حولت السلطات المصرية حدود البلاد إلى أسوار سجنٍ كبير، يُمنع فيه الساسة والنشطاء والمواطنون العاديون من اجتيازه خروجًا أو حتى دخولًا، كأنه لم يعد يكفي السلطات المصرية أن سجنت عشرات الآلاف من المعارضين لها وغيرهم من المواطنين غير المؤدلجين أو المحسوبين على تيارات سياسية، فقامت بتحويل أرض مصر كلها إلى سجن يمنع باقي المواطنين من التنقل بحرية منها أو إليها.
بالطبع، تستهدف السلطات بشكل أساسي العاملين بالمجال السياسي والحقوقي والإعلامي، حيث تعتبر تلك المجالات ندًا لها، لما يكشفه العاملون بتلك المجالات من جرائم النظام، لذا عكفت السلطات على منع الناشطين بتلك المجالات من دخول مصر أو الخروج منها، في محاولة للتضييق عليهم، وقد رصدت منظمات حقوقية منع نحو 7 نشطاء بالمجال الحقوقي من دخول مصر والخروج منها خلال الشهرين الأولين من العام 2016.
حيث منعت السلطات المصرية الناشط الحقوقي والشاعر عُمر حاذق من السفر في يناير الماضي، فيما منعت 6 آخرين من السفر في شهر فبراير، وهم: جمال عيد، رئيس الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، ومحمد لطفي، مدير المفوضية المصرية لحقوق الإنسان، وأيضًا الحقوقي بمؤسسة مدى مصر ومدير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية حسام بهجت، وكذلك نقيب الإعلاميين الإلكترونيين أبو بكر خلاف، فيما قامت بالتعنت في سفر العضو بالمجلس القومى لحقوق الإنسان ناصر أمين، حيث قام أمن المطار بتوقيفه بعض الوقت خلال سفره إلى جنيف في فبراير المنصرم.
دخول مصر يتطلب إذنًا
هذا ومنعت السلطات المصرية أيضًا دخول الأكاديمي المصري -الألماني ومؤسس مؤسسة ميادين التحريرعاطف بطرس، في يناير الماضي، وقامت بالتحقيق معه لنحو 12 ساعة حول نشاطات مؤسسته قبل أن تخبره بمنعها له من دخول مصر مدى الحياة، الأمر الذي دفعه إلى الاعتصام بالمطار، حتى إن غير المصريين من الأكاديميين والنشطاء الحقوقيين تم منعهم من دخول مصر، فقد منع أمن المطار الأكاديمية التونسية أمال قرامي من دخول مصر في يناير الماضي.
ذلك الأمر الذي أصبح متكررًا دفع البعض إلى تقديم طلبات للسلطات المصرية تستأذنهم في العودة لبلدهم دون أن يمسهم أذى الاعتقال أو الترحيل، مثلما فعل المراسل الصحفي طارق عبدالجابر الذي قدم طلبًا إلى السلطات المصرية في 2014 للعودة إلى مصر، وحينما تم تجاهل طلبه قام بتقديم آخر في مارس 2016 عله يجد ردًا يضمن له العودة بسلام لوطنه، وكل ذلك بسبب عمله مدة لم تتجاوز الثلاثة أشهر في قناة تلفزيونية حُسبت على جماعة الإخوان المسلمين.
منع النشطاء من السفر خلال آخر 5 سنوات
خلال الخمس سنوات الماضية التي أعقبت ثورة الخامس والعشرين من يناير مُنع ما يزيد عن 500 ناشط بالمجالات العامة من دخول مصر والخروج منها، وقد أصدرت منظمة معلوماتية مستقلة تدعى “دفتر أحوال” تقريرًا تفصيليًا عن الشخصيات البارزة في المجالات السياسية والحقوقية والصحفية والثقافية والفنية والاجتماعية وحتى الدينية التي منعتها السلطات المصرية من اجتياز حدودها، رصد هذا التقرير نحو 554 حالة منع من السفر ودخول مصر.
توزعت نسبة المنع على أربع فترات رئاسية، الأولى منع فيها نحو 36 من دخول مصر والخروج منها وذلك في عهد المجلس العسكري الذي تولى الحكم منذ فبراير 2011 وحتى يونيو 2012، شهدت فترة حكم الرئيس السابق محمد مرسي أيضًا حالات منع من السفر إلا أنها كانت النسبة الأقل حيث سُجلت نحو 21 حالة، وخلال فترة حكم عدلي منصور منع 279 شخصًا من دخول مصر والخروج منها، أما في عهد عبدالفتاح السيسي تم منع 218 شخصًا بحسب الإحصائية وذلك منذ توليه الحكم وحتى فبراير 2016، أي ما إجماليه 497 حالة منع لنشطاء فقط بخلاف مئات المواطنين بعد الانقلاب العسكري في يوليو 2013.
فترة الانقلاب الأشد في إجراءات المنع
وفقًا للإحصائية ذاتها وخلال الفترة التي أعقبت الإطاحة بمرسي، فقد سجلت المنظمة المعلوماتية 54 حالة منع من السفر لشخصيات على ذمة قضايا صدر بحقها قرارات بالضبط والإحضار، و12 على ذمة قضايا لم يكن قد صدر ضدهم قرارات بالضبط، فيما تم القبض على 14 شخصًا وضعت أسماؤهم على قوائم ترقب الوصول، و112 شخصًا منعوا من السفر دون أسباب واضحة، و248 منعوا من الدخول دون أسباب، بينما تم التضييق على 57 خلال العامين ونصف المنصرمين خلال إتمامهم إجراءات دخول مصر، وشملت تلك الإجراءات نحو 101 امرأة وفتاة.
اضغط على الصورة لرؤية التصميم بحجمه الأصلي
النشاط السياسي منع 229 ناشطًا بالمجال السياسي من دخول مصر أو الخروج منها منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013، و41 ناشطًا بالمجال الحقوقي في الفترة الزمنية ذاتها، و15 صحفيًا، بالإضافة إلى 8 أشخاص بسبب نشاطات ثقافية وفنية، و195 على خلفية النشاط الديني، و9 بسبب أعمال اجتماعية، أغلبهم منع من دخول مصر والسفر منها عبر مطار القاهرة الذي سُجل بنحو 477 واقعة منع، تلاه مطار برج العرب الذي سجل 18 حالة، وحالة واحدة لكلٍ من مطار الغردقة والأقصر، تلك الأعداد كان من بينها وقائع منع لنحو 58 شخصية عربية، و197 أجنبي، علاوةً عن الـ 242 مصري.
كيف صعبت السلطات إجراءات السفر؟
تلك الأرقام الضخمة نتيجة طبيعية لقرارات أصدرتها السلطات المصرية للتضييق على إجراءات السفر، ورغم أن تلك الأرقام خصت فقط النشطاء والعاملين بالمجالات العامة، ولم ترصد واقعًا مأسوايًا عاشه مئات المواطنين، إلا أن إجراءات اتخذتها السلطات حرمت مئات بل ربما آلاف غيرهم حتى من مجرد الوصول إلى أعتاب المطارات، سواء من داخل مصر ممن وضعت لهم إجراءات معقدة يصعب تجاوزها، أو ممن هم خارجها الذين يخشون العودة لئلا يعتقلوا مثلما حدث مع غيرهم.
ففي 13 ديسمبر 2014 اشترطت السلطات المصرية الحصول على موافقة أمنية للمواطنين من سن 18 إلى 45 عامًا بمن فيهم النساء في حال محاولة السفر إلى سبع دول وهي: “تركيا، قطر، سوريا، لبنان، العراق، ليبيا، والسودان”، وفي 26 أغسطس 2015 ضمت السلطات 9 دول جديدة للقرار، لتصبح إجمالي تلك الدول 16 دولة، وكانت تلك الدول هي: “اليمن، الأردن، ماليزيا، كوريا الجنوبية، غينيا، كوناكري، إسرائيل، إندونيسيا، تايلند، وجنوب أفريقيا”.
الموافقة الأمنية تخرج فقط لمن يحالفه الحظ، فعلى من يريدون الحصول على تصريح أمني للسفر أن يتوجهوا إلى إدارة الاتصال بمصلحة الجوازت الموجودة بمجمع التحرير وسط القاهرة، ثم يقوموا بتقديم الأوراق اللازمة لاستخراج نماذج السفر للخارج، ذلك إن تجاوزوا تلك الطوابير الطويلة التي تقف أمام المكان الوحيد في الجمهورية كلها الذي يسمح باستخراج تلك الورقة عبره، وإن استطاعوا تجاوز ذلك كله وتقديم الأوراق يعودوا في يومٍ آخر غالبًا ما يتم تمديده كل مرة، وبعد أيام وربما أسابيع تتكرر خلالها تلك الزيارة ربما يعود المواطن خائب الرجاء بعد أن رُفض طلبه دون سبب واضح.
هذا دون الخوض في تفاصيل المعاملة المهينة التي يلقاها المواطنون من قِبل ضباط الاتصال بمصلحة الجوازات، والمصاريف الكبيرة التي ينفقونها في كل مرة يذهبون فيها إلى مجمع التحرير خاصةً ممن ليسوا من سكان القاهرة، أو تلك التي يتكبدوها كغرامات لشركات الطيران بسبب إلغاء أو تأجيل حجوزات السفر.
كما أصدرت السلطات قرارًا خاصًا لطلاب الجامعات والمدارس وذلك للحد من سفر تلك الفئة الشبابية بالتحديد، الذين اضطر عشرات منهم إلى السفر خارج مصرعقب الإطاحة بمرسي بسبب الملاحقات الأمنية، ففي أواخر ديسمبر 2015 أصدرت هيئة التنظيم والإدارة بالقوات المسلحة قرارًا حمل رقم 2015/1195 وضع عدة شروط ضيقت من إمكانية سفر الطلاب للخارج، وسمح فقط بالسفر في حالات محددة وهي زيارة الوالد أو الوالدة، أو أداء فريضة الحج أو العمرة، أو في حالة العلاج بالخارج، أو لوفاة أحد الأقارب من الدرجة الأولي “الوالدة أو الوالد”، أو لتمثيل مصر في المؤتمرات أو الندوات أو النشاطات الثقافية والفنية وأعضاء الفرق الرياضية، بشرط امتلاك قرار وزاري ومثله من رئيس الجامعة بذلك.
ذلك كله بخلاف مئات وضعت أسماؤهم على قوائم الممنوعين من السفر لنشاطهم السياسي أو الحقوقي والإعلامي أو لاتهامهم في قضايا معارضة للنظام، حتى باتت تلك الإجراءات القمعية أسلاكًا شائكة على حدود مصر تمنع الخروج منها، وتجبر المواطنين رغمًا عنهم على أن يظلوا محبوسين داخل هذا السجن الكبير، أما من يرغبون بالمجازفة لدخول هذا السجن ربما يفشلون بسلام أو بخسائر، فيكون الفشل دون خسائر حال عودتهم مرة أخرى من الجهة التي جاءوا منها دون أن يقعوا في شرك الأجهزة الأمنية التي تستجوبهم لساعات أو ربما تعتقلهم في سجونها التي تملأ أرجاء البلاد.