“عملية الحوار الوطني يجب أن تتجاوز دوافعها المعلنة بواسطة القوى السياسية الآن، وأهدافها التقليدية وفق هذا الأفق القاصر، فكلا المعارضة والنظام لم يحتملا فضيلة الحوار، وظلت جهودهما المشتركة تقتل أي فرصة للحل عبر الحوار، وذلك من خلال استسلام المعارضة لعدم جدية النظام وعدم جدوى سعيها لتغيير هذا الوضع، بوضعها العربة أمام الحصان، وتقديم اشتراطات تهيئة المناخ كأساس للدخول في الحوار من جهة، وتأكيد النظام لعدم جديته باعتماده الحوار أداة لتقسيم المعارضة، ووسيلة لضمان استمراريته من جهة أخرى….”، تلخص هذه العبارات في مضمونها حالة الشد والجذب المغلفة بضبابية الرؤية بين نظام البشير وقوى المعارضة، وتجيب على كثير من الأسئلة التي فرضت نفسها مؤخرًا على طاولة الحوار الفكري والمجتمعي بشأن الأزمة السودانية.
فمنذ انطلاق أولى جولات الحوار الوطني بين نظام البشير والمعارضة السودانية أوائل 2013 والشارع السياسي السوداني يحيا حالة من المخاض العثر ما بين الأمل في تهدئة الأمور واستعادة الدولة الأغنى إفريقيًا في مواردها – غير المستغلة – عافيتها مرة أخرى، وبين القلق من الولوج في مستنقع الحروب الأهلية التي تلقي بظلالها القاتمة على المشهد ما بين الحين والآخر.
وما بين إملاءات المعارضة وتشديدها على الاستجابة لكافة مطالبها دون أي تقصير، وبين تعنت نظام البشير وسعيه لإفراغ الحوار من أي خطوات جادة على أرض الواقع، يحيا ملايين السودانيين حالة من الترقب المصحوب بالحذر حيال ما يمكن أن تسفر عنه الأيام القادمة.
اتفاقية “نيفاشا” وفقدان الثقة بين النظام والمعارضة
في الـ 9 من يناير عام 2005 وقعت الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان اتفاقية السلام الشامل “نيفاشا” والتي أنهت الحرب الأهلية في إفريقيا التي امتدت لـ21عامًا، ومنذ اللحظة الأولى من تنفيذ اتفاقية السلام عمليًا على الأرض، شهدت علاقة الشريكين، “المؤتمر الوطني” الحاكم و”الحركة الشعبية”، عمليات شدّ وجذب، وكان الطرفان في حالة نزاع وخلاف مستمرين، إذ شكّلت وقتها قضية تقاسم النفط، ومسألة منطقة أبيي، ضربة سلبية للاتفاقية.
وشهدت الفترة الانتقالية انسحابًا كاملاً لوزراء “الحركة الشعبية” من حكومة الوحدة الوطنية، احتجاجًا على أحداث وقعت في أبيي، واتهمت الحركة الحكومة بإشعالها في مايو 2008، إلى أن نجحت الوساطة الإفريقية بقيادة ثامبو أمبيكي، وبضغط من المجتمع الدولي، في توقيع الطرفين مرة أخرى، على خارطة طريق لحل مشكلة أبيي، وفقًا لبروتوكول المنطقة، الوارد في اتفاقية السلام، لتعود بعدها الحركة إلى الحكومة.
وما إن انفصل الجنوب حتى تحولت الحركة الشعبية إلى ما يشبه “المعارضة” نادرًا ما تتوافق مع “المؤتمر الوطني” في قضاياه المطروحة أمام البرلمان بدلاً من كونها شريكًا في الحكومة، فضلاً عن سحبها نوابها أكثر من مرة، من جلسات البرلمان، عند احتدام الخلافات بينهما، ولا سيما فيما يتصل بقانون الاستفتاء والمشورة الشعبية لمنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، وهو ما أفقد الثقة بين الجانبين.
ويعتبر مراقبون أن ما يمرّ به السودان وجنوب السودان حاليًا من حروب داخلية وتوتر في العلاقات، نتاج طبيعي لاتفاقية السلام الشامل، التي ولّدت ثنائية بضغط دولي، كان كل التركيز فيها، منصبًا على إتمامها، أي فصل الجنوب.
ورأى المجتمع الدولي أن “تصرفات الشريكين طيلة الفترة الانتقالية، لم تكن تشير لرغبة أي منهما في العمل من أجل أن تكون الوحدة جاذبة للجنوبيين، بل عمدا إلى تنفير الجنوبيين من الوحدة، عبر ممارستهما وتنفيذهما للاتفاقية”.
شروط الحوار ما بين التنفيذ والتعجيز
حدد تحالف أحزاب المعارضة السودانية أربعة شروط رئيسية لتهيئة المناخ للحوار، مشيرًا إلى أن الإخلال بأي من تلك الشروط يعد خرقًا واضحًا وتعبيرًا عن سوء نوايا النظام في تفعيل الحوار الوطني، والشروط المحددة هي: أولاً: الوقف الشامل للعدائيات في مناطق الحرب، ثانيًا: إطلاق سراح المعتقلين، ثالثًا: إلغاء القوانين المقيدة للحريات، رابعًا: أن تشرف سلطة انتقالية تتشكل من كافة القوى السياسية والمجتمع المدني على تنفيذ أي اتفاق سياسي بين أطراف الأزمة السودانية.
عدد من الخبراء أكدوا أن شروط المعارضة للحوار تعد نوعًا من التعجيز أمام السلطات الحاكمة، إذ إنه ليس من المنطقي أن تقدم السلطة كل هذه التنازلات في الوقت الذي تفرض فيه المعارضة شروطها دون إثبات أي من مؤشرات حسن النوايا.
الخبراء أشاروا أيضًا أن الشروط التي وضعتها قوى المعارضة تهدف لإحراج نظام البشير أمام الرأي العام الداخلي والخارجي على حد سواء، ملفتين إلى أن نية المعارضة في التحاور ضعيفة جدًا، وهو ما تجسد في غياب معظم قياداتها خلال مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد في أكتوبر الماضي والذي دعا فيه البشير جميع قوى المعارضة فضلاً عن المنظمات الشعبية والمجتمعية.
وشهد المؤتمر مقاطعة لافتة من القوى السياسية المعارضة الرئيسية والحركات المسلحة، التي تقاتل الحكومة في ثماني ولايات من بين ولايات البلاد الثمانية عشرة، بينما شاركت فيه عشرات الأحزاب الصغيرة أو الموالية، وحزب المؤتمر الشعبي بقيادة الترابي، وجناح من الحزب الاتحادي الديمقراطي المشارك أصلًا في الحكومة.
الرئيس السوداني عمر البشير تعهد بتنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار الوطني باعتبارها أوامر الشعب، واصفًا قادة فصائل المعارضة الذين قاطعوا المؤتمر بأنهم “مرتزقة تمولهم المخابرات الأمريكية والإسرائيلية”.
ونفى البشير أن تكون مبادرته إلى عملية الحوار الوطني ناتجة عن ضعف أو إملاءات بل هي إيمان راسخ بأن الحوار هو السبيل لمعالجة أزمات البلاد، وفق قوله، مضيفًا: “نقول لكل دول العالم والدول الاستعمارية بما فيها الولايات المتحدة إن السودانيين أحرار”.
ووصف الرئيس السوداني مخرجات الحوار المجتمعي، الذي شاركت فيه منظمات دينية ونسوية وطلابية وثقافية ورياضية، بأنها رسالة واضحة من الشعب السوداني، مؤكدًا أن اللجنة العليا التي تدير الحوار حاليًا لن يتم حلها بعد انتهاء هذا الحوار، بل ستواصل عملها لمراقبة تنفيذ مخرجاته.
ما بين المراوغة والاتهامات المتبادلة
وفي المقابل شنّ حزب المؤتمر السوداني المعارض هجومًا شرسًا على حزب المؤتمر الوطني الحاكم، حيث اتهمه بعرقلة جهود الحوار الوطني من أجل مصالح خاصة بقياداته.
الحزب المعارض أكد في بيان له أن الحزب الحاكم ظل يراوغ ويتلاعب بالمفردات لإفراغ قضيتي مباحثات السلام والحوار الوطني من أي محتوى حقيقي يوقف الحرب ويؤدي إلى تحول ديمقراطي حقيقي، مضيفًا أن الحكومة تشارك في جولات التفاوض وفي الوقت ذاته ترسل طائرات الأنتنوف المحملة بالقنابل والمتفجرات لقصف المواطنين المدنيين العزل في جبل مرة وجبال النوبة والنيل الأزرق وتغلق المسارات أمام توصيل احتياجات النازحين الإنسانية الأساسية.
وأشار البيان إلى أن مشاركة نظام المؤتمر الوطني في المفاوضات تتم لتحقيق أغراض لا علاقة لها بالحل السلمي لقضايا الشعب السوداني، بل لأجل تكتيك مرحلي للتشويش على الشارع السوداني وتسويق نفسه للمجتمع الدولي وتقسيم جبهة المعارضة السودانية.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقبل أيام من رفع لجان الحوار الوطني توصياتها النهائية، أثار أعضاء بتلك اللجان الجدل بعد اتهامهم لأمانة الحوار بتحريف التوصيات وتبديلها، فضلاً عن التأكيد على أن هذا التحريف كان برعاية الرئيس عمر البشير وهو ما ألقى بظلاله القاتمة على المشهد السياسي برمته.
رئيس لجنة إسناد الحوار الوطني عمار السجاد ذكر في تغريدة له على مواقع التواصل الاجتماعي أن توصيات الحوار قد تعرضت للتزوير من خلال رفع توصيات مخالفة لما اتفق عليه في لجنة الحقوق والحريات السياسية، ومنها ثيقة الحقوق والتعديلات في القانون الجنائي والقوانين المقيدة للحريات والآليات، مبينًا أن ذلك سينهي آمال الوفاق والتوحد حول القضية الوطنية ناعيًا بذلك الحوار والتوافق الوطني من بعده، بينما رفضت الأمانة العامة للحوار الوطني هذه الاتهامات، ونفت تأثيرها على أي مرحلة من مراحل الحوار، وقال أمينها العام هاشم علي سالم إن أمانته لم تتدخل مطلقًا في أي توصية قدمت من اللجان.
أما الأمين السياسي والناطق الرسمي باسم وفد حركة تحرير السودان، عبد الله خليل فلفت إلى ما أسماه القلق من محاولة بعض الأطراف عرقلة عملية الحوار “من خلال تغيير التوافقات التي تمت بشأن بعض مخرجاته”.
وفي المقابل، استبعد عضو لجنة قضايا الحكم وتنفيذ مخرجات الحوار فيصل ياسين إمكانية تزوير مخرجات الحوار “لأن القوى السياسية المشاركة فيه حريصة على أن تفتح توصياتها الباب لخروج البلاد من عنق الزجاجة الذي تعيش فيه الآن”.
ويرى ياسين أن بروز اختلافات بين القوى السياسية داخل اجتماعات الحوار الوطني أمر طبيعي لا تأثير له على نتائج الحوار وما يمكن أن يضيفه للتجربة السودانية.
الحوار الوطني.. استراتيجية غائبة
الباحث السوداني محمد فاروق، أكد أن عملية الحوار الوطني يجب أن تتجاوز دوافعها المعلنة بواسطة القوي السياسية الآن وأهدافها التقليدية وفق هذا الأفق القاصر، فكلا المعارضة والنظام لم يحتملا فضيلة الحوار، وظلت جهودهما المشتركة تقتل أي فرصة للحل عبر الحوار، وذلك من خلال استسلام المعارضة لعدم جدية النظام، وعدم جدوى سعيها لتغيير هذا الوضع بوضعها العربة أمام الحصان، وتقديم اشتراطات تهيئة المناخ كأساس للدخول في الحوار من جهة، وتأكيد النظام لعدم جديته باعتماده الحوار أداة لتقسيم المعارضة، ووسيلة لضمان استمراريته من جهة أخرى.
فاروق نوه إلى أن عملية الحوار الوطني بجب أن تؤسس لما تم إغفاله في بدايات تأسيس الدولة الوطنية من قبل الرعيل الأول للحركة الوطنية – أو ما يعرفه البعض بالعودة لمنصة التأسيس – حيث يجب أن تستصحب ما وصل إليه العالم من مفاهيم في تطوره ونموه وتجاربه في تجاوز أزماته، حوار يفضي لتأسيس قوانين وقيم للحكم طالما تجاوزتها السلطة الحالية والتي سبقتها، قيم تتأسس عليها أجهزة الدولة وأهدافها الإستراتيجية، وصفات ووصف مسؤوليات وواجبات “الطاقم” البشري المناط به تنفيذ هذه الأهداف.
كما قلل الباحث السوداني من فرص نجاح جولات الحوار الوطني الحالية وذلك لعاملين اثنين، الأول: أن السلطة الحالية لا يمكنها أن تكون شريكًا أساسيًا في مستقبل الدولة، ومن ثم فالحوار وفق مبدأ المحاصصة مرفوض من البداية، والمسألة برمتها يجب أن تكون بحث في أسس بناء نظام جديد وتفكيك النظام القائم، وليست سبل المحافظة عليه.
الثاني: أن موقف المعارضة من الحوار لم ينطلق من رؤية شكلت مرجعية لها في تقييم موقف النظام أو حصاره للاتفاق حول استراتيجيته التي بالتأكيد تتقاطع مع أهداف المعارضة “المعلنة” في تفكيك سلطة النظام وهيمنته علي الدولة، وتحقيق التحول الديمقراطي.
غياب هذه المرجعية لدى المعارضة أدى لعدم قدرتها على ضبط إيقاعها واتساع الهوة بين عناصرها، وعدم تطويرها لأساس موضوعي للاتفاق فيما بينها حول عملية الحوار غير المزايدة علي النظام، وفوق كل هذا، عدم قدرتها علي وضع أهداف ممكنة التحقيق عبر آلية الحوار ووفق تطبيقاته وليس تمنياتها.
ومن ثم فاستمرار الحوار الوطني بهذه الطريقة سيحكمه ميزان البحث في أوجه القوة والضعف للطرفين بدلاً من البحث عن حلول للأزمة الوطنية، وهو ما يهدد باستنساخ “نيفاشا” جديدة تغرق البلاد في مستنقع الصراعات والأزمات مجددًا.