الحركة الإسلامية والبديل المفقود

كتبت من قبل عن غياب الرؤية عند الحركة الإسلامية بعد الانقلاب العسكري، والتي لا تزال غائبة رغم مرور سنوات، وحدوث أحداث ومتغيرات كثيرة، لم تكن الرؤية وحدها هي الغائبة، بل كانت القدرة على إيجاد الحلول وطرح البدائل غائبة أيضًا، والإصرار على السير في طريق واحد، والتمسك بالبديل الواحد دون إعمال الفكر فيما هو متاح من بدائل أو استجد من حلول؛ والتي ربما تكون أفضل أو بها يتحقق المرجو.
وتكمن المشكلة في غياب الحوار الجمعي، وعدم استفزاز العقول، والإعراض عن الآراء المختلفة، وغلق الباب أمام حرية وشجاعة النقد والمراجعة والنصيحة أيًا كان مصدرها وأسلوبها، وغياب دراسة المقترحات والآراء بحيادية ومنهجية وتمهل عبر تشكيل لجنة علمية متخصصة تُحلل وتناقش بعقلية علمية بعيدًا عن المذهبية والحزبية والتراشق وإلقاء التهم.
والحركة في أَمَسِّ الحاجة إلى إشاعة روح الحوار والجدال، وتشجيع أفرادها على جُرأة وحرية الطرح وإعمال الفكر والعقل، وتضمين الإبداع وطرق طرح الأفكار الجريئة ودراسة الاحتمالات والبدائل وكيفية التفاوض الفعال ضمن منهجها التربوي، وكان أبوحنيفة يطرب لضوضاء يُثيرها في المسجد تلامذته عندما يحتدم نقاشهم وتستعر بينهم التحديات التأملية والمعارك التأويلية، حتى وصلوا إلى الإبداع فقرت عينه، وهذا ما أكده مُنَّظر الحركة الكبير محمد أحمد الراشد في “المسار” حين قال: “إن ضمور الفكر القيادي الاجتهادي الحر يكاد يكون مشكلة ملموسة أينما ذهبنا، فعدد الدعاة كثير، ولكن من يملك منهم هذا الفكر قليل، ومعظم الدعاة يُقلدون القيادة تقليدًا جامدًا، ويُنفذون تعليماتها حرفيًا، وقد يصح في بداية عمر التنظيم أن تُعَود الدعاة سمت تلقي الأمر والمسارعة إلى الطاعة، وتُضيق عليهم مجال النقاش، خوفًا من الجدل والتخذيل، ولكن أيام الرخاء ينبغي أن تُستغل لتعويدهم على إبداء المشورة، ليتأصل فيهم الفكر القيادي، وإلا فإن الدعوة إذا خسرت في المحن قادتها، بقتل أو سجن أو تهجير، كان الجيل القيادي الجديد الذي يأخذ محلهم ليقود لا يعرف كيف يشتق خطة تلائم الظرف الجديد، بل يجمد علي الخطة الأولى”.
و”ابتكار الحلول والبدائل” هو المبدأ الثالث من المبادئ الخمسة الرئيسية لمشروع التفاوض في جامعة هارفارد، والذي يدعو إلى عدم الاكتفاء ببديل واحد، وإنما ينبغي البحث عن عدد من البدائل التي تحقق المصلحة، وقد استخدم هذا المشروع بنجاح، في مفاوضات السلام بمنتجع كامب ديفيد 1978، وفي مفاوضات تحرير الرهائن الأمريكيين في السفارة الأمريكية في طهران إبان الثورة الإيرانية.
ويؤكد الدكتور علي الحمادي علي: “إننا قادرون أن نأتي بعدد كبير من الاقتراحات والبدائل والخيارات التي يمكننا بها إقناع كثير من الناس لو أننا أعملنا عقولنا، واجتهدنا في البحث، وتعمقنا في التأمل، وقرأنا ما تحت السطور، واستعنا قبل ذلك وبعده بالله عز وجل”.
ولسائل أن يسأل ولماذا لم تقدم أنت البدائل وتطرح الحلول؟ وأنا هنا لست في مقام تقديم البدائل وتحليلها والاختيار من بينها، وربما قام بذلك غيري/ وربما أفعل ذلك لاحقًا بتفصيل، أما الآن فأنا هنا أصرخ في النائم، وأُنبه الغافل، وأُشخص الداء، وهذه هي المرحلة الأولى والأهم، ليأتي بعدها وصف العلاج ناجعًا.
ومنذ الانقلاب العسكري، والحركة الإسلامية وفي القلب منها جماعة الإخوان المسلمين يُديرون الحراك بنظرية رد الفعل وليس الفعل، لأنه لم يكن مطروحًا في أدبياتهم أو مُخيلاتهم أن يعود العسكر إلى الانقلابات، فذاك زمن فات! ومن ثم لم تكن هناك الجاهزية والاستعداد ولو بخطة وبدائل، إذا لا سمح الله وقع انقلاب أو قتل أو فض أو اعتقال، مع أن بعض المفكرين وقادة العمل الإسلامي جهروا ونصحوا باحتمال حدوث انقلاب.
كان التظاهر هو رد الفعل الوحيد والمسار الإجباري بعد وقوع الانقلاب وحتى كتابة هذه السطور، يقوى ويضعف، وتزيد أعداده وتقل، حسب المواجهة الأمنية، حتي في أوقات ذروته بعد الفض وفي مناسبات عديدة كانت الأعداد بمئات الآلاف ولم يتم استغلالها والاستفادة منها، وفي المقابل ازدادت أعداد المعتقلين، وكثرت حملات الخطف والإخفاء القسري، مما كانت نتيجته تزايد موجات الهجرة إلى الخارج، خوفًا من البطش والملاحقة، أو فرارًا من الأحكام الجائرة والظالمة.
وهنا سؤال يطرح نفسه، هل بعد ما يقرب من ثلاث سنوات من عمر التظاهر قد تم مراجعة ودراسة هذه الوسيلة؟ البعض يرى بأنها لم تنل من الانقلاب وغير مُجدية ولن تستطيع وحدها إسقاط الانقلاب، والبعض يرى المسار العنيف والمواجهة الانتقامية، وهناك من نادى بالتفاوض مع النظام، وهناك من قدم مبادرات مصالحة وغير ذلك، وانقسم الصف الإخواني بين من قال بسلمية التظاهر وسلميتنا أقوى من الرصاص، ولن نحيد عن مبدأ السلمية مهما كانت التضحيات، وهذا الفريق لم يقدم بدائل أو وسائل لحماية المتظاهرين وتقوية الفعاليات، وهناك من قال بأن التظاهرات بشلكها الحالي فادحة الثمن، ولن تستطع إنهاء الانقلاب وعودة الشرعية، ويجب المواجهة القوية وأسموها السلمية المُبدعة ولم يقدموا هم أيضًا وسائل وطرق المواجهة ودراسة الإمكانيات المتاحة ومدى فعاليتها.
فقط كل ما رشح على السطح هو هذا الانقسام حول بديل واحد وهو التظاهر، والخلاف حول شكله وأسلوبه، ولم يتم طرح غيره من البدائل لمناقشتها واختيار ما يناسب الوقت، فهل عقمت العقول عن إيجاد بدائل؟!
وكنت قد سألت الأستاذ فهمي هويدي عن مخرج للأزمة، فقال الحل سيأتي من داخل الجيش وليس من خارجه، قلت له كيف؟ فاعتذر بلباقة ولم يكمل.
تأتي البدائل عادة من طرح أسئلة تبدأ بماذا لو؟ ماذا لو سلطة الانقلاب أفرطت في القمع والقتل والخطف؟ ماذا لو تم إعدام القادة الذين في السجون ؟ ماذا لو خفت التظاهر وقلت الأعداد وأصاب الناس الملل؟ ماذا لو تمت التضحية بالسيسي مع بقاء النظام؟ ماذا لو طال عمر الانقلاب وظل استنزاف الحركة بشريًا وماليًا وبدنيًا؟ ماذا لو كانت هناك دعوة أكيدة للمصالحة؟ ماذا لو كفر الشباب بالسلمية ومالوا للعنف؟ ماذا لو… ؟ ماذا لو… ؟ إلى سبعين سؤالًا.
إن واجب الوقت يُحتم على الحركة دراسة الواقع الداخلي وأحداث المنطقة والتغيرات العالمية ومن ثم ابتكار حلول جديدة وتحديد أفضل البدائل بعد دراستها ومناقشتها وطرحها للرأي والمشورة لتتوحد حولها الجهود والطاقات.