لطالما تميزت الدوحة بأنها بلد الوساطات وحل المشاكل السياسية المستعصية في البلدان العربية، كان آخرها حل الخلاف بين جيبوتي وإريتيريا، كما أشرفت على أهم اتفاق بين أكبر منتجي النفط في العالم تم من خلاله تجميد الإنتاج باجتماع السعودية وروسيا في الدوحة، وكخطوة ثانية وجهت الآن دعوات لكل منتجي النفط سواء في أوبك أو خارج أوبك للاتفاق على خفض الإنتاج وإعادة الاستقرار لأسواق النفط.
وكان للاقتصاد في الدوحة نصيب، فلأول مرة وبرعاية معهد الدوحة للدراسات العليا تم استضافة المؤتمر الاقتصادي في الشرق الأوسط ليُعقد من 23 إلى 25 مارس /آذار الجاري بعنوان ” تأثير أسعار النفط على النمو الاقتصادي والتنمية في دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا” بمشاركة خبراء اقتصاديين من كل انحاء العالم ومن بينهم حاصلين على جوائز نوبل في الاقتصاد، ويعد المؤتمر النسخة الخامسة عشر لمنظمة اقتصاديي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وكان قد عقد من قبل في كل من تونس ودبي والجزائر والإسكندرية واستنبول وبيروت وألمانيا وإسبانيا وبريطانيا.
يعوّل القائمين على المؤتمر أن يسهم في تغذية النقاش الدائر بشأن اقتصاديات دول المنطقة التي تعتمد على إنتاج النفط والتنمية القائمة عليه والتعامل مع الصدمات بفعل عدم استقرار الأسواق النفطية وأسعارها، وسيشارك باحثين وأكاديميين وطلاب دكتوراه بأوراق بحثية محمكّة علميا لمناقشتها خلال المؤتمر من قبل الحضور، وسيجيب المشاركين على الكثير من الأسئلة الإشكالية المطروحة اليوم مثل تأثير تذبذب أسعار النفط على النمو الاقتصادي والتنمية الاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وموضوعات تتعلق بصناعة النفط الصخري وأثره على أسعار النفط، ودراسة العلاقة بين عدد منصات النفط وإنتاجه وأسعاره وتأثير أسعار النفط على الأسواق المالية في المنطقة وأسعار الصرف وعلى شروط التجارة في المنطقة وعلى أسواق السلع والعمل وأسواق رأس المال.
انطلق المؤتمر البارحة الأربعاء 23 مارس/ آذار بمشاركة ما يقرب من 200 شخصية اقتصادية في مقدمتهم المفكر الاقتصادي البروفيسور جيمس روبنسون ودارون أجيموجلو مؤلفي كتاب “لماذا تفشل الأمم؟”. وقد أكد المشاركون على ضرورة إنهاء حالة ارتهان اقتصاديات دول المنطقة لإيرادات النفط وأسعاره لضمان تنمية مستدامة.
في اليوم الأول من المؤتمر قدم الدكتور جيمس روبنسون محاضرة رئيسة حول ما يمكن أن تقدمه النظرية التي طورها في كتابه مع دارون أجيموغلو في فهم وضع الدول التي تعتمد اقتصادياتها على النفط.
وأكد روبنسون أن أساس تحقيق التنمية المستدامة في دول المنطقة التي تعتمد على النفط هو إقامة مؤسسات سياسية تشاركية مفتوحة فهو الضامن الوحيد لإقامة نظام مؤسسات اقتصادية تشاركية مفتوحة. وأردف أن التحدي لا يكمن في نفاذ النفط بعد فترة معينة بقدر ضمان استمرارية وديمومة المؤسسات السياسية التشاركية لأنها الوصفة الأفضل لتحقيق استخدام ثروة النفط في خدمة المجتمع.
ولتوضيح هذه الفكرة أكثر ضرب روبنسون مثالا لبلدين من خلال بيل غيتس الأمريكي وسليم كارلوس المكسيكي وهما أغنى رجلين في العالم، حيث الأول جمّع ثروته من خلال الابتكار وشجّع غيره في صناعة البرمجيات وإلى جانب ثروته الشخصية _مع ما يقال عن غيتس أنه محتكر البرمجيات والكلام هنا بالعموم_صنع ثروة لغيره وهذا كله ساهم في تعزيز الثروة الأمريكية، بينما كارلوس بنى ثروته الشخصية من خلال الاحتكار، اقتطاعا من ثروات الآخرين حيث تشير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية أن كارلوس تسبب بأنشطته الاحتكارية في الفترة بين 2005 و 2009 في خسارة الناتج المحلي الإجمالي المكسيكي ما مجموعه 129 مليار دولار بمعدل 1.8% من إجمالي الناتج المحلي سنويا.
هذين الشخصين من بلدين مختلفين يقف وراء ثروتهما نظام مؤسساتي مختلف حيث يبين روبنسون أن دور النظام المؤسسي الأمريكي التشاركي على المستوى الاقتصادي قائم على تعزيز حق الملكية وحمايتها وسيادة دولة القانون وتوازن السلطات في تعزيز فرص الاستثمار وفتح المجال أمام الابتكار لخلق الثروة. في حين ما سمح لكارلوس ببناء ثروه على حساب الثروة الوطنية والاقتصاد المكسيكي هو نوعية النظام المؤسسي المكسيكي المغلق الذي لا يحمي الملكية، على الرغم من وجود القوانين التي تنص على ذلك، كما لا يمنع الاحتكار الذي تنص القوانين أيضا على عدم شرعيته.
لذلك يرى روبنسون أن أمر نجاح البلد وبناء ثروتها مرتبط بطبيعة المؤسسات السياسية في كلا البلدين وهو ما ينعكس على البناء المؤسسي في المجال الاقتصادي.
وبحسب روبنسون فإن نظام الأبرتايد “الفصل العنصري” في جنوب إفريقيا قبل 1994 نموذج عن تأثير الأنظمة المؤسساتية الاحتكارية المنغلقة وكيف تصنع الفقر حيث كان يستغل عمل السود وينتزع الثروة منهم ليثري بها البيض الذين استحوذوا على 93% من موارد الاقتصاد الجنوب الافريقي.
واستخلص روبنسون أنه في حالة الدول التي تعتمد اقتصادياتها على النفط فإن بناء أنظمة مؤسسية تشاركية مفتوحة أمر بالغ الأهمية من أجل نمو مستدام وللتعامل مع الصدمات.
لماذا تفشل الأمم؟
مرة أخرى لماذا تفشل الأمم ولكن هذه المرة ليس من المؤتمر في الدوحة ولكن من الكتاب الذي استغرق من مؤلفيه ( روبنسون ودارون) نحو 15 عاما في البحث لأجل تأليفه. حيث اختار المؤلفان نماذج مختلفة في مواقعها الجغرافية ومواضعها التاريخية وكذلك في خلفياتها الدينية والثقافية من أجل استخلاص القوانين العامة التي تحكم النجاح أو الفشل في عملية التنمية ومكافحة الفقر وموضع عامل الضعف المؤسسي والفساد في هذا الإطار.
فمن هذه النماذج تجربة محمد علي باشا الكبير في مصر والدولة العثمانية ومقارنة كوريا الجنوبية بكوريا الشمالية والصين والاتحاد السوفيتي.
يقول روبنسون إن جوهر فكرة الكتاب أن ” المجتمعات الناجحة اقتصاديا تتدبر أمر تطوير حزمة أو مجموعة من المؤسسات التي ترعى وتوجه المواهب والكفاءات والطاقات لدى مواطنيها”.
ويخلص المؤلفان أن الدول الفقيرة لا تعاني الفقر بسبب مواقعها الجغرافية أو ثقافاتها أو لأن حكامها لا يدركون السياسات السليمة لتحقيق الازدهار لشعوبهم بل بسبب الفساد السياسي والضعف المؤسساتي وهذا يوسع رقعة الفقر ويسهم في انتشارالاضطرابات الاجتماعية.
ويضرب المؤلفان مثالا حول العوامل التي تقف خلف مشكلة الفقر والازدهار من خلال نموذج الكوريتين “فعلى الرغم من أنه قبل الحرب الكوية وتقسيم شبه الجزيرة الكورية كانت كل المراكز الصناعية في الشمال فإن كوريا الشمالية الآن تعاني مجاعة واسعة النطاق وسوء التغذية مع تدهور كبير في مستوى المعيشة مقابل ازدهار اقتصادي ومعيشي في كوريا الجنوبية”. ويرد الكتاب ذلك إلى طبيعة الاقتصاد الكوري الشمالي المركزي التخطيط الذي أعاق الفرص والحوافز لدى المواطن الكوري الشمالي بينما العكس حاصل في كوريا الجنوبية حيث الانفتاح وإتاحة الفرص أمام جميع المواطنين.