متحدثا لعدة مئات من ضباط جيشه في قاعة سانت جورج بالكريملين (17 آذار/مارس)، أكد الرئيس الروسي، من جديد، على أن العملية التي تعهدتها موسكو في سوريا منذ نهاية أيلول/ سبتمبر الماضي حققت أهدافها.
غلف بوتين خطابه، الذي نقل مباشرة إلى المشاهدين الروس عبر وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية، في لغة مفعمة بالأمجاد القومية، ولم يغفل عن تذكير مستمعيه بأن جدران قاعة سانت جورج تحمل سجلا طويلا لتاريخ العسكرية الروسية وإنجازاتها. ولكن الخطاب في معظمه، على أي حال، لم يكن سوى تسويغ لعملية الشهور الخمسة في سوريا، لتكلفتها المالية، ما أنجزته من أهداف على صعيد الأزمة السورية، وما يتعلق بدور روسيا وموقعها في العالم.
كان بوتين قد أصدر أمره يوم 14 آذار/ مارس بسحب معظم القوة الروسية الجوية، المتمركزة في قاعدة حميميم قرب مدينة اللاذقية السورية. وما إن أعُلن في موسكو عن القرار، حتى انشغلت دوائر الإعلام والسياسة، داخل روسيا وخارجها، بمحاولة تفسير خطوة القيصر. “مفاجئا” كان الوصف المشترك بين الأغلبية العظمى من التعليقات والتحليلات التي سارعت لقراءة قرار بوتين، حتى تلك التي صدرت عن متحدثين رسميين في الولايات المتحدة وأوروبا. وليس ثمة شك أن القرار كان مفاجئا.
بشار الأسد، رئيس الدولة المضيفة للقوة الروسية، ومركز الأزمة السورية برمتها، أبلغ بقرار موسكو قبل ساعات فقط من بدء عودة أسراب الطائرات والطيارين الروس إلى بلادهم، وأبلغ في اتصال هاتفي من الرئيس الروسي، لا أكثر. “مفاجئا”، نعم، بالتأكيد؛ لأن هذه هي طريقة رجل الاستخبارات السابق في تأكيد استقلال روسيا، وتحقيق أكبر مكاسب ممكنة من التفاف الرأي العام الروسي حول قيادته. ولكن قرار بوتين ليس بلا منطق.
أحاطت بالتدخل الروسي المباشر في سوريا مبالغات لا حصر لها، سيما في الأوساط المؤيدة لنظام بشار الأسد وإيران. وقد شاعت في قراءات هذه الأوساط جمل وأوصاف مثل “عودة الدب الروسي إلى ساحة الصراع الدولي”، و”تحدي روسيا لأوباما”، و”موسكو تعيد رسم ميزان القوى في الشرق الأوسط”، وأخرى شبيهة.
الحقيقة، بالطبع، أن العملية الروسية في سوريا كانت محدودة من البداية، وأنها رسمت على خلفية من الحرص على عدم التورط والغرق في الأزمة السورية، وأن أهدافها تعلقت بما هو أبعد من سوريا نفسها. في لحظة بدا أن نظام الأسد، وبالرغم من الدعم الإيراني الكبير ودعم المليشيات الشيعية، كان في طريقه لخسارة الحرب، أراد الروس منع سقوط النظام بالقوة، وتوكيد موقفهم القائل بأن الأنظمة لا يجب أن تسقط باسم الديمقراطية.
خلال الفترة من 2011 إلى العام الماضي، رأت القيادة الروسية أن الولايات المتحدة والقوى الغربية تدفع بموجة الديمقراطية بعيدا، ليس فقط في الشرق الأوسط وأوكرانيا، بل قد تصل في النهاية إلى روسيا نفسها.
ولكن موسكو كانت تدرك أن تحقيق انتصار كامل لنظام الأسد يتطلب أكثر من عملية جوية، وانخراط روسي واسع النطاق على الأرض. وهذا ما كان بوتين مصمما على ألّا يحدث.
من جهة أخرى، وجد الرئيس الروسي في الأزمة السورية فرصة لإعادة تأكيد دور روسيا وموقعها على الساحة الدولية، شريكا أصيلا للولايات المتحدة والقوى الغربية في تحديد صورة العالم. كما وجد في سوريا فرصة لإعادة التفاوض على أسس جديدة حول أوكرانيا ومستقبلها، وحول سياسة توسع حلف الناتو، الماضية بصورة حثيثة.
ويمكن القول أن العملية الروسية في سوريا حققت بعض أهدافها، ولكن بعض هذه الأهداف فقط. أوقفت العملية الثوار السوريين عن التقدم، وحمت نظام بشار من السقوط في ساحة الحرب. وربما وفرت روسيا، وإن بصورة غير مباشرة، خدمة مجانية للموقف الأمريكي في سوريا. فمنذ صيف 2015، أخذت واشنطن تعرب عن قلق واضح لحلفائها الإقليميين من أن تعدد مجموعات الثوار المسلحة، وتوجهات بعض المجموعات الإسلامية الراديكالية، ستجعل من المستحيل توفر بديل مناسب لنظام الأسد، وأن سقوطا سريعا للنظام قد يوقع سوريا فريسة لتنظيم الدولة.
وكان هذا بالتأكيد سبب الترحيب الأمريكي المستبطن بالتدخل الروسي، والتنسيق الأمريكي العسكري السريع في سوريا، الذي توصل إليه البنتاغون مع وزارة الدفاع الروسية. بغير ذلك، لم تحقق العملية الروسية أي أهداف جوهرية أخرى.
حافظت القوى الغربية على الفصل بين أوكرانيا وسوريا؛ فتحت قنوات الاتصال الأمريكية ـ الروسية من جديد، ولكن شيئا من العقوبات المفروضة على روسيا لم يرفع، واستمرت سياسة توسع الناتو على ماهي، بضم مقدونيا إلى الحلف. ما يحسب لبوتين، على أي حال، أنه اختار اللحظة المناسبة لسحب معظم قواته، وعدم الانجرار إلى التورط العميق في الأزمة السورية.
بيد أن خطوة سحب معظم القوة الروسية من سورية لم تؤخذ دون سياسة بديلة. والواضح، على أي حال، أن روسيا التزمت بالفعل، سيما خلال الأيام القليلة التي سبقت الإعلان عن سحب معظم قوة العمليات الجوية، بالهدنة. وعندما قدم الأمريكيون لنظرائهم الروس أدلة كافية على أن قوات النظام هي من قام بمعظم الخروقات منذ إعلان الهدنة، لم تتردد موسكو في الضغط على الأسد، للتوقف عن محاولات تقويض الهدنة.
ولم يختلف الموقف الروسي كثيرا، في رد فعله على تصريحات الأسد لوكالة الأنباء الفرنسية، التي قال فيها إن هدفه هو مواصلة الحرب حتى فرض سيطرة نظامه على كافة الأراضي السورية. موسكو، باختصار، توصلت إلى قناعة بأن الحل العسكري للأزمة في سوريا غير ممكن التحقق، سواء لعجز قوات الأسد وحلفائه عن الانتصار في الحرب، أو لأن القيادة الروسية لن تسمح بتورط عسكري طويل المدى على أرض سوريا.
ولا بد أن القرار الروسي بسحب معظم القوة الجوية من قاعدة حميميم ولّد من الشعور بأن بعضا من الضغط بات ضروريا من أجل إقناع الرئيس السوري بحقائق الواقع. في نهاية الأمر، كان غباء الأسد ووحشية أجهزته من أوصل سوريا إلى ما وصلت إليه، وإن كان الأسد لم يزل يجلس على مقعد الرئاسة السورية، فلأن هذا المقعد يستند إلى دعم إيراني وروسي كبير. وهذا ما تعرفه موسكو، وما يتردد في دائرة بوتين الصغيرة، وما يحاول الروس دفع حليفهم في دمشق لإدراكه.
الحل، إذن، لابد أن يتم الوصل إليه بالتفاوض، وعبر تقديم تنازلات ملموسة من طرفي الأزمة الرئيسين: النظام والمعارضة. والواضح أن الروس والأمريكيين يعقدون مفاوضات خلف الستار؛ بهدف التوصل إلى توافق على الإطار العام للحل التفاوضي، الذي سيحاول كل منهما فرضه على حلفائه. والواضح، أيضا، أن مسألة النظام الفيدرالي إحدى المسائل المطروحة في النقاش الدائر بين الروس والأمريكيين.
وهنا تقع تحديات ما بعد الهدنة، وما بعد بدء مفاوضات جنيف بالنسبة للمعارضة وقوى الثورة السورية. ليس ثمة خلاف على أن حظوظ التقدم في المسار التفاوضي، أو العودة إلى ساحة الحرب، تبدو متساوية الآن. ولكن، إن مال ميزان القوى باتجاه المسار التفاوضي، فإن معركة السوريين مع محاولة الراعيين الكبيرين للمفاوضات: أمريكا وروسيا، لن تقل عن حجم المعركة مع قوات الأسد والمليشيات الشيعية والطائرات الروسية، التي وفرت له المساندة خلال سنوات وشهور الحرب الأخيرة.