مضايا العراق: الفلوجة تُقتل جوعًا

أمٌّ تُلقي بنفسها وطفليها في نهر الفرات بسبب الجوع، وأخرى تجوب الطرقات حاملةً طفلها الرضيع وهي تنادي “خذوه، فقط أطعموه، ولا يهمّني إن متُ أنا” ، وأبٌ يُطعم أفراد أسرته سم فئران قبل أن يلحق بهم منتحرًا، هذه ليست قصص من نسج الخيال، وإنما مآسٍ حدثت في مدينة الفلوجة العراقية.
الكلمات تقف عاجزةً أمام هول الكارثة التي يعيشها أهالي هذه المدينة، فالحصار وصل حدًّا لا يطاق حيث أُدخل أهلها في مجاعة لا يمكن وصفها أو حتى مجرد تصورها، إذ إن 10 أشخاص على الأقل قضوا جوعًا أو بسبب سوء التغذية، ناهيك عن عشرات حالات الإغماء اليومية التي تصل إلى مستشفى المدينة الذي يعجز عن تقديم شيء لها بسبب فقدان المواد الغذائية والطبية بشكل شبه كامل.
فالقوات الأمنية العراقية التي تُحاصر المدينة من جميع جهاتها لا تسمح بإدخال المواد الغذائية أو الطبية، وبدأ كل شيء فيها ينفد، حتى التمر الذي هو طعام المحاصرين هناك بدأ يوشك على النفاد ووصل سعر الكيس منه نحو 60 دولارًا – في مدينة منهارة اقتصاديا بشكل كامل -، وتنظيم داعش الذي يُحكم سيطرته على المدينة من الداخل هو الآخر لا يسمح للمدنيين بالخروج منها، ويهدد من يحاول الفرار بعقوبات تصل حد الموت.
أهالي الفلوجة لم يدخروا طريقة للمناشدة، ورغم بشاعة صور الأطفال وهم يتضورون جوعًا ومأساوية مشاهد الموت البطيء التي تم تسريبها من هناك، إلا أنها لم تُقابَل بأي تحرك محلي أو دولي يوقف هذه الكارثة، التي تهدد حياة نحو خمسين ألف مدني لم يعد بإمكانهم تحمل الجوع وبدأوا يتساقطون أمامه واحدًا تلو الآخر، وما رأيناه فقط هو مناشدات وتحذيرات.
منسقة الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة بالعراق ليز غراد، وصفت الوضع في الفلوجة بـ “المروع” وأكدت وفاة مدنيين بسبب الجوع والمرض في ظل النقص الحاد في الغذاء والدواء، إلا أن منظمتها لم تُمارس أي ضغط على بغداد لإنقاذ المدينة.
المتحدث باسم التحالف الدولي، ستيف وارن، قال خلال مؤتمر صحافي عقده بمقر السفارة الأمريكية في بغداد قبل فترة، أنه قلق من الوضع الإنساني الذي تعيشه الفلوجة، وفي نفس الوقت نفى وجود خطط لإيصال مساعدات إنسانية إليها عن طريق الجو، رغم أن كل صاروخ يُقذف من طائراتهم على المدينة تكلفته قد تصل لمئة ألف دولار، وهو مبلغ كافٍ لرمي كمية خبز تُشبع المدينة لشهور.
قائممقام المدينة سعدون عبيد الشعلان والنائب في البرلمان لقاء مهدي وردي والنائب أحمد السلماني وغيرهم حذّروا أيضًا من خطورة الوضع الإنساني داخل المدينة وناشدوا بإنقاذ المدنيين من الجوع إلا أن الحكومة قابلت هذه التحذيرات والمناشدات بأذن من طين وأخرى من عجين، وكأن الذين في الداخل ليسوا مواطنيها!
الفلوجة اليوم تحكي قصة موت الضمير الإنساني، فالعالم الذي هزّه موت أشخاص في باريس وبروكسل، يقف بأجمعه متفرجًا على هذه المدينة التي تتجول فيها رائحة الموت والقصف والجوع والإبادة بكل حرية، وكشفت أيضًا عن أن القضية الرئيسية في الضمير الإنساني هي “هوية الإنسان” الذي يستحق المناصرة، فإن كان مسلمًا فهو محروم من أي تعاطف، وإن كان غير مسلم، فإن دول العالم أجمع تصطف للتعاطف معه ومناصرته.
ما وصل إليه الحال في الفلوجة يستدعي ويستحق أن تتظافر كل الجهود وتتعالى جميع الأصوات للضغط على الحكومة العراقية والمجتمع الدولي لوضع حدٍ لمعاناة المحاصرين فيها، لأنه في حال عدم حدوث أي تدخل سريع فإن الوضع الإنساني والصحي سيصل حد الكارثة وخاصة بالنسبة لآلاف الذين لم يأخذوا نصيبهم من الحليب والدواء منذ أشهر طويلة، عدا المئات الذين يعانون من أمراض مزمنة والتي تحتاج لدواء بشكل مستمر.
فلم تعد هموم أهالي المدينة هي الحصول على الحقوق السياسية التي طالبوا بها في اعتصاماتهم السلمية لأكثر من عام، بل أصبح همهم الوحيد هو الحصول فقط على قطعة خبز، تسد جوعهم.