهزيمة؛ إذن من يستطيع أن يقول بأن النتيجة لم تكن سيئة؟ إنه أوباما، كما تبين.
كشف الرئيس الأمريكي عن الرأي الأكثر إثارة للدهشة، خلال مقابلته مع جيفري غولدبرغ من صحيفة الأتلانتيك، حول حكمه على قراره في سوريا، “أنا فخور جدًا بتلك اللحظة” قال أوباما، بكلمات رنانة تغص بالغطرسة الدفاعية عن النفس، ولكنها تشير أيضًا إلى أن أوباما لا يزال، حتى يومنا هذا، غافلًا، أو في حالة إنكار، حول عواقب قراره الذي سيعتبره المؤرخون بالتأكيد واحدًا من أخطائه المصيرية.
وفقًا لغولدبرغ، يَعتبر الرئيس الأمريكي اليوم بأن أغسطس 2013 هو يوم “التحرر” من مؤسسة السياسة الخارجية للولايات المتحدة التي يزدريها، جنبًا إلى جنب مع التحرر من “قواعد اللعبة التي تمارسها واشنطن” والتي تتضمن ممارسة العمل العسكري بغية احترام وإعلاء شأو “المصداقية” الأمريكية، والحق نقول، بأنه إن كان أوباما يرى الأمور من هذا المنظور، فإنه يعاني من سوء تقدير وضيق بالأفق؛ فالحكمة الأصيلة لمؤسسات الفكر والرأي، المسؤولين السابقين والخبراء في واشنطن تصم تصرف أوباما بالخطأ الشنيع، وتتطابق آراؤهم مع آراء مؤسسات السياسة الخارجية لمعظم دول بقية العالم.
إذا كان الهنود، اليابانيون، البولنديون، اللاتفيون، الإسرائيليون، والسعوديين، مقتنعون بأن الولايات المتحدة قوضت، من خلال نكثها بكلمتها تجاه سوريا، من قوتها الردعية، وسهّلت وقوع العدوان، وقاموا بتكييف سياساتهم الخاصة وفقًا لذلك، فلا يهم بعدئذ ما يصر عليه أوباما من أن بوتين وشي جين بينغ لم يصعّدا من نزعاتهما العداونية جرّاء قراره في سوريا؛ فالحكمة التقليدية العالمية قالت كلمتها على الأرض، والأحداث الأخيرة تعزز من مصداقيتها، وإذا كان الرئيس الأمريكي يعتقد بأن المغامرة العسكرية الأخيرة لبوتين في سوريا لا علاقة لها بقراره في 2013، فهو وحده تقريبًا من يؤمن بذلك.
في الواقع، وبصرف النظر عن ادعاءاته، يبدو بأن أوباما مُطارد بأشباح قراره بالتراجع في سوريا، لدرجة أنه لفّق نوعًا من العقيدة السلبية حوله، حيث يقول في مقابلته مع غولدبيرغ بأن منطقة الشرق الأوسط “لم تعد مهمة للغاية ضمن المصالح الأمريكية”، وحتى لو كانت كذلك، فهناك القليل الذي يمكن للولايات المتحدة القيام به “لجعلها مكانًا أفضل”، وإن أي محاولة للقيام بذلك لن تسفر إلا عن الحرب و”نزيف المصداقية والقوة الأمريكية في نهاية المطاف”.
أول رد يمكن أن يُساق حول تصريحات أوباما تلك هو أنه ناقض نفسه من خلال إرساله لـ4000 جندي وعشرات الطائرات الحربية إلى العراق وسوريا لمحاربة الدولة الإسلامية، فهذا النهج يبدو بأنه يثبت استمرار المصلحة الأمريكية الحيوية في المنطقة، وبأن العمليات العسكرية الأمريكية يمكن أن تحظى بتأثير إيجابي، والسؤال الحقيقي ليس حول ما إذا كان ينبغي على الولايات المتحدة أن تنخرط في الشرق الأوسط من عدمه، أو حتى إن كان عليها القيام بذلك عسكريًا، بل إلى أي مدى ستنخرط وما هي الأهداف التي تحوزها من خلف ذلك.
في هذا السياق، يمكن القول بأن أوباما وقع ضحية لأيديولوجيته الخاصة، وكما تشير تمارا ويتس من معهد بروكينجز في مقالة رائعة لها في الأتلانتيك، سعي الرئيس الأمريكي لكبح جماح تورط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أسفر عن نتيجة عكسية قوامها امتصاص البلاد إلى مستنقع أعمق؛ فأوباما، كما تقول، لم يرفض فقط التحرك ضد الأسد لكنه تخلى أيضًا عن جهود الولايات المتحدة للمساعدة في بناء النظام سياسي جديد في العراق ومصر وليبيا.
نتيجة ما تقدم، هي أن أوباما مضطر اليوم لمحاربة داعش بشكل متكرر في جميع أنحاء المنطقة دون أي احتمالية لإرساء دولة مستدامة وفاعلة محلها، فهو اليوم يفتقر للحلفاء ولإستراتيجية خروج مقنعة، ونهج “التحرر” من الشرق الأوسط الذي يحتفل به الآن، خلق مستنقعًا سيرثه الرئيس المقبل للولايات المتحدة الأمريكية.
المصدر: واشنطن بوست