يزداد الاعتماد الصيني على الوقود المستورد في تحريك عجلة الصناعة المتسارعة وتلبية احتياجات السوق المحلية المتزايدة، حيث يتعدى الاستهلاك الصيني للنفط الـ 11 مليون برميل يوميًا، 6.7 مليون برميل يتم استيراده من دول مختلفة، ويتوقع محللون أن ينمو الاستهلاك الصيني بـ 4.2% خلال العام الحالي، بعد أن كان قد شهد نموًا بنسبة 4.8% العام المنصرم.
يعتبر تأمين مصادر الطاقة قضية استراتيجية لبيجين، ويبرز الخليج العربي الغني بموارد الطاقة كمصدر يمكن الاعتماد عليه لتغطية جزء كبير من الاحتياج، إلا أن الصين وعلى الرغم من استيرادها لخُمس احتياجها من النفط من الخليج العربي، كانت دائمًا تتردد في الانفتاح عليه، كون ذلك يضعها بين توازنين صعبين: الأول هو توازن العلاقات الصينية/ الخليجية والعلاقات الأمريكية/ الخليجية، حيث تحرص أمريكا على إبقاء الشرق الأوسط منطقة خاضعة لنفوذها الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي، ولطالما مثلت واشنطن الحليف الأكبر لعواصم الخليج، أما الثاني فهو توازن العلاقات الصينية/ الخليجية والعلاقات الصينية/ الإيرانية، حيث إن كل تقارب مع دول الخليج يعني تنافرًا مع طهران، وكانت أهمية إيران تكمن في كونها مصدرًا لموارد الطاقة لا تتحكم فيه الولايات المتحدة الأمريكية على عكس دول الخليج.
إيران ما بعد الاتفاق النووي والمشهد الجديد
على أعقاب موافقة إيران على تقييد برنامجها النووي ورفع العقوبات الدولية عنها؛ تغيرت خارطة التوازنات الغربية مع الشرق الأوسط بشكل كبير، إذ تحولت أمريكا من تقييم علاقتها مع إيران على المخاطر المحتملة، إلى تعيين الفرص التي يمكن أن يوفرها التقارب على صعيد الملفين الاقتصادي والأمني في العراق وأفغانستان، بينما غدا الاتحاد الأوروبي ينظر إلى إيران كمصدر لتزويده بموارد الطاقة و خاصة بعد توتر علاقاته مع روسيا، بسبب غزو الأخيرة لإقليم القرم ودعمها للانفصاليين في أوكرانيا.
في المقابل ترحب إيران بانتهاء عصر التوتر وخلق فرص للتقارب الانتقائي، فهي من ناحية ستتمكن من التخلص من القيود الاقتصادية المفروضة عليها والحصول على الأصول المجمدة وفتح فرص الاستثمار داخل البلد، ومن ناحية أخرى فإن التقارب مع أمريكا وأوروبا سيمنحها مساحة مناورة أكبر في الشرق الأوسط ويعطيها فرصة الدخول كطرف مؤثر في تحديد مآلات الملفات والقضايا المصيرية فيه.
لعبت الصين دورًا فاصلاً في إنجاح المفاوضات النووية، فقد حثت جميع الأطراف على الالتقاء في منتصف الطريق وفق مبدأ التنازل خطوة بخطوة، وقامت بإعادة تصميم قلب مفاعل ارآك الإيراني ليصبح غير صالح للإنتاج العسكري، حيث تطمح بيجين إلى الاستفادة من رفع العقوبات على طهران من خلال: تفعيل خط الحرير القديم وإمكانية تصدير منتجاتها بريًا وما تمثله إيران من أهمية جيوسياسية في هذا المشروع، رفع حجم التبادل مع إيران إلى 200 مليار دولار بحلول العام 2024، والاستفادة من قطاع الطاقة الإيراني، فإيران تملك رابع احتياطي نفط في العالم وأكبر احتياطي للغاز.
لكن ومن الناحية الأخرى فإن إيران ترغب بتطوير 50 مشروعًا نفطيًا بقيمة 185 مليار دولار بحلول 2020، وتبدو الدول الأوروبية هي الأقرب للظفر بالحصة الأكبر من هذه الاستثمارات لسببين أحدهما تقني والآخر سياسي، فمن الجانب التقني تجد الشركات الصينية منافسة من نظرياتها الأوروبية التي تتفوق عليها تكنولوجيًا، أما في الجانب السياسي فإن إيران تجد أنها تستطيع كسب الصين وروسيا عبر الورقة الجيوسياسية، بينما تحتاج إلى ورقة النفط لمساومة الاتحاد الأوروبي بها، وفعليًا أعلن مدير شركة النفط الوطنية الإيرانية ركن الدين جوادي الأسبوع المنصرم، بأن إيران ستشحن 4 ملايين برميل نفط باتجاه أوروبا، حصة شركة توتال الفرنسية منها 2 مليون برميل.
التوازنات الجديدة والآفاق المحتملة
في الوقت الذي تتقارب فيه الولايات المتحدة مع إيران، فإنها تضعف من ثقلها في الكفة الأمريكية الخليجية؛ ما قد يجعل الخليج يبحث عن حليف دولي لإعادة التوازن وتمكين ثقله الإقليمي في مقابل الثقل الإيراني، وفي الوقت الذي كانت فيه الصين تتقارب بحذر مع الخليج، وتنظر إلى إيران كحليف نفطي معادٍ لواشنطن، فإن هذه المقاربة أصبحت أقل فاعلية، لاسيما مع دخول الاتحاد الأوروبي كمنافس على حصة النفط الإيراني.
تبدو الفرصة متاحة اليوم لتعميق التقارب الصيني الخليجي؛ ما ستكون له تأثيرات إيجابية على أكثر من صعيد، فعلى الصعيد الاقتصادي وفي ملف النفط، ستظفر الصين بحليف استراتيجي لتلبية احتياجتها المتزايدة من الطاقة، بينما ستضاعف دول الخليج من حصتها في سوق النفط العالمي، ولا يتوقف الأمر على الملف النفطي، حيث تعتبر الاستثمارات المشتركة أكبر فائدة اقتصادية يمكن أن يجنيها الطرفان.
فعلى الرغم من أن أوروبا وأمريكا كانتا الأكثر جذبًا لأموال الخليج، إلا أن التقارب مع الصين أكبر مستقطب للاستثمارات الأجنبية بـ 745 مليار دولار أمريكي، يفتح خيارات كبيرة أمام دول مجلس التعاون الخليجي، وإن كانت شركة أرامكو السعودية قد دخلت كمستثمر في إنشاء مصافة النفط في فوجين جنوب شرق الصين، إلا أن قيمة استثمارها لا تتعدى المليار دولار، ومازالت في الأفق فرص استثمارية أكبر بكثير.
وفي الوقت الذي تشكل فيه الصين أرضًا خصبة للاسثتمار الخليجي، يمكن للمناطق الحرة في دول الخليج أن تمثل هدفًا ممتازًا للمصانع الصينية، لما يمتاز به الشرق الأوسط من قرب جغرافي من الأسواق العالمية، وعلى الصعيد السياسي وفي خضم المشهد المضطرب في الشرق الأوسط و التحديات الأمنية التي تواجهها دول مجلس التعاون الخليجي، فإن التقارب مع الصين من شأنه أن يؤمن حليف قوي يدعم توجهات الخليج في مجلس الأمن، ويخفف من حدة تطرف الموقف الروسي، وفي الوقت الذي تعدى فيه حجم الإنفاق العسكري لدول الخليج 98 مليار دولار في العام 2012، يمكن للصين التي أصبحت في العام المنصرم ثالث أكبر مصدر للسلاح، أن توفر مصدرًا بديلاً للاستيراد يكسر الهيمنة القطبية لروسيا وأمريكا واللتان أصبحتا جزءًا من مشكلة الصراع القائم في الشرق الأوسط.