أسياد الكرة
(إذا كان الإنكليز هم من اخترعوا كرة القدم بشكلها الحالي، فإن البرازيليين هم خير من لعبها!)
مثلٌ عالميٌّ متداولٌ يبيّن مدى تأثير البرازيل في عالم الساحرة المستديرة، فالدّولة الأمريكيّة الجنوبيّة ذات ال200 مليون نسمة، والتي ينشط فيها أكثر من مليوني لاعبٍ ضمن أكثر من 29 ألف نادٍ لكرة القدم، اعتادت على تخريج أفضل نجوم المستديرة عبر تاريخها، وتقديم أداءٍ يتّسم بالمتعة والفن الكرويّ الراقي، الذي تُرجم إلى إنجازات أغنت سجلّ منتخب راقصي السامبا، ب٥ ألقاب في كأس العالم، و4 في كأس القارات، و8 في بطولة كوبا أمريكا، فضلًا عن كونه المنتخب الوحيد الذي لم تغب شمسه عن جميع بطولات كأس العالم ال20.
قصة بداية الكرة في بلاد السامبا
بوستر مميّز للكرة البرازيليّة
لدخول كرة القدم إلى البرازيل قصّةٌ وحكاية، ونادرةٌ تستحقّ الرواية: ففي عام 1870 هاجر شابٌّ اسكتلندي يُدعى (جون ميلر) إلى البرازيل للعمل ضمن أكبر مدنها ساو باولو مع عددٍ من أقرانه الأوروبيين، وهناك تزوّج الرجل ورُزق بمولودٍ سمّاه (تشارلز ويليام)، وحين بلغ الطفل العاشرة أرسله أبوه إلى مدينة ساوثمبتون البريطانية ليكمل تعليمه، فما كان منه إلا أن انخرط بعد سنواتٍ قليلةٍ في صفوف فرق كرة القدم الناشئة في المدينة، قبل أن يصبح لاعبًا في صفوف نادي ساوثمبتون اعتبارًا من عام 1890، وفي هذه الأثناء كانت كرة القدم في البرازيل تُمارس بشكلٍ غير احترافي عبر بعض طلاب المدارس والجامعات، فأراد مسؤولو نادي ساو باولو -أقدم أندية البرازيل- إدخال كرة القدم الاحترافيّة إلى الألعاب الممارسة ضمنه، فلم يجدوا خيرًا من ابن مدينتهم (تشارلز ويليام ميلر) للاستعانة بخبراته، فلبّى الشاب الدعوة وعاد إلى مسقط رأسه عام 1892، مصطحبًا بعض التجهيزات الرياضيّة والكتب الخاصّة بقوانين كرة القدم، وعكف على تعليم أبناء المدينة قواعد اللعبة على مدى عامين، أثمرت جهوده بعدهما عن إقامة أوّل مباراة كرة قدمٍ بشكلها الحالي في تاريخ البرازيل، وذلك في أبريل 1894 على أحد شواطئ مدينة ساو باولو، قبل أن ينجح ميلر باستقدام بعض الفرق الانكليزيّة كساوثمبتون وكورنثيان لخوض بعض المباريات مع الفرق التي يشرف عليها في ساو باولو، ممّا أسفر عن تأسيس أوّل بطولةٍ محليّةٍ لكرة القدم في البرازيل عام 1902.
انطلاقة السيليساو واللقب القاري
عام 1914 تأسّس الاتحاد البرازيلي لكرة القدم، وفي العام ذاته تشكّل أوّل سيليساو (أي منتخب وطني بالبرتغاليّة) يمثّل البرازيل كاملةً، وحقّق الفوز في أولى مبارياته غير الرسميّة أمام نادي إكستر سيتي الإنكليزي بهدفين نظيفين، قبل أن يتعرّض للخسارة بنتيجة 0-3 في مباراته الرسميّة الأولى، التي خاضها في شهر سبتمبر من العام ذاته، أمام منتخب الآرجنتين في بوينس آيرس.
وبعدها بعامين انضمت البرازيل لعضويّة اتّحاد أمريكا الجنوبيّة، وشارك منتخبها في البطولة القاريّة الأولى التي استضافتها الآرجنتين عام 1916، حيث حلّ في المركز الثالث بعد خسارته أمام منتخب الأورغواي البطل، وتوالت مشاركات السيليساو في البطولة القاريّة، حتى نجح في الفوز بلقبها عام 1919 على أرضه، بعد فوزه في النهائي على الأورغواي بهدف نجمه الرائع آرتور فريدنريتش، والذي عاد لقيادته لتحقيق لقبه الثاني في المسابقة القاريّة عام 1922، بعد فوزه على الباراغواي في النهائي بثلاثيّةٍ نظيفة.
كؤوس العالم والماراكانازو
تشكيلة البرازيل الفائزة بكأس العالم 1958
عام 1923 انضمّت البرازيل إلى الاّتحاد الدّولي لكرة القدم (الفيفا)، وبعدها ب7 أعوام كانت أحد المنتخبات ال13 المدعوّة للظهور في بطولة كأس العالم الأولى التي استضافتها الأورغواي عام 1930، حيث ودّعت المنافسة مبكّرًا بعد الخسارة أمام يوغسلافيا بنتيجة 1-2، رغم فوزها التالي على بوليفيا برباعيّةٍ بيضاء.
ولم يكن حظّ البرازيليين أفضل في مونديال إيطاليا 1934، حيث ودّعوا من الدّور الأوّل مجدّدًا، قبل أن يبصموا على أفضل مشاركاتهم العالميّة حينها في مونديال فرنسا 1938، حيث أنهوا البطولة في المركز الثالث، بفضل تألّق مجموعةٍ من النجوم يتقدّمهم ليونداس.
وفي الأربعينيّات، خفت بريق الكرة العالميّة مع توقّف إقامة بطولات كأس العالم بسبب الحرب العالميّة الثانيّة، وبقي منتخب السيليساو عضوًا دائمًا في بطولات أمريكا الجنوبيّة، التي نجح في إحراز لقبها للمرّة الثالثة في تاريخه عام 1949، بعد أن اكتسح الباراغواي في النهائي بسباعيّةٍ بيضاء.
وعادت عجلة كأس العالم للدّوران عام 1950، في البطولة التي استضافتها البرازيل أملًا في التتويج باللقب العالميّ، والذي كان قريبًا جدًا لولا هزيمة ملعب ماراكانا الذي احتضن المباراة النهائيّة، وفي مدرجاته تدوي أهازيج 199854 متفرّجٍ، حضروا للاحتفال بفوزٍ متوقّعٍ لمنتخبهم الممتع المدجّج بنجومٍ من وزن زيزينيو وآدمير، فإذا بهم يتجرّعون مرارة الهزيمة أمام جارهم الأورغواني بنتيجة 1-2، ممّا تسبّب بوفاة العديد من المشجّعين يومها جرّاء السكتات القلبيّة، فيما يعرف بمأساة ملعب الماراكانا أو (الماراكانازو).
بيليه والحقبة الذهبيّة
أسطورة الكرة البرازيليّة والعالميّة بيليه
لم ينجح السيليساو في رد اعتباره خلال المونديال التالي، وانتظر حتّى مونديال السّويد 1958، ليفلح نجومه الرائعون بقيادة الأسطورة بيليه في بلوغ أقصى درجات المجد الكروي، بنجاحهم في إحراز كأس العالم، بعد عروض أخاذة توجوها بانتصار عريض على السويد المضيفة في النهائي بنتيجة 5-2، بفضل ثنائيّتي بيليه وفافا وهدف ماريو زاغالو.
وحافظ أبطال السيليساو على لقبهم العالمي في مونديال تشيلي 1962، بعد تفوّقهم بنتيجة 3-1 على تشيكوسلوفاكيا في النهائي الذي غاب عنه بيليه لإصابته منذ الدّور الأوّل، ولكنّ تألّق بقيّة النجوم وعلى رأسهم غارينشيا، ديدي، نيلتون ودجالما سانتوس، والحارس جيلمار، كان كافيًا لقيادة السيليساو لحمل كأس العالم ثانيةً.
وبعد حضورٍ متواضعٍ في مونديال إنكلترا 1966، عاد بيليه في مونديال المكسيك 1970، بمشاركة توستاو، ريفيلينو، جيرزينيو، كارلوس ألبيرتو، وبقيّة أعضاء جيل السيليساو الذهبي، إلى عزف أجمل سيمفونيات السامبا الكروية، ومضوا بمنتخبهم نحو تتويجٍ عالميٍّ ثالث، تحقّق بعد الانتصار العريض على إيطاليا في النهائي بنتيجة ٤-١
الانتظار وعودة الألقاب
من فوز البرازيل بكأس العالم لآخر مرّةٍ عام 2002
لم يكن هيّنًا على البرازيليين انفراط عقد جيلهم الذهبيّ الأول باعتزال الأسطورة بيليه عام 1971، فمكثوا سنينا بانتظار عودة الألقاب والبطولات، ولم يرو ظمأهم تحقيق جيل السبعينيات الممتاز بقيادة زيكو وفالكاو المركز الثالث في مونديال الآرجنتين 1978، ولا فوز جيل الثمانينيات بقيادة روماريو وبيبيتو بلقب كوبا أمريكا لعام 1989، حتّى تمكّن جيل التسعينيّات من استعادة اللقب العالميّ الغائب منذ 24 عامًا، بعد فوزهم الشّاق على إيطاليا في نهائي مونديال أمريكا 1994 بفضل ركلات الترجيح، التي ابتسمت لروماريو ورفاقه وتوّجتهم بلقبٍ استحقّوه عن جدارة.
وتابع نجوم الجيل الذهبيّ الثاني مشوار التألق والإمتاع، فحصدوا لقبي كوبا أمريكا وكأس القارات عام 1997، قبل أن يخسروا نهائي مونديال فرنسا 1998 أمام زيدان ورفاقه، وليعودوا للفوز بلقب كوبا أمريكا عام 1999، قبل أن يتمكّنوا عام 2002 من الفوز بلقب كأس العالم للمرّة الخامسة في تاريخهم، بعد عروضٍ ممتعةٍ، اختتموها بالفوز على ألمانيا في النهائي بثنائيّة الظاهرة رونالدو، الذي أبدع إلى جانبه نجوم كبار كريفالدو، رونالدينيو، كافو، وروبيرتو كارلوس.
ورغم انحسار مساحة المتعة والإبهار نسبيا، استمرّ إشعاع الجيل الذهبيّ الثاني بإضاءة طريق الألقاب والبطولات للسيليساو حتى نهاية عقد الألفيّة الأوّل، ففازوا بلقب كوبا أمريكا عامي 2004 و2007، وحملوا كأس القارّات مرّتين عامي 2005 و2009، دون أن يتمكّنوا من تجديد وصالهم مع كأس العالم، التي ودّعوها من دورها ربع النهائي عامي 2006 و2010، رغم تواجد عددٍ من النجوم كروبينيو، كاكا، أدريانو، ولويس فابيانو.
وماذا بعد؟
جانبٌ من خسارة البرازيل الكارثيّة أمام ألمانيا في نصف نهائي المونديال الماضي
ومع اعتزال أغلب نجوم الجيل الذهبيّ الثاني، وعدم ظهور من يحمل راية النجوميّة من بعدهم باستثناء نيمار، عانت الكرة البرازيليّة من تراجعٍ حاد في السنوات ال٥ الأخيرة، ليس فقط على صعيد النتائج، بل على مستوى الأداء الذي افتقر للإمتاع والإقناع، ففشل لاعبو الجيل الحالي للسيليساو في تقديم ما يتناسب مع القميص التاريخي الذي يرتدونه، فخرجوا من ربع نهائي النسختين الأخيرتين من كوبا أمريكا دون بصمة تذكر، واقتصرت إنجازاتهم على الفوز ببطولة كأس القارّات التحضيريّة على أرضهم عام 2013، قبل أن تأتيهم الطّامة الكبرى في المونديال الأخير، حين تعرّضوا لأكبر الهزائم عبر تاريخهم الكروي، وذلك بسقوطهم المدوي على أرضهم وبين جماهيرهم، بسباعيّةٍ مذلة أمام منتخب الماكينات الألمانيّة في نصف نهائي البطولة، لتسقط ورقة التوت الواهية، مظهرةً للعيان مدى الوهن والضعف الذي وصلت إليه الكرة البرازيليّة اليوم.
وبعد انتهاء كأس العالم واستقالة المدرّب لويس فيليبي سكولاري، يبدو أن مسيّري الكرة في البرازيل لم يستوعبوا الدرس جيّدًا، فأعادوا تعيين القائد السابق للمنتخب دونغا في سدّة التدريب، رغم أسلوبه الدّفاعي المقيت الذي فشل معه في إعادة المتعة البرازيليّة المفقودة خلال فترة تدريبه الأولى بين عامي 2006 و2010، لترتسم المزيد من علامات الاستفهام حول مصير منتخب السيليساو، الذي يبدو أن الأيام التي كان فيها اسمه مرادفًا للمتعة الكرويّة المحضة قد ولت بلا عودة.