أجرى النظام المصري تعديلًا وزاريًا في حكومة شريف إسماعيل أطاح بعشرة وزراء قدامى قوامهم الأساسي من المجموعة الاقتصادية في الحكومة واستبدلهم بآخرين، بالإضافة إلى استحداث وزراة جديدة، وتعيين أربعة نواب لوزراء المالية (ثلاثة نواب)، والتخطيط (نائب واحد).
دلالات هذا التعديل السياسية كثيرة، لكن بالتركيز على الشق الاقتصادي منها نجد أن التغيير طال وزارة المالية، ووزارة الاستثمار التي فصل عنها قطاع الأعمال لتصبح وزارة مستقلة، وهي وزارات تمثل عصب الاقتصاد في مصر بجانب التركيز على تعيين ثلاثة نواب لوزير المالية كنائب للخزانة العامة، ونائب للسياسات المالية، وآخر للسياسات الضريبية.
هذه الخطوات تعني أن النظام لم يكن راضٍ عن أداء وزراء المجموعة الاقتصادية تحت إشرافه في الفترة الماضية، لذا أطاح بهم في هذا التعديل واستبدلهم بشخصيات لها سمات متماثلة تقريبًا، في ظل تدهور اقتصادي غير مسبوق، واضطراب في الجهاز المصرفي أدى إلى مضاعفات في تأثير ارتفاع سعر الدولار أمام الجنيه المصري، في ظل انعدام مصادر العملة الصعبة بسبب انهيار القطاعات التي تعتمد عليها الدولة في ذلك من سياحة وتصدير وقناة السويس لأسباب متشابكة بين الإداري الاقتصاي والسياسي البحت.
السياسات الاقتصادية التي اعتمدها النظام عقب الانقلاب العسكري في مصر رغم إتاحة كافة الفرص للاقتصاد المصري للانطلاق كالمنح الخليجية الغير قابلة للرد –حيث حصل هذا الاقتصاد المصري في عهد هذا النظام على أكبر مبلغ من المنح الخليجية الغير مردودة-، جاءت بنتائج كارثية على الوضع الاقتصادي العام في مصر.
بدأت مع هذه السياسات حالة من انهيار قطاع الأعمال في مصر بانسحاب العديد من الشركات الإقليمية والعالمية من السوق المصري بسبب ندرة العملة الصعبة، كما تابعت المؤسسة العسكرية في توغلها داخل الاقتصاد وهو ما حرق غالبية فرص التنافسية مع القطاع الخاص بسبب الامتيازات التي يتمتع بها الجيش في الاقتصاد، هو ما انعكس سياسيًا على النظام حين أشعل معركة مع رجال الأعمال.
تلك السياسات ضاعفت من الديون الخارجية والداخلية للاقتصاد المصري مع الدخول في مشروعات غير مدروسة ذات عوائد باهتة تستخدم في عملية “الشو السياسي”، وانهارت معها العملة في ظل سياسات مصرفية عشوائية اضطر النظام معها لتغيير محافظ البنك المركزي في محاولة لإنقاذ ما يمكن انقاذه بتعويم “الجنيه المصري” بسعر حقيقي أمام الدولار.
إلا أنه في النهاية لم تُحل الأزمة الاقتصادية في مصر بل تفاقمت، وبات النظام مطالبًا بالتقشف رغمًا عنه حتى لا تتطور الأمور أكثر من ذلك، كما أصبح النظام مطالبًا بسداد تعهدات متعلقة بتحرير الاقتصاد وتحقيق معدلات تنمية معينة توفيقًا للأوضاع مع المؤسسات المالية الدولية، وهو ما فشل فيه رجال الوزارات السابقة على اختلاف توجهاتهم تحت إشراف النخبة العسكرية الحاكمة الغير متخصصة في الشأن الاقتصادي سوى بصورة “جباية الأموال”.
النظام بقيادة السيسي الذي خاض معركة شرسة ضد رجال الأعمال بصفة عامة ورجال أعمال الحقبة المباركية بشكل خاص لصالح المؤسسة العسكرية، قرر إنقاذ نفسه من هذه الورطة التي وقع فيها بتهدئة الأجواء مع هذه الفئة، بل والاستعانة بخبراتها الاقتصادية في وضع خطة إنقاذ لتسيير المركب دون غرق كما كان العهد إبان حكم مبارك.
تتضح هذه الصورة بصورة جلية في الاختيارات الأخيرة بالتعديل الوزاري فيما يخص المجموعة الوزارية الاقتصادية أبرزهم عمرو الجارحي وزير المالية صاحب الخلفية العملية في القطاع المالي وبنوك الاستثمار “بنك الاستثمار القومي – العضو المنتدب لشركة القلعة للاستشارات المالية”، وأحد رجال أعمال جمال مبارك في جمعية جيل المستقبل، كما أتت وزيرة الاستثمار داليا خورشيد من قطاع الشركات الخاصة “آخر عمل مجموعة أوراسكوم” المملوكة لآل ساويرس.
وإذا نظرنا إلى باقي التعديل الوزاري فسنجد نفس السمة أيضًا فوزير السياحة يحيى راشد ينحدر من خلفية عملية في مجموعة الخرافي الاستثمارية، وآخرين ممثلين لكبرى مجموعات الشركات الخاصة المملوكة لرجال أعمال الحقبة المباركية وبالتحديد عهد جمال مبارك المستحوذين على سوق القطاع الخاص المصري بجدارة.
مما يعني أن رجال الأعمال ومجتمعهم المالي نجحوا في العودة لصدارة المشهد الاقتصادي رغمًا عن النظام الحالي لوضع خطة الانقاذ بالإضافة إلى تنفيذ مخطط الخصخصة وتحرير الاقتصاد من القيود تمامًا وهو متطلب إقليمي “إماراتي” ودولي “المؤسسات المالية الدولية”، بمعنى أنهم يستخدمون حاليًا كتكنوقراط في تنفيذ عملية التقشف بالإضافة إلى عملية اللبرلة التامة ربما لخبرتهم السابقة في ذلك.
يعتقد البعض أن يشهد الوضع الاقتصادي على يد هؤلاء تحسنًا نسبيًا في معدلات النمو الاقتصادية في مقابل سحق إجراءات العدالة الاجتماعية داخل المجتمع، وهو وضع أشبه بأواخر عهد مبارك، التي ارتفعت فيها معدلات التنمية بصورة غير مسبوقة مع عدم انعكاس ذلك على معيشة المواطن.
كما تشير الصورة إلى أن هذه التعديلات المرضية بكل تأكيد لأكبر كيانات الاقتصاد الخاص في مصر سوف تنعكس إيجابيًا على الصراع ما بين دولة رجال الأعمال وغول المؤسسة العسكرية الاقتصادي، فربما تشهد الأيام القادمة تراجعًا تكتيكيًا من اقتصاد الجيش لصالح رجال الأعمال.
هذه الحالة الاقتصادية المتردية هي التي دفعت أيضًا الأجهزة السيادية للتدخل لإفساح الطريق لرجال الأعمال بصورة ما، حيث نقلت صحيفة العربي الجديد تصريحات عن أحد رجال الأعمال المصريين البارزين –لم تسمه- تحدث فيها عن دعوة جهاز المخابرات لعدد من رجال الأعمال المصريين إلى اجتماع في مقر الجهاز، لمناقشة الوضع الاقتصادي، الذي وصفه وكيل الجهاز الذي أدار الاجتماع بـ”المتردي” بحسب الصحفية.
وأشار تقرير الصحيفة إلى أن أحد ممثلي الجهاز الذين حضروا الاجتماع خاطب رجال الأعمال قائلا لهم إن الدولة والرئيس السيسي ينظرون لهم على أنهم طوق النجاة، مضيفًا أن الرئيس سيسعى إلى حل مشكلاتهم، شريطة الوقوف بشكل جاد لحل الأزمة، وليس وقوفًا إعلاميًا فقط.
وهو ما يُشير بكل تأكيد إلى أن النظام العسكري في مصر حاليًا فشل في إدارة الملف الاقتصادي بعقلية “الجباية”، وقرر مؤخرًا إسناد الأمر إلى خصومه من رجال الأعمال لإنقاذ الأمر.