مقدمة
الدكتور وائل حلاق، واحد من أهم المتخصصين في الدراسات الإسلامية في جامعات الغرب اليوم، ويعد هذا الكتاب – كما يؤكد المترجم بحق – خلاصة منطقية لكتابات المؤلف في العقدين الأخيرين، والكتاب يهدف في غرضه النهائي إلى توجيه النخب العربية والمسلمة بكافة اتجاهاتها – مع التركيز على الخطاب الإسلامي تحديدً – لتعيد النظر في مجمل حمولاتها الفكرية والعملية حول نموذج الحداثة الغربي وخصوصا دولته الأوروبية الحديثة التي جسدت واقع فكرة الحداثة طيلة القرنين الماضيين، واجراء عملية مراجعة حتمية كما يقول المترجم: شاملة، مبدعة، ومتحررة، من نظرة إلى التاريخ مغرقة في الطوباوية، أو إلى الدولة الحديثة كنموذج وحيد للحكم.
وقد اختط المؤلف خطة ذكية للوصول إلى غاياته من هذا الكتاب لإقناع القارئ بحججه التي ساقها لتبرير أطروحته حول استحالة وجود شيء يسمى دولة إسلامية، ولفت أنظار النخب العربية لحقيقة المأزق الذي يعانون منه، ويعاني منه العالم كله اليوم، ليفتح باب الأمل واسعًا أمامنا – إن نحن تلقينا رسالته بجدية تليق بما جاء فيها من أفكار نيرة – نحو مساهمة حقيقية في حل أزمة اجتماعنا العربي الإسلامي في إطار مساهمتنا في حل أزمة الحداثة التي أتعبت عالمنا بأسره.
يتكون الكتاب من مقدمة وسبعة فصول، بدأت بوصف ما يسميه المؤلف حكمًا إسلاميًا نموذجيًا، ودولة حديثة نموذجية، في الفصلين الأول والثاني: مع رسم حدود مفهوم النطاق المركزي باعتباره النموذج الذي استند إليه المؤلف في بناء حججه، حيث يحدد المؤلف خصائص الشكل التي تمثل الصفات الجوهرية للدولة الحديثة والتغيرات المتزامنة والتنوعات المتلاحقة في تكوين تلك الدولة.
ويناقش في الفصل الثالث مفاهيم الإرادة السيادية وحكم القانون فيما يخص مبدأ الفصل بين السلطات وتطبيقه، ليتمكن من خلال ذلك من استعراض الأطر والبنى الدستورية لكل من الدولة الحديثة والحكم الإسلامي، بالإضافة إلى تسليط الضوء على الاختلافات الدستورية بين نظامي الحكم.
وفي الفصل الرابع نجد بحثًا أكثر تفصيلًا لمعنى القانون وعلاقته بالأخلاق، يتناول فيه المؤلف الاختلافات النوعية بين المفهوم القانوني للدولة الحديثة والحكم الإسلامي، يعرض التباينات القانونية الأخلاقية بينهما بفعل التباينات السياسية، ليكشف عن مجال آخر من عدم التوافق بين الدولة الحديثة والشريعة.
وفي الفصل الخامس ينتقل المؤلف من المستوى الكلي إلى المستوى الجزئي، ومن أنظمة التفكير والسياسة، إلى عوالم الذات والذاتية، حيث نجد أن الدولة القومية الحديثة والحكم الإسلامي يميلان إلى إنتاج مجالين مختلفين من تكوين الذاتية بحكم طبيعتهما نفسها، وبحكم تقنيات الذات التي يمتلكانها أصلًا، فالذوات التي ينتجها هذان المجالان النموذجيان تتباين تباينًا كبيرًا، الأمر الذي يولد نوعين من التصورات الأخلاقية والسياسية والمعرفية والنفسية والاجتماعية للعالم، وتلك الاختلافات العميقة بين أفراد الدولة القومية الحديثة ونظرائهم في الحكم الإسلامي إنما تمثل التجليات المجهرية المصغرة للاختلافات الكونية المادية والبنيوية والدستورية، إضافة إلى التجليات الفلسفية والفكرية التي لا تقل أهمية.
في الفصل السادس يفترض المؤلف نمطًا من الحكم الإسلامي قد يأتي إلى الوجود – على الرغم من الفرص الضعيفة والمعوقات القوية – ويؤكد أن الأشكال الحديثة للعولمة ووضع الدولة في هذه الأشكال المتعاظمة القوة يكفيان لجعل أي صورة من الحكم الإسلامي إما أمر مستحيل التحقق، وإما غير قابل للاستمرار على المدى البعيد، هذا إذا أمكن قيامه أصلاَ.
وفي الفصل الأخير، واستنادًا إلى مفهوم النطاق المركزي يتفحص المؤلف مآزق أخلاقية حديثة، مستعيدًا أسسها المعرفية والبنيوية، بصفتها تؤسس لأصل الأزمات الأخلاقية التي واجهتها الحداثة في كل صورها الشرقية والغربية، مؤكدًا أنه إذا كانت استحالة فكرة الحكم الإسلامي في العالم الحديث ناتجة بصورة مباشرة عن غياب بيئة أخلاقية مواتية تستطيع أن تلبي أدنى معايير ذلك الحكم وتوقعاته، فمن الضروري ربط هذه الاستحالة الأخلاقية بالسياقات الإشكالية الأكبر التي أفرزتها مشكلات الحداثة الأخلاقية، وأن هذه الاستحالة هي مجرد تجل آخر مصاحب على الدوام لعدة مشكلات أخرى، ليس أقلها شأنًا الانهيار المطرد للوحدات الاجتماعية العضوية، ونشأة أنماط اقتصادية استبدادية، إضافة إلى ما هو أكثر أهمية من ذلك، ألا وهو الدمار الشامل للموائل الطبيعية والبيئة.
ليخلص في كتابه إلى ضرورة إحياء النموذج الإسلامي للحكم الذي يمتلك من القيم الأخلاقية المجربة عبر إثنا عشر قرنًا على تقديم جديد في مجال الحكم والسياسة قد يسهم في حل مشكلات عالمنا المعولم بحداثته المأزومة، وهو الأمر الذي يقع على عاتق النخب المسلمة أن تقوم به هنا والآن تمامًا (راجع ص 26).
تناقض داخلي
يبدأ حلاق كتابه بتقرير صادم لغالبية النخب العربية المسلمة – وخاصة الإسلاميين منهم -، فهناك تناقض داخلي في مفهوم الدولة الإسلامية، مؤكدًا أن نموذجي الدولة الأوروبية الحديثة والحكم الإسلامي ما قبل الحديث متناقضان، ومن ثم فإن الحديث عن دولة إسلامية كما يقدمه الإسلاميون، هو ضرب من الاستحالة العقلية والعملية؛ فكلا النموذجين ينتمي إلى نطاق مركزي من المعرفة والممارسات والمفاهيم يختلف تمامًا عن الآخر، مما يجعل الجمع بينهما أمرًا مستحيلًا فهما ينتميان إلى عالمين مختلفين ومتغايرين ومتناقضين تمامًا من الأسس والقيم والمعايير والممارسات (راجع الصفحات من 19-24).
مفهوم النطاق المركزي
بسط حلاق أطروحته بشكل قوي ومتماسك بادئًا بتحديد مرتكز تحليله واستنتاجاته المتمثل في مفهوم النطاق المركزي (راجع الصفحات من 39-43).
فالنطاق المركزي هو نقطة انطلاق حلاق نحو تعريف النموذج الذي بنى عليه أطروحته في هذا الكتاب.
والنموذج الذي يطرحه حلاق هو نظام من المعرفة والممارسة التي تتقاسم نطاقها المركزي بنية معينة من المفاهيم تميزه نوعيًا عن النظم الأخرى الثانوية من الجنس نفسه، هذا النطاق له قيمه المركزية التي يعتبرها قيمًا مثالية تظل أهدافًا مرجوة ومميزة ومحلًا لأفعال، وأهداف قيمة – حتى لو لم تطبق أو تتحقق كاملة -، بل وحتى عندما تقوض القوى المنافسة ذلك التطبيق أو التحقق.
ومن خلال هذا النموذج الذي يقترحه حلاق لاستكشاف بنية النظامين الإسلامي والأوروبي للحكم يتناول نموذج الدولة الأوروبية الحديثة مقارنًا بنظام الحكم الإسلامي ما قبل الحديث ليتوصل إلى النتيجة التي قررها في مفتتح الدراسة حول استحالة ما يسمى بالدولة الإسلامية، فكلا النموذجين – الدولة الأوروبية الحديثة والحكم الإسلامي ما قبل الحديث – لديه نطاقه المركزي ونطاقاته الثانوية المتميز تمامًا.
الدولة الحديثة كابوس وليست حلمًا
يناقش حلاق نموذج الدولة الأوروبية الحديثة في فصول الكتاب السبعة، باعتبارها كيانًا ذا معنى وجوديًا وصالحًا بالمقارنة بنموذج الحكم الإسلامي، مفرقًا بين شكل هذه الدولة ومضمونها؛ فالمضمون متغير، بينما الشكل عبارة عن خصائص أساسية امتلكتها الدولة في الواقع لمدة لا تقل عن مائة عام، ولا يمكن تصورها كدولة من دونها، فهي أساس هذه الدولة، فقد يتغير مضمون الدولة بتغير المسيطرون عليها من ليبراليين أو اشتراكيين أو غيرهم، لكن هؤلاء بالرغم من تأثيراتهم المتنوعة على الدولة ومجتمعها، لا يستطيعون تغيير شكل الدولة، ولا يقدرون، فالشكل ليس مجرد عنصر جوهري لوجود الدولة، لا، بل هو الذي يكون ماهيتها، فالدولة منتج تاريخي بقدر تاريخية أي مؤسسة أو مفهوم نعرفه، وهذا الأصل التاريخي جزء أصيل من ماهية الدولة، ومن دونه لا نستطيع فهمها.
خمس خواص لشكل الدولة
نموذج الدولة الأوروبية الحديثة هذا يشتمل على خمس خواص للشكل لا يمكن تصورها بصورة صحيحة في هذه اللحظة التاريخية من دونها، وهي تترابط في علاقة جدلية، وهذه الخواص الخمس هي:
أولا: تكوين الدولة كتجربة تاريخية محددة: فهي ترتيب سياسي ثقافي جديد ومحدد، ذا أصل أوروبي على نحو مميز.
ثانيًا: السيادة وميتافيزيقيتها: فالدولة كما أنها حادثة تاريخية، فهي كيان مركب من أشياء حقيقية وخيالية وفكرية أسطورية ورمزية، ومفهوم السيادة من أهم خواص شكلها، فالدولة ليست مجموعة من المؤسسات المتمايزة فحسب، لا، بل هي بناء إيديولوجي يتغلغل في نسيج المجتمع الذي تحكمه الدولة، ويشكله.
وتقوم فكرة السيادة على أن الأمة صاحبة السيادة هي وحدها صاحبة إرادتها ومصيرها، وللسيادة أبعاد داخلية وخارجية، ولا يفقد هذا المفهوم أي من عناصر قوته حتى حين تصل قوى غير ديموقراطية إلى السلطة، فقد أثبت هذا المفهوم نجاحًا إلى درجة أن نظامًا يعلم الجميع أنه لا يمثل شعبه، بل يضطهده، يظل مخولاً للتحدث بصورة شرعية بالنيابة عن مواطنيه مادام يحوز شكل الدولة بعناصرها الخمس، وفي القلب منها السيادة.
ثالثًا: احتكار الدولة التشريع والعنف المشروع: فالإرادة السيادية تولد القانون الذي يعبر عن الإرادة، وعلاقة الاقتضاء والتبعية الضرورية بين السيادة وصنع القوانين تفسر السبب الذي يتوجب على الدولة أن تدعي ملكية قانونها، فما تتبناه يصبح لها، وفرض القانون يصبح تحققًا لتلك الإرادة.
رابعًا: جهاز الدولة البيروقراطي: فعبر الجهاز البيروقراطي العقلاني للدولة يعامل الكل على قدم المساواة، لا لجمهور الناس فحسب، بل أعضاء جهاز الدولة أنفسهم، فبالرغم من الثورات والأنظمة المتغيرة طوال قرنين من الزمان ظلت البيروقراطية بمنجاة عن التغيير كسمة رئيسية من سمات شكل الدولة، بل إن البيروقراطية والإدارة لم تصبحا مكونين دائمين في الدولة فحسب، بل تواصلان النمو المطرد في كل من تعقيدهما وشمولهما وتطرحان أسئلة دستورية عميقة في أي دولة حديثة.
خامسًا: تدخل الدولة الهيمني الثقافي في المجتمع: فالدولة والثقافة/ المجتمع تنتجان واحدتهما الأخرى بطريقة جدلية، وجدلية الدولة/ الثقافة من الخواص الرئيسية لشكل الدولة، إذ لا يمكن أن توجد دولة ناضجة ومستقرة دون هذه الجدلية، فالتماسك والقوة الداخليين لأي دولة لا يعتمدان على قدرتها على تنظيم المجتمع فحسب، بل يعتمدان على التوغل فيه ثقافيًا.
خصائص الشكل الخمس هذه لا تستطيع دولة الوجود أو الاستمرار من دونها، وأي تغيير فيها يتطلب بالضرورة، لا أن نعيد تقويم افتراضات أطروحتنا – كما يقول المؤلف – وبالتالي أطروحتنا ذاتها فحسب، بل أيضًا مجمل الخطاب حول الدولة منذ القرن الثامن عشر وحتى الوقت الحاضر، فهذه الخصائص مرتبطة بعضها ببعض بنيويًا وعضويًا، وأي تغيير في إحداها يستلزم تغييرًا في الأخرى، وهذه العلاقة الجدلية ليست واضحة تمامًا فقط بل هي أيضًا أساس لاستمرارية وجود الدولة الحديثة وعملها.
مؤسسات الدولة الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية
ثم يتناول حلاق مؤسسات نموذج الدولة الأوروبية الحديثة التشريعية والتنفيذية والقضائية منطلقًا من أن الإرادة السيادية منتج تاريخي يجسده قانون الدولة التي تعد تجسيدًا لهذا القانون، والقانون يعبر عن قوة جبرية تسانده، وكل ذلك غير منفصل عن الثقافة، لذا فالدولة تنتج جماعتها الخاصة وتمتلكها، وهي في سياستها وقانونها وثقافتها واجتماعها تمثل وحدة مترابطة بقوة، وتعني الوحدة البنيوية الداخلية للدولة الحديثة أن توزيع القوة القانونية لا يتقاطع مع كل خطة حياة فردية فحسب، بل أيضًا مع كل الوحدات التي تكون الدولة، لذا لا بد من تحديد العلاقة بين هذا النظام المعياري والمؤسسات التي تجسده، خاصة تلك المؤسسات التي تتخصص في فض المنازعات وتفعيل مبادئها الخاصة.
وليبدأ من هذه النقطة في شرح نظام الفصل بين السلطات في الدولة الحديثة باعتباره العمود الفقري، وأساس الحرية والحكم الديموقراطي، فالفرع التشريعي لا يجب أن يتمتع باستقلال كامل تفرضه طبيعته فحسب، بل يجب أيضًا ألا يفوض سلطاته، وخصوصًا إلى السلطة التنفيذية، ولا يمكن للدولة أن تصبح دستورية، وبالتالي ديموقراطية، إلا بتحديد هذا الفصل تحديدًا واضحًا.
لكن التجربة التاريخية حتى اليوم تقرر بأسى أن هذا الفصل لا يبدو ممكنًا، لأن الخطاب البلاغي عن الفصل ونظريته لا يفتقد الدعم المهم من الحقائق القائمة فحسب، بل يحجب أيضًا واقعًا يبدو فيه الفصل مشكلاً بقدر إشكالية الزعم بأنه أساس الحكم الديموقراطي، ويستعرض المؤلف الدراسات والتجارب الدستورية التي تؤكد دعواه تلك، مؤكدًا أن الفصل التام بين السلطات في بنى الدولة الحديثة مستحيل، ويؤكد كذلك أن هذا الأمر يطال أيضًا السلطات القضائية في الدولة الحديثة التي تميل دائمًا للتكيف مع النظام الحاكم أيًا كان نوعه، وتؤكد دائمًا على فكرة السيادة، فترسخ القضاء في نظام الدولة يفسر أيضًا علاقته بالسلطة التنفيذية، وهو الأمر الذي يستحيل معه الفصل بين السلطتين، ليستنتج من ذلك أن التوزيع الملائم للسلطات لم يتحقق قط في الدولة الحديثة.
بين القانوني والسياسي
يشدد المؤلف في سياق استعراضه لطبيعة الدولة الأوربية الحديثة ومأزقها على أن الزعم بوجود حكومة صالحة في حدود الدولة الحديثة تضعفه الدراسة المتفحصة لتنظيمها الدستوري، ويؤكد ذلك عبر مناقشته لمشكلتين معضلتين عويصتين توضحان بجلاء عبث الجري وراء نموذج الدولة الحديثة من وجهة نظره هما:
الأولى: المشكلة المتعلقة بنشأة القانوني، أو مشكلة التمييز بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، فالغرب الحديث مهووس باكتساب معرفة السيطرة، وترتبط هذه السمة بنيويًا بفكرة عصر التنوير عن الذات المستقلة، فالإنسان الحديث يمتلك من وجهة نظر شيللر إرادة قبلية ونضالاً متأصلا من أجل المعرفة، ينشأ من دافع فطري، وبناء قيمي متمركز حول الرغبة في السيطرة على العالم المادي، وبالمقارنة ببنى الفكر الشرقية، فإن الميتافيزيقا الغربية تقوم على وعي بالذات مختلف كليًا، وعلى تفسير للإنسان مختلف تمامًا بصفته صاحب سيادة على الطبيعة بأكملها.
فالإنسان خلق ليتملك الطبيعة ويحكمها حسب فلسفة عصر التنوير الميكانيكية، واتجاه الحداثة للسيطرة على الطبيعة أدى إلى تقنين مفهوم الموارد الطبيعية، وهو ما ينتج خطاب الموارد الطبيعية وممارسته، وهما خطاب وممارسة شديدا الاستغلالية والعنف، يتولدان بالضرورة من تجريد الطبيعة من كل قيمة، وحين تكون الطبيعة متوحشة وبليدة فإنه يمكن للمرء أن يتعامل معها من دون أي قيد أخلاقي، وهو ما يحدث بالضبط منذ أوائل القرن التاسع عشر.
فصل الحقائق عن القيم
وهي عامل رئيس وجوهري من عوامل مشروع الحداثة؛ ففصل المادة عن القيم أدى إلى ظهور ما سمي بالعلم الموضوعي والمنفصل في كل المجالات التي رعتها الدولة الحديثة وشكلته، وليست الدولة الحديثة وإرادتها السيادية، المتمثلة في القانون، جزءًا لا يتجزأ من رؤية العالم هذه فحسب، بل هي أيضًا واحد من معماريها الأساسيين.
وإذا كان هوبز وديكارت هما اللذان كيفا فكرة الانقسام بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون في البداية وبصورة مبسطة، وإذا كان هيوم هو الذي طرحها كإشكالية فلسفية، في حين ترجمها أوستن إلى الوضعية القانونية، فإن نيتشه هو الذي أعلى سقفها الوضعي بإنكاره الحاد صحة الانقسام كليًا عبرالتضحية بالقيمة، أو بما ينبغي أن يكون، فقد جرد فلسفته من كل قيمة وجعل ما ينبغي أن يكون، فارغًا وخادعًا بالكلية، ليقلب نيتشه الأخلاق الأوروبية المسيحية رأسًا على عقب.
الثانية: مشكلة نشأة السياسي: حيث صاحبت نشأة الدولة القانونية بهيئتها الوضعية نشأة السياسي؛ فالسلطة هي الإله الجديد يعود نسب السياسي، شأنه شأن القانوني، إلى اللحظة التي انفصل فيها ما هو كائن عما ينبغي أن يكون، وعندها ظهرت السياسة إلى الوجود، راحت تكابد من أجل السياسة، من أجل ذاتها، أصبحت السلطة والقواعد الوضعية غير قابلتين للانفصال، مثلما أصبح السياسي والقانوني أشبه بالهوية، أو هوية كاملة داخل الدولة.
ففي العالم كما هو قائم، السلطة وليس الأخلاق، هي الحكم النهائي فيما يتعلق بكل ما هو سياسي، فالسياسي ظاهرة شاملة، متغلغلة، تقتحم كل المجالات، بل تقتحم الوجود نفسه، و مثل ما إن عصورًا أخرى توصف بأنها العصر البرونزي أو العصر التكنولوجي، فالسياسي أيضًا هو اسم لعصر إنه مجال للفعل يتغلغل في الحياة بأكملها، ويعتبر أي بحث فيه بمنزلة البحث في نظام الأشياء البشرية الحديث، فالسياسي هو التجلي الأكبر لمشروع التفريق بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وبين الحقيقة والقيمة.
وينشأ السياسي بالتفرقة بين العدو والصديق، وعلى وجه الدقة ينشأ في اللحظة التي يولد فيهاهذا التمييز، فعندما يشرع مجتمع ما في النظر إلى وجوده باعتباره وجودًا عنيفًا وحربيًا، أو على أنه في حالة الطبيعة، التي يكون فيها البقاء مهددًا على الدوام، ويعتبر العنف والعداء ركيزتا السياسي وقوته المضمرة، ولكن يظل التمييز بين الصديق والعدو هو قوام السياسي دائم الحضور والمتحقق، ولتصبح الدولة ليست موضوع السياسة الوحيد فحسب بل وعاؤها أيضًا، فلا أحد يستطيع العيش خارج المواطنة، حيث لا يمكن لأحد أن يجد مساحة مستقلة خارج الدولة، فالمواطن هو مواطن الدولة، بقدر ما الدولة هي دولة المواطن (ص 176-177).
مجمل القول أن الذات الحديثة هي كيان متجنس قومي أو منتم إلى أمة، أي أنها ذات متماهية مع الأمة كطريقة حياة، فالمواطن يؤسس المعنى السياسي لمواطنته من خلال قبوله معنى الدولة والإقليم والأسرة الأكبر – أي الأمة، والتشبع بها كطبيعة ثانية، وإحدى النتائج المترتبة على ذلك أن يرى المواطن ذاته – أي مواطنته – مالكة للقدرة على التضحية بالنفس من أجل الدولة، فالدولة الحديثة لا تتحقق بشكل كامل عندما تحميني من العنف، بل عندما تجندني في قواتها المسلحة، الدولة الحديثة هي الإله الجديد الذي يتحكم في الحياة والموت على أساس إرادة قانونية سيادية ووضعية؛ فالدولة ككيان أخلاقي، لا يمكن دعمها حتى نظريًا، فهذا الأمر يصطدم بحقائق الدولة. فالدولة الحديثة لا يمكن أن تقام على أسس أخلاقية، كما لا يمكن أن تعمل وجوديا ككيان أخلاقي، و أي حجة تقدم في هذا السبيل هي حجة سياسية، أو طريقة لإضفاء الشرعية على طموح سياسي.
إنتاج رعايا الدولة
يؤكد حلاق أن شكل الضبط الذي أنتجته الدولة الأوروبية كان متميزًا، وموجهًا إلى صوغ ذاتية المواطن الجديد الذي يتعرف إلى نفسه في الدولة، ويكون مستعدًا للموت من أجلها، وقد أدت التمايزات الاجتماعية والاقتصادية الصارخة، وظروف العمل الرهيبة والحكم الملكي الذي لم يكد يخرج من عصر الحكم المطلق إلى نشأة عنف العامة، والمجتمعات الحضرية الجامحة، ما دفع بدوره الدولة إلى تكوين جهاز شرطة منظم مزود جيدًا بالعناصر، ولم يكتف هذا الجهاز بمواصلة حضوره في تلك المناطق الحضرية، بل طال بسطوته الريف الذي كان بعيدًا عن رقابة الحكام في السابق، لم تفلت منه قرية مع نهاية القرن التاسع عشر، و أنشئت السجون لدعم هذا الجهاز الشرطي، بيد أن القوة المادية الفجة لم تكن كافية، وكان لزامًا على الشعب أن يتعلم طرق السلوك القويم أي النظام الاجتماعي، وكان ذلك يعني في نظام رأسمالي شامل، القدرة على العمل والإنتاح، فكانت المدرسة هي الحل التي راحت تبزغ في كل مكان، وأصبحت بالتوازي مع تقوية جهاز الشرطة عنصرًا اجتماعيًا اعتياديًا في نهاية أواخر القرن التاسع عشر.
ومع نظام التعليم الإجباري دخل الأطفال في نظام صارم، يحقن عقولهم بأفكار ومثل معينة ومع نضوج المؤسسات التعليمية والبيروقراطية وتلك القائمة على الضبط اكتمل إعداد ذات الدولة وباتت قادرة على استخدام الذات المدربة كمهارة مكتملة التطور، أو حتى كأداة يدعم أداءها ولاء مفروض ذاتيًا، وحماسة نفعية كفؤة، فلم يعد حاكم هو الذي يحكم، ولا أي جماعة قابلة للتحديد، بل مجمل المؤسسات الاجتماعية والبيروقراطية القائمة على الدولة.
ومن خلال هذه العمليات التي تجري داخل الدولة، تدجن الذات وتصبح مسالمة سياسيًا، والمجال الأكاديمي خير مثال على ذلك: فالأكاديمية هي مؤسسة دولة بمعانٍ ثلاثة على الأقل: الأول تبنيها غير المشروط وغير النقدي للمنطق الوضعي الذي تتبناه الدولة، والثاني القبول الطاغي بالدولة كظاهرة مسلم بها: أي التفكير في الدولة بل في العالم من خلال الدولة، والثالث الدور الذي تؤديه الأكاديمية في حكم الدولة.
القومية والمؤسسات الثقافية والبيروقراطية
يؤكد حلاق على أن الاشكال المؤسسية والمعرفية والبيروقراطية التي تنتج ذات الدولة المطواعة سبقت صعود القومية في البداية، ثم تزامنت معها في عملها، بمعنى أن القومية لم تفترض هذه الأشكال فحسب – وهي أشكال كانت محورية في بناء الدولة الحديثة -، بل مثلت أيضًا نتيجتها الملازمة، فالقومية تؤسس الجماعة كنظام اجتماعي وتتأسس بها، وهي لا تتعدى التاريخ فحسب، بل تشكله، فالقومية والدولة متجذرتان واحدتهما في الأخرى.
الدولة ونزعتها القومية اللتان تجندان الجماعة كأعضاء فاعلين متفانين اجتماعيًا ونفسيًا ويمكن التضحية بهما سياسيًا، إنما تمثلان إلهين في واحد، وهذا هو الإطار السياسي والبعد الميتافيزيقي اللذان يولد في إطارهما المواطن، وهما يشكلانه على صورتهما حتى يمكنه إعادة إنتاجهما بحد ذاتهما على نحو دائم.