ثمانية عشر شهرًا كاملة وطرابلس العاصمة الليبيبة ترضخ تحت حكم عدد غير معروف من الميليشيات المسلحة، التي تختلف في انتماءاتها، بينها من له علاقة مشبوهة بتنظيم داعش، وأخرى تنتمي لمدينة مصراتة التي عرفت أخيرًا بتأييدها للاتفاق السياسي، فهل تفلح حكومة السراج الوطنية التي تم الاتفاق عليها مؤخرًا بعد اجتماعات الصخيرات في الدخول للعاصمة وبدء ممارسة مهامها المنوطة بها، أم ستبقى ليبيا مقسمة كما هو واقعها الآن؟
غياب الدعم وقوة الميليشيات
المشكلة المحورية من وجهة نظر كافة المحللين هي كيفية أداء تلك الحكومة لمهامها، ما لم يرافقها سند سياسي على أرض الواقع، في خطوة تبدو أكبر من قدراتها، لأنه لا يمكن لأي سلطة تنفيذية مهما أوتيت من أشكال الدعم الخارجي، أن تفرض برنامجها في فرض استتباب الأمن والقانون والسيطرة على الميليشيات، من دون أن تلتف حولها معظم القوى والأطراف السياسية المتصارعة.
على أرض الواقع شكل إعلان فايز السراج رئيس الحكومة مؤخرًا، بقرب وصول حكومته للعاصمة طرابلس ضربًا من التسرع جانبته الحكمة كثيرًا، فكيف يمكن لحكومة لا تملك أدوات السلطتين القضائية والتشريعية الانتقال إلى العاصمة، قبل تفتيت مصادر القرار الموزعة بأيدي الميليشيات المسلحة، ومن أين لها أن تقر خطة انتقالية طموحة تعالج الإشكاليات الأمنية، وتؤسس لمرجعية السلطة القائمة على احترام القانون، في ظل التناحر الكبير بين تلك الميليشيات، فالميليشيات والمفتي بطرابلس يرفضان وجودها بينما تدعمها بعض قوى مصراتة التي فشلت قواها المسلحة أمام تلك الميليشيات سابقًا، ما يعني أن المراهنة على وجود عدد من الكتائب المسلحة المنتمية لمصراتة، وعدد آخر موالٍ لها بالعاصمة، لا يقدم حماية كافية للحكومة في مقرها بجنزور غرب العاصمة، وربما يزيد من الانقسامات الداخلية، ويشعل المواجهات المسلحة بالمشهد المتهاوي داخليًا من الأساس، وعلى السراج أولاً الحصول على ثقة البرلمان، لينقل لها الصفة التنفيذية، لكي لا تزيد الهوة بين الطرفين المتناحرين.
صراع المصالح
ما يدعم تخوف المحللين هو أن حكومة السراج تعاني رفضًا آخر من قوات اللواء خليفة حفتر، التي تسعى لعرقلة أداء مهامها ومهام المجلس الرئاسي المتفق على تشكيله، وهي اعتراضات قادها اثنين من المجلس الرئاسي نفسه “على القطراني وعمر الأسود”، ممثلا مدينة الزنتان الغربية.
المتتبع لحالة المشهد السياسي الليبي يدرك تمامًا صعوبة التوصل لاتفاق مرضٍ بين جميع الأطراف حول حكومة السراج المقيم حاليًا بتونس، فهي مرفوضة تقريبًا من جميع الأطراف المتناحرة حتى حكومة البيضاء المعترف بها دوليًا، ونظيرتها بطرابلس التي تهيمن عليها الميليشيات بالغرب، واللتان تخوضان معا نزاعًا مسلحًا على الحكم منذ ما يقرب من عام ونصف راح ضحيته الآلاف.
حكومة هشة
حكومة الوفاق ولدت بعد إعلان “المجلس الرئاسي الليبي”، المنبثق عن اتفاق سلام تم توقيعه بين تسعة أعضاء يمثلون مناطق ليبية مختلفة، ووقع من 100 نائب من ضمن 198 نائبًا هم قوام أعضاء البرلمان المعترف به دوليًا، ومقره طبرق في شرق ليبيا، لكنها إلى الآن لم تحصل على الثقة تحت قبة البرلمان؛ بسبب العجز عن تحقيق النصاب القانوني لجلسات التصويت على مدى أسابيع، في ظل رفض الجميع داخليًا لها كونها كما ترى الأطراف المتنازعة “حكومة مفروضة من الخارج ولا تتمتع بإجماع الليبيين”.
في المقابل، دعا رئيس بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا مارتن كوبلر لـ “البدء بالتسليم السلمي والمنظم للسلطة لحكومة الوفاق”، فيما طالب كذلك المجتمع الدولي بـ”العمل مع حكومة الوفاق الوطني بصفتها السلطة الشرعية الوحيدة”، وأصدر مجلس الأمن من جهته بيانًا أعلن فيه عن تأييده لمخرجات لقاء روما ديسمبر 2015، حول دعم حكومة الوفاق الوطني، باعتبارها الحكومة الشرعية الوحيدة في ليبيا.
تحديات كبيرة وسيناريو وحيد
لذلك تتلخص تحديات الحكومة الجديدة حول كيفية معالجة الاحتياجات الإنسانية لكافة الليبيين وإرساء حوار أمني شامل يحقّق الأمن والاستقرار بكافة ربوع البلاد، وقيادة حرب شاملة ضدّ الإرهاب الذي صار يمثّل عائقًا أمامها والانتباه خاصة إلى مدينة بنغازي وإلى بقية المناطق المنكوبة، وعودة المهجرين والنازحين وتحسين الأوضاع المعيشية لأبناء الشعب الليبي، والسيطرة على 22 مليون قطعة سلاح منتشرة بأيدي أبناء البلاد.
واقعيًا لا يمكن لأي حكومة مهما كانت قوتها التعاطي مع المشهد السياسي الحالي بكل زخمه المسلح، ولا سبيل إلى ذلك – بحسب المراقبين – سوى بإقرار دولي وإجماع كبير لصناع القرار في الخارج قبل الداخل، لفرض وجود تلك الحكومة في العاصمة وباقي المدن الليبية بالقوة، وربما يكون النموذج اليمني رغم عدم اكتمال فصوله إلى الآن، هو الأقرب للتحقق، بأن يقوم تحالف إقليمي تشارك فيه عدد من دول الجوار المتضررة مثل مصر وتونس والجزائر بدعم من أطراف خليجية أولها الإمارات وأخرى دولية مثل إيطاليا وفرنسا وبريطانيا وحلف الناتو، بالتدخل دبلوماسيًا ثم عسكريًا إن اقتضى الأمر، لفرض الحكومة الجديدة بالقوة على الجميع لتستتب الأمور، وهو السيناريو الأقرب في حال استمر رفض القوى المتنازعة على المناصب داخليًا لتلك الحكومة، باعتبار أن وجود حكومة شرعية، تملك وحدها سلطة القرار في ظل التشظي الحالي بالداخل، أفضل بكثيرمن وضع سائب لا سلطة فيه إلا لحملة السلاح، وعلى الجميع العمل على إرسال رسائل الاطمئنان القوية والمشجعة والمحذرة للقوى الداخلية، بأنها جاءت لتصمد ولتنهي الالتباس الحالي بعيدًا عن لغة السلاح الموزعة بين الميليشيات والقبائل والأطياف السياسية المدعومة بأجندات خارجية لأهداف أبعد تمامًا عن مصالح الليبيين.
فهل تنجح الحكومة الجديدة في دق ناقوس الخطر الدولي والإقليمي في نفوس لم تحركها صور المجازر وتغلغل الميليشيات الإرهابية؟ وهل سيتوجه المجتمع الدولي لفرض علاج صادم ينهي الجدل الحالي، ويصيغ مشروع بناء الدولة المقبلة، على أنقاض الأوضاع الراهنة، أم ستتجه دويلات ليبيا الحالية إلى ما هو أسوأ؟ سؤال إجابته فقط في جعبة من يملك أدوات اللعبة وهم ليسوا ليبيين في كل الأحوال.