لم يكن أكثر المتشائمين من المصريين يتوقع أن يحدث هذا التراجع الغريب في إيرادات قناة السويس للشهر السابع على التوالي بعد افتتاح التفريعة الجديدة للقناة، حيث إن الأغلبية كانت تنتظر قفزة كبيرة في الإيرادات بعد تدشين “قناة السويس الجديدة”، وساعدت التصريحات الرسمية في ترسيخ هذه الفكرة عند الكثيرين ولكن ما إن مرت الشهور الأولى على المشروع العملاق الذي استنزف جيوب المصريين، وحدثت المفاجأة، الإيرادات لا تزيد بل تتراجع وعدد السفن كذلك لكن لماذا؟ كيف حدث هذا التغير الغريب؟!
في الحقيقية نجاح المشروع في الأجل القريب استبعده معظم الخبراء الذين تعاملوا بمنطقية معه، وليس بتحيز سياسي غير واقعي، حيث إن التجارة العالمية تمر بفترة عصيبة بالإضافة إلى تراجع أسعار النفط الذي أضر بأغلب اقتصاديات العالم، ناهيك عن أن وضع المنافسة بالنسبة للقناة لا يعطها الأفضلية في ظل هذه المعطيات، أما من ناحية الحاجة الاقتصادية لمصر بوجه خاص، كان هذا المشروع قاسمًا لظهر الاقتصاد المصري، فمصر في فترة تحتاج كل قرش يمكن أن يستثمر بحق، فما بالكم بنحو 65 مليار جنيه تُسحب من الأسواق وتُوجه لمشروع عائده الاستثماري ليس صفرًا، وإنما بالسالب.
لم يقدم المشروع وظائف جديدة، ولم يساعد في حل أزمة العملة الصعبة الخانقة، كما لم يجذب استثمارات أجنبية جديدة حتى الآن، لا أستطيع القول أن المشروع في حد ذاته قد فشل، ولكن الفشل هنا في اختيار التوقيت وفي إدارة المشروع الذي اختزل في حفر “على الناشف” ولم يكن هذا الهدف، بل إن الهدف كان تنمية محور قناة السويس تنمية حقيقية، والحفر لا يصل إلى 25% فقط من تحقيق هذا الهدف.
بيانات هيئة قناة السويس تكشف أن عوائد القناة تشهد منحنى في غاية الخطورة فإيرادات البلاد من القناة، والتي تُعد أهم مصادر العملة الصعبة انخفضت إلى 3.108 مليار جنيه (350 مليون دولار) في فبراير من 3.178 مليار في يناير ويعني هذا هبوط إيرادات البلاد من العملة الصعبة من القناة بنحو 70 مليون جنيه، عدد السفن المارة في فبراير تراجع إلى 1300 سفينة من 1424 سفينة في يناير.
العجيب هو أننا عندما ننظر إلى الإيرادات في الأعوام السابقة نجد أن إيرادات القناة بلغت نحو 414.8 مليون دولار في يناير 2008 أي قبل 8 سنوات، وذلك بفارق نحو 64.8 مليون دولار، وبلغت الإيرادات نحو 416.6 مليون دولار في يناير عام 2011، 445.8 مليون دولار في يناير عام 2012، 433.8 مليون دولار في يناير عام 2014، و434.8 مليون دولار بنفس الشهر من عام 2015.
وفيما يخص عدد السفن التي مرت من القناة نجد أنه في فبراير 2006، مرت نحو 1407 سفينة، وذلك قبل 10 سنوات من الآن، وفي فبراير 2007 نحو 1511 سفينة، في فبراير 2008 نحو 1677 سفينة، وفي فبراير 2012 نحو 1352 سفينة، إذا أين اللغز.. ماذا يحدث؟!
الأمر حقًا في غاية الغرابة فالقناة تمر بفترة عصيبة مثلها في ذلك كالاقتصاد المصري الذي يمر بأيام صعبة، ولكن ليس هذا فقط، فبحسب التقرير الصادر عن مؤسسة “سي إنتل” الأمريكية المتخصصة في تحليلات الملاحة البحرية، نجد أن هناك عنصرًا لم يكن في حسابات الإدارة الاقتصادية المصرية فأسعار النفط التي فقدت نحو 70% من قيمتها تدفع السفن لاتخاذ طريق رأس الرجاء الصالح بدلاً عن قناة السويس، موضحًا أن انخفاض أسعار الوقود يعني أن السفن يمكنها تحمل تكلفة اتخاذ الطريق الأطول بسرعة أكبر، وبالتالي تستغرق نفس الوقت الذي تستغرقه في حالة استخدام القناة.
الأمر الذي سيوفر نحو 235 ألف دولار لكل رحلة بحرية، وهو ما يُعد دفعة قوية للناقلات التي تعاني من ضائقة مالية في ظل تعثر الاقتصاد العالمي هذه الأيام، والحل بحسب التقرير الحديث لـ “سي إنتل” هو تقليل الرسوم بنسبة 50% تقريبًا في قناة السويس، هذه النسبة صادمة جدًا فالوضع الاقتصادي لا يتحمل هذه الخطوة، ولكن عدم التحرك بشكل سريع، يعني زيادة نزيف القناة خسارة أشد عنفًا من ذلك.
خلال المدة منذ افتتاح التفريعة الجديدة في أغسطس الماضي وحتى الآن لم نجد تحركًا جادًا من ناحية الحكومة المصرية حيال هذه الأزمة المتفاقمة، ولكن منذ يناير الماضي اتجهت إدارة القناة إلى أسلوب جديد في الإعلان عن الإيرادات وهو الإعلان عنها بالجنيه المصري وليس بالدولار كما هو المعتاد، وهذا يكشف أن الحكومة مهمته بالشكل أكثر من المضمون حيث إن الرقم بالجنيه كبير بالمقارنة بالدولار، ولكن من تخدع؟!
اللغز مازال قائمًا، فهذا الهبوط غير مبرر خاصة بعد مشروع تكلف نحو 8.5 مليار دولار، وعلى الحكومة أن توضح ما الذي يحدث بالتحديد، إلى متى يستمر هذا التراجع، وإن كانت المبررات هي تراجع نمو حركة التجارة العالمية، فلماذا لم تستمع إدارة المشروع من البداية للبيانات والتقارير العالمية التي أكدت أن النمو العالمي والتجارة العالمية ستشهد ركودًا ملحوظًا، وخاصة إذا كانت إيرادات القناة تعتمد في الأساس على حركة التجارة بين أوروبا وجنوب آسيا، وذلك مع التباطؤ الاقتصادي الصيني، وهذا لا يؤثر على عدد السفن فقط، بل يذهب أيضًا إلى انخفاض حمولتها وبالتالي تتراجع الإيرادات، لأنها تعتمد بشكل أساسي على حجم الحمولة ونوعيتها، وليس بأعداد السفن فقط.