عرفت مصر على مدار تاريخها عددًا من النهضات السياسية التي تمثلت في تأسيس دول مستقلة عن الخلافة تكون مصر مركزها ونواتها الأولى، وأشهر هذه الدول الدولة الأيوبية والدولة المملوكية ومن قبلهما الدولة الطولونية.
ولكن لم تشهد مصر نهضةً تأسيسية على المستوى السياسي والعلمي كتلك التي شهدتها في عهد محمد علي، فما إن تولى الباشا حكم مصر بتنصيبٍ من علمائها وأشرافها قبل أن يكون بتنصيبٍ من الباب العالي، حتى استطرد على ذهنه طموحاته الكبيرة وأحلامه الواسعة.
شرع محمد علي منذ اللحظة الأولى له في قلعة صلاح الدين في تثبيت قدميه في حكم مصر، ولكن ليس كنائبٍ عن السلطان العثماني، وإنما كسلطانٍ مستقل على سلطنةٍ كبيرةٍ ناشئة، ولم تكن مصر إلا الخطوة الأولى في سلسلة من الخطوات لتوسيع دائرة حكمه.
أدرك الباشا جيدًا مقومات هذه الدولة التي يحلم بها، فبدأ بالتخلص من خصومه أولًا بنفي عمر مكرم إلى دمياط عام 1809م، ثم القضاء على المماليك في مذبحة القلعة الشهيرة عام 1811م؛ لينفرد بالنفوذ التام في مصر دون منازع.
ثم بدأ مباشرةً في إرسال البعثات العلمية إلى إيطاليا وفرنسا وإنجلترا والنمسا، إلا أن فرنسا كان لها النصيب الأكبر من تلك البعثات وكانت البعثة الأهم، تلك التي أُرسلت إليها عام 1826م وكان رفاعة الطهطاوي إمامها وأحد طلابها.
تعددت العلوم التي أُرسل طلاب البعثة لتحصيلها بين علوم الإدارة والسياسة والقانون والهندسة والطب والزراعة والترجمة، وبالطبع العلوم الحربية والبحرية وصناعة السفن والأسلحة.
كانت هذه البعثات مُقدِمة مُتقَنة للنهضة الشاملة في عهد محمد علي، فالطلاب المبتعثون صاروا فيما بعد من كبار رجال السياسة وإدارة الدولة حول الوالي الطموح، وأُسندت إليهم مهام التعليم والصناعة والتطوير في عموم مصر والتي صارت بتلك النهضة إلى لقب “المحروسة”.
ظهرت علامات النهضة في تأسيس نظامًا تعليميًا جديدًا يحاكي وبجدارة النظم التعليمية في أوروبا، وإن كان هذا النظام على نطاقٍ ضيق وقاصر.
صار للدولة المصرية الناشئة جيشٌ مستقلٌ عن الدولة العثمانية وسرعان ما هدد ذلك الجيش نفوذ السلطان العثماني ذاته بتوغله في الأناضول واقترابه من الأستانة بقيادة إبراهيم باشا.
أصبح للدولة المصرية قوامٌ مستقل يُنبئ عن قوةٍ عظمى في الطريق، وهو ما أثار قلق الأوروبيين فقضوا على طموحات محمد علي بهزيمتهم للأسطول المصري في موقعة نفارين، وانتهى حلم محمد علي بالإمبراطورية بقبوله معاهدة لندن 1840م التي حدت من نفوذه وحصرته في مصر وبعض مناطق الشام.
على الرغم من ذلك لم تتوقف تلك النهضة أو تنتهي، واستمرت مصر في طريقها إلى تكوين نظمًا سياسية وإدارية وعلمية ونظامية، واستمرت هذه النظم في التطور حتى في عصور ما بعد محمد علي بكثير، وكان هذا التطور واعدًا حقًا في تكوين سمتٍ مستقل وطبيعةٍ فريدة للدولة المصرية على المستويين السياسي والعلمي.
سعى محمد علي إلى تلك النهضة – في رأيي – لتحقيق حلمه بالإمبراطورية التي يكون على رأسها وأولاده من بعده أكثر من كونه فعل ذلك حبًا لمصر أو لأهلها، وكان فيه من علامات التجبر والطغيان كثير، إلا أن ما يميز محمد علي عن غيره ممن وُجدت فيهم هذه العلامات، أنه اهتم بأسباب التقدم والحضارة ولم يكتفِ بدولةٍ ضعيفة هشة ينهب من خزائنها ما وسعه الجهد والوقت، بل حرص على أن يكون زمام الأمور في يده بضمان تقليل تبعية دولته إلى الخارج بإرساله أفواج المتعلمين لشتى العلوم والصناعات، كي يعودوا بعلومهم وخبراتهم المكتسبة إلى إطار دولته وقبضته.
أدرك الباشا جيدًا أن تخلصه التام والنهائي من تلك التبعية العلمية والصناعية هو المقدمة اللازمة والحتمية للتخلص من التبعية السياسية للدولة العثمانية، وأقدم على ذلك باحترافيةٍ شديدة تشير إلى ذكائه ودهائه السياسي على الرغم من أميته.
في النهاية يبقى محمد علي مثالًا فريدًا لعقلية النهضة السياسية بما أرسى من مبادئها وخطواتها، وتجربته التاريخية تُعد دليلًا واضحًا وقويًا على أولويات النهضة وتعدد أطوارها، ومن المؤكد أن النهضة المصرية القادمة التي تفرضها دورة التاريخ سيكون لها في ملامحها الكثير من أوجه الشبه بالنهضة العلمية والسياسية التي أقامها محمد علي.
ولكننا لا ندري متى قد تكون هذه النهضة القادمة، وإن كانت أعيننا ستراها أم سيسبقها إلينا الأجل؟!
ولكن من المؤكد أنها ستكون يومًا.