One Enemy at a Time، أي عدو واحد فقط كل مرة، هذا هو التكتيك البسيط الذي يبدو ضروريًا في سوريا لنجاح أي طرف، وهو ما يمكن استنتاجه ببساطة من مجريات الأحداث في سوريا، ومن تحركات الروس والإيرانيين الناجحة خلال الفترة الماضية، والهشاشة الواضحة للموقف التركي والخليجي الممزق بين عداوة الأسد من ناحية، ومحاربة داعش في إطار التحالف الغربي من ناحية أخرى.
***
عدو واحد فقط هو الذي انصبت ضده جهود الروس، وهم الطرف الأقوى الآن في سوريا بلا شك، فقد التزموا من البداية بتعريف هدف واضح وهو تعزيز وضع نظام الأسد، دون وجود بشار الأسد نفسه بالضرورة (واستقباله في موسكو لم يكن سوى رفع لسقف المطالب ليس إلا،) وبالنظر لأهمية السيطرة على سوريا التاريخية ومدنها الرئيسية كحلب ودمشق وحمص، وسواحلها المهمة المطلة على البحر المتوسط بالكامل حيث تقبع قاعدة روسيا الوحيدة بالبحر المتوسط، وهي المناطق المتنازع عليها مع المعارضة السورية، كان الروس شديدي الصراحة مع أنفسهم وعلى الأرض باستهداف المعارضة بشكل رئيسي، في حين وجهوا أنظارهم إلى داعش في أوقات قليلة جدًا بالنظر لسيطرتها على مساحات شاسعة من الصحراء دون مدن هامة في سوريا باستثناء الرقة.
على مدار حملتها العسكرية الناجحة إذن حشدت روسيا طاقاتها الإعلامية لإبراز جبهة النصرة بوضوح كفصيل إرهابي لا يقل سوءًا عن داعش، ولا يقل إلحاح مواجهتها الآن عن داعش، على الرُغم من وجود جدال في وقت سابق حول أولوية ضربها من عدمه، وذلك نظرًا لأهميتها بالمناطق التي تسيطر عليها، واقترابها من المعارضة في نوع من التعاون الإستراتيجي بين الطرفين، وبالنظر لكونها الطرف الأقوى في صفوف “الثورة السورية” إن اعتبرناها جزءًا منها ولو تكتيكيًا، كان منطقيًا أن يكون استهدافها أولًا، وإبعادها عن معسكر الثورة في الإعلام ثانيًا، ضرورة روسية (بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع ذلك،) لما في ذلك من غطاء يتيح للروس ضرب مواقع متعددة تتداخل فيها خطوط المعارضة مع النصرة بشكل يصعّب مهمة التأكد من عدم استهداف روسيا للمعارضة، ولما في ذلك أيضًا من إضعاف لصورة معسكر الثورة عامة وضرب الثمار التي جناها بالتنسيق مع النصرة.
على نفس الخط سار الإيرانيون، فقد حشدوا كافة أرصدتهم العسكرية الممثلة في النظام السوري وحزب الله اللبناني، ثم الميليشيات التي أرسلوها لتعزيز صفوف النظام فيما بعد بإشراف الحرس الثوري، لمواجهة الثورة بالأساس باعتبارها العدو الذي يهدد وجوديًا نظام الأسد، بقابليته لطرح بديل سياسي على المدى البعيد يزيح النظام نظريًا، ومنافسته للنظام فعليًا وعسكريًا في المناطق الإستراتيجية الهامة بالنسبة لإيران، وهي جنوب سوريا الذي يُمكن أن يُفقد طهران حلقة الوصل بين نفوذها بجنوب العراق وجنوب لبنان، وسواحل المتوسط المهمة دائمًا لأي طرف، والمدن الكبرى المهمة كحواضن الوجود السوري التاريخي الاجتماعي والاقتصادي الرئيسي، وبالمقارنة فإن المعارك التي خاضتها إيران بمواجهة داعش على غرار الروس أقل كثيرًا، ولا ترقى أبدًا إلى اعتبارها عدوًا بشكل صريح وذلك لأن أسباب تلك العداوة ببساطة في سياق سوريا ليست قوية (على عكس العراق مثلًا.)
لننظر للبلدان الداعمة للمعسكر المواجه، والتي تعاني ضعفًا غير مسبوق نعزوه في الحقيقة لإستراتيجية مواجهة أكثر من عدو في نفس الوقت، والمثال الأبرز هنا تركيا، والتي كانت ناجحة نسبيًا حتى عام 2014 حين وضعت نظام الأسد، وعلاقاته الواضحة بحزب العمال الكردستاني، باعتباره العدو الرئيسي، لما في ذلك من خطر على نفوذها بشمال سوريا وتهديد بتشكيل ظهير عسكري لحزب العمال في نفس المنطقة، وبالتزامن مع ذلك فإن الأتراك تغاضوا تمامًا عن وجود داعش، بل وكان واضحًا وجود تنسيق نوعًا ما تحت الطاولة معهم كما حدث في أزمة القنصلية التركية بالموصل، وغض الطرف فعليًا عن مرور المقاتلين من تركيا إلى داعش، والنفط القابع بالمناطق التي تسيطر عليها داعش إلى السوق السوداء التركية بشكل أشار إلى قبول تركيا لوجود داعش بشكل أو آخر، وكان ذلك منطقيًا في الحقيقة؛ فوجود داعش في العراق أضعف الحكومة العراقية بما يكفي ليتيح توسّع حليف تركيا الرئيسي هناك، وهي حكومة كردستان العراق التي حصلت على كركوك ومدت سيطرتها خارج إطار الإقليم الفيدرالي الذي ينص عليه الدستور، كما أن وجودها في الرقة وشمال سوريا بالتحديد قطع الطريق أمام حزب العمال الكردستاني هناك.
لم تمر تلك الإستراتيجية بسهولة بالطبع كما نعلم، وتعرضت تركيا لحملة إعلامية قوية من منابر متعددة، خاصة أثناء أزمة كوباني، باعتبارها داعمة للإرهاب الممثل في داعش، وهي ضغوط لم تمتلك معها تركيا مساحة كافية للمناورة نظرًا لوجودها بالتحالف الغربي وبحلف الناتو، والذي قرر أن داعش هي العدو الرئيسي، لا سيما بعد هجمات باريس التي تبنتها داعش رسميًا، مما وضع الأتراك في مأزق، اضطروا معه لمسايرة السياسة الغربية والانضمام للتحالف المواجه لداعش رُغم عدم وجود أية مصالح تركية في تحالف كهذا.
للمفارقة إذن، ومنذ دخولها إطار التحالف المواجه لداعش، وفقدانها للرصيد الذي امتلكته بالتنسيق معها تحت الطاولة، في نفس الوقت الذي استمرت عداوتها مع نظام الأسد، ازداد الموقف التركي هشاشة، لا سيما أن الأسد وداعش هما الطرفان الأقوى على الأرض، وبالتالي يصعب تخيل نجاح أي طرف إذا ما قرر مواجهتهما معًا في نفس اللحظة، أضف لذلك أن داعش، والتي تتحرك كدولة وتنظيم إرهابي في آن، شرعت في استهداف تركيا باعتباره عضوًا في التحالف الغربي بتفجيري سوروج وأنقرة الكبيرين وغيرهما (وإن لم تتبنى ذلك رسميًا لكن من قاموا بالتفجيرات كما نعرف متصلون بداعش.)
ماذا يملك الأتراك الآن إذن؟ ببساطة ستحتاج أنقرة إلى اختيار عدو واحد فقط وبكل وضوح، فإذا ما كان الأتراك عازمون على المضي في التحالف الغربي بشكل فعلي، وتحقيق ما يمكن من مكتسبات في العراق عبر علاقاتهم القوية ببشمركة شمال العراق، فإن أقصى مكاسبهم في سوريا ستحتاج إلى تنحية نظام الأسد من موقع “العداوة” الذي وضعوه فيه، وبدء فتح قنوات اتصال معه، علاوة على إعادة المياه لمجاريها مع الروس، لتقديم تنازلات فيما يخص دعم الثورة السورية مقابل تنازل الطرف الآخر عن الدعم الذي يقدمه لحزب العمال، وهو موقف سيكون بمثابة تراجع شامل عن “المثالية” التي اتسم بها الموقف التركي سابقًا من دعمه للثورة، وتخليًا عن الثورة مقابل الخروج بمكتسبات لصالح الأمن القومي التركي وحسب.
هو الخيار الأصعب وشبه المستحيل بالطبع، لا سيما أن أنقرة استثمرت طويلًا في معسكر الثورة لتخلق نفوذًا لها بشمال سوريا، أما الخيار الآخر الأكثر منطقية في الحقيقة فهو عدم الدخول في التحالف الغربي ضد داعش بشكل فعلي، والعودة للسياسة السابقة بالتنسيق تحت الطاولة مع داعش، وهي مسألة ستضع الكثير من الضغوط على تركيا نتيجة وجودها داخل حلف الناتو، وستحتاج معه لجهود إعلامية ثقيلة على غرار ما فعله الروس، والذين فرضوا رسالة قيامهم بمحاربة الإرهاب رغم عدم التزامهم بذلك فعليًا على الأرض، وهو أمر لن يكون متاحًا للأتراك إلا من خلال أي دعم مباشر يقدمونه لبشمركة شمال العراق في حربها مع داعش، والأمر نفسه ينطبق بطبيعة الحال على دول الخليج، وإن كانت تمتلك هامشًا أوسع لحرية الحركة بالنظر لطبيعة النظم السياسية فيها، غير المقيدة بالقيم الغربية، وعدم وجودها في حلف الناتو.
***
إجمالًا، تبدو الأطراف التي قررت مواجهة الأسد وداعش في آن هي الأطراف التي ستخرج خاسرة من المعركة السورية، أو بدأت تخرج خاسرة بالفعل، في حين تبدو الأطراف التي نجحت في تحديد عدو واحد فقط واستهدافه بشكل واضح الأنجح على الأرض، وإن كان يمكننا القول بأن قدرة الروس والإيرانيين على اختيار عدوهم بأريحية وحشد الجهود العسكرية ضده بكافة أنواعها، نظامية وغير نظامية، دون الاكتراث بضغوط الإعلام الغربي، هو جزئيًا ثمرة لكونهما نظامين خارج إطار التحالف الغربي وقيوده، على العكس من تركيا، والخليج بدرجة أقل، واللذين يقفان في معسكر الثورة، لكن سياساتهما ممزقة بين معاداة الأسد الضرورية إستراتيجيًا، ومعاداة داعش المهمة لاكتساب الدعم الغربي، والأخيرة تلك ستثبت الأيام إن لم تكن قد أثبتت بالفعل أنها ليست بنفس إلحاح الأولى، أما الاعتبارات الأخلاقية والمثالية فلا مكان لها في السياسة بشكل عام ليكون لها مكان في مأساة سوريا.