بات استهداف القضاة أمرًا جليًا في إطار تصفية النظام حساباته مع الأصوات التي عارضت ممارساته الغير قانونية، وبدى أن النظام المصري يريد إفراغ المنظومة القضائية للقضاة الذين يتماهون مع مواقفه ويتنافسون في إصدار أحكام قاسية على معارضيه قد تصل شدتها إلى السجن المؤبد والإعدام.
قبل أيام، قضى مجلس التأديب الأعلى، بعزل 15 قاضيًا بدعوى انتمائهم لحركة “قضاة من أجل مصر” وقرر إحالتهم للمعاش، في حكم نهائي غير قابل للطعن، وذلك بتاريخ 21 مارس الماضي، فيما مد المجلس برئاسة المستشار أحمد جمال عبداللطيف أجل النطق بالحكم في الطعون المقدمة من 56 قاض والنيابة العامة إلى جلسة، 28 مارس الجاري، وذلك في الواقعة المعروفة إعلاميًا باسم “قضاة بيان رابعة”.
المجلس الأعلى لتأديب القضاة قال في حيثيات الحكم أن القضاة خرجوا عن نطاق العمل القضائي، وأنهم خالفوا أحكام قانون السلطة القضائية بانخراطهم في العمل السياسي والانضمام لحركة تهدف إلى مناصرة فصيل بعينه، قاصدًا بذلك حركة قضاة من أجل مصر.
كان من بين القضاة الصادر بحقهم قرار العزل المستشار ناجي دربالة رئيس محكمة النقض، أحد رموز تيار استقلال القضاة، وصدر قرار عزله رغم أن المجلس كان قد برأه مع أربعة آخرين في درجته الأولى من تهمة الانضمام لحركة قضاة من أجل مصر، بعد ثبوت عدم انتمائهم إليها، إلا أن محكمة الدرجة الثانية ألغت هذا الحكم وقررت عزلهم جميعًا، وقال الرجل أن القرار يستهدفه شخصيًا لمطالباته السابقة باستقلال القضاء.
أما المفاجئة في هذا القرار أن هناك أحد القضاة جرى فصله مرتين من عمله بالسلك القضائي، وهو رئيس محكمة استئناف القاهرة المستشار أيمن الوراداني، في فضيحة مدوية لجهاز القضاء، فكان الرجل قد أحيل سابقًا لمجلس تأديب برئاسة المستشار محفوظ صابر في 2013، قبل أن يجد نفسه مفصولًا مرة أخرى في مارس 2016، كما أن الأمر الذي أثار الاستغراب أكثر هو وجود عضو بمجلس التأديب الأعلى يدعى “أيمن عباس” في المجلسين في 2013، وفي 2016، أي أنه أجرى تحقيقات مع الوراداني مرتين، تمت الثانية بعد فصله من جهاز القضاء.
مطلع الشهر الجاري، وتحديدًا بتاريخ 7 مارس، قرر مجلس التأديب والصلاحية بمحكمة استئناف القاهرة، إحالة المستشار زكريا عبدالعزيز الرئيس بمحكمة الاستئناف، ورئيس نادى القضاة الأسبق إلى المعاش، وذلك خلال نظره الدعوى المقامة ضده فى واقعة اتهامه باقتحام مبنى أمن الدولة إبان ثورة 25 يناير والاشتغال بالسياسة، وقد صدر القرار برئاسة المستشار إبراهيم عبدالملك، رغم تقديم عبدالعزيز إخطارًا إلى محكمة الاستئناف يطالبها بضرورة تنحي عبدالملك عن محاكمته في القضية لوجود خصومة بينهما، من جانبه، أكد عبدالعزيز أن هذا القرار صدر ضده بسبب مطالباته المتكررة باستقلال القضاء ونزاهة الانتخابات العامة في 2005، وأوضح أنه يدفع ثمن فترة رئاسته لنادي القضاة.
شهد شهر فبراير أيضًا إجراءات مستعرة ضد القضاة، بدأت باعتقال أحدهم إبان جلسة التحقيق معه في قضية عرفت إعلاميًا باسم “بيان رابعة”، ففي 22 من الشهر المنصرم، اعتقل المستشار أمير عوض المستشار بمحكمة استئناف الإسكندرية، من داخل دار القضاء العالي، بعد أمرٍ من المستشار أحمد جمال الدين رئيس مجلس القضاء الأعلى وقاضى قضاة مصر، وذلك على خلفية طلب الأول من الأخير أن يتم الاستماع لمرافعته عن نفسه قبل تأجيل جلسة المرافعة لليوم التالي، وبرر ذلك ببعد المسافة بين محل سكنه ومقر محاكمته، مؤكدًا أنه سيأخذ على الأقل 4 ساعات ذهابًا ومثلهمًا إيابًا للعودة في اليوم التالي الذي جرى تأجيل الجلسة إليه، فما كان من القاضي إلا أن قال له: “مش مشكلتي اتصرف، إن شالله تنام في الشارع”.
وحينما حاول عوض الاعتراض على الموقف، أمر جمال الدين باحتجازه وتحرير محضر اتهمه فيه بـ”إهانة القضاء”، حيث جرى حبسه 4 أيام على ذمة التحقيقات، وتم ترحيله إلى قسم شرطة الأزبكية، قبل أن يقرر النائب العام المستشار نبيل صادق حظر النشر في القضية، حيث أمر بعد ساعاتٍ من الواقعة بحظر النشر على جميع وسائل الإعلام في القضية الخاصة بمذكرة مجلس التأديب الأعلى ضد المستشار أمير عوض المتهم في قضية بيان رابعة، التي قيدت برقم 12 لسنة 2016، نيابات استئناف القاهرة.
بتاريخ 18 فبراير، نشرت الجريدة الرسمية قرارًا جمهوريًا حمل رقم 56 لسنة 2016، بعزل 4 مستشارين بهيئة قضايا الدولة من وظائفهم بدعوى انضمامهم إلى حركة قضاة من أجل مصر، وصدر الحكم ضد كلٍ من: المستشار محمود السيد محمود فرحات، وكيل هيئة قضايا الدولة، والمستشار طلعت محمد كمال محمود العشري، وكيل هيئة قضايا الدولة، والمستشار المساعد محمد أحمد عبدالحميد يوسف، والمستشار المساعد سعيد محمد محمد عبدالكريم بهيئة قضايا الدولة.
هؤلاء الأربعة كان قد صدر بحقهم 4 قرارات سابقة بالعزل، ففي 12 ديسمبر 2015، قرر مجلس التأديب بهيئة قضايا الدولة عزل الأربعة أنفسهم، كما عاقب 5 آخرين بالإنذار وهم: “عصام الطبجى، ومحمد فتحي، وحسين عمر، ومحمد جودة، والحسين إبراهيم”، و3 غيرهم باللوم وهم: “عبدالله كرم، وحامد جمعة، والسيد الطوخي”، لانضمامهم إلى حركة قضاة من أجل مصر، والمشاركة في بيان داعم لاعتصام رابعة العدوية، وحضور اجتماع الـ 100 لتعديل الدستور.
وفي سبتمبر 2014، أيد مجلس التأديب الأعلى للقضاة قرار عزل النائب العام السابق المستشار “طلعت عبدالله”-الذي تولى المنصب فترة إبان حكم مرسي- من وظيفته وإحالته إلى المعاش، كما شمل تأييد العزل الرئيس السابق باستئناف القاهرة المستشار أحمد يحيى، بتهمة الاشتغال بالسياسة والظهور في ميدان رابعة العدوية، كما أيد عزل سبعة من القضاة المنتمين لحركة “قضاة من أجل مصر”، في واقعة بيان رابعة، وهم: “حازم صالح، وعماد أبو هاشم، الذين كانا رؤساء بمحكمة المنصورة الابتدائية، ومحمد عطا الله، الرئيس السابق بمحكمة المنصورة، ومصطفى دويدار،الذي شغل منصب النائب العام المساعد في عهد طلعت عبدالله، وأحمد رضوان، وأيمن يوسف، اللذان كانا قاضيين بمحكمة دمياط الابتدائية، وعماد البنداري”.
كما أنه من الوقائع الشهيرة لقرارات عزل القضاة عقب انقلاب 3 يوليو، إصدار السيسي قرارًا بعزل المستشار وليد شرابي، رئيس محكمة شمال القاهرة الابتدائية من منصبه القضائي في 14 أغسطس 2014، وذلك بعد إحالته للصلاحية، حيث كان شرابي متحدثًا باسم حركة “قضاة من أجل مصر”، فيما أوضح متخصصون أن عزل القضاة من اختصاصات المجلس الأعلى للقضاء وليست من اختصاصات رئيس الجمهورية، مؤكدين امتلاك رئيس الجمهورية صلاحية إحالة القضاة الذين تم تعينهم بقرار جمهوري للمعاش وذلك فقط في حالة ارتكاب مخالفة لقانون السلطة القضائية فيما لا يملك قرار بالعزل.
كان مجلس تأديب وصلاحية القضاة قد أحال 31 قاضيًا من القضاة الموقعين على بيان رابعة للمعاش، في مارس 2015، وذلك بسبب توقيعهم على البيان الذي أيد شرعية الرئيس السابق محمد مرسي، كما قرر المجلس إحالة 10 قضاة آخرين للمعاش في القضية التي عرفت إعلاميًا باسم “قضاة من أجل مصر”، فيما لم يتم قبول الدعوى المقدمة ضد 5 آخرين، وتم ذلك رغم إصدار القضاة الذين وقعوا على بيان رابعة بيانًا أكدوا فيه بطلان إحالتهم للجنة الصلاحية، وأوضحوا أن البيان المذكور جاء إعمالًا لحقهم في التعبير المكفول بالدستور والقوانين المصرية والدولية.
يذكر أن حركة قضاة من أجل مصر، أنشأها مجموعة قضاة منتمين لمختلف الهيئات القضائية، وذلك في أعقاب ثورة يناير 2011، وكان لهم دور كبير في إجراء الانتخابات الرئاسية المصرية عام 2012، حيث قاموا بتجميع أصوات الناخبين وإعلانها للرأي العام في الجولتين الأولى والثانية، وساهم ذلك في وأد نوايا تزوير الانتخابات، وقد حرصوا على التواصل مع الرأي العام من خلال إجراء مؤتمرات صحفية، أما قضاة بيان رابعة أو ما عرف بهذا الاسم جاء على خلفية توقيع مجموعة من القضاة على بيان مؤيد لشرعية الرئيس المنتخب محمد مرسي، ورفضهم آلية الإطاحة به معتبرينها مخالفة للقانون، ويدعم البيان أيضًا اعتصام رابعة العدوية.
أغلب قرارات العزل الصادرة التي ورد ذكرها في هذا التقرير وغيرها افتقرت للإجراءات القانونية والدستورية، حيث لم تتح الفرصة للقضاة المعزولين لتقديم دفاعهم وإبداء أقوالهم، وهو ما يعد جريمة قانونية حتى لا يعتبر القانون الدعاوى مهيأة للحكم إلى بعد استكمال كافة الطلبات والأقوال، كما برزت تحايلات واضحة على القانون لمنع تقديم إعلان شواهد التزوير في قضيتي بيان رابعة وقضاة من أجل مصر.
كما أن الأحكام تنم عن تصفية حسابات بين بعض قضاة مجلس التأديب وبعض القضاة المعزولين، إذ شهدت بعض تلك القرارات مشاركة قضاة كانوا قد قدموا بلاغات في زملائهم في مجالس التأديب التي أمرت بعزلهم، حيث بات هؤلاء القضاء خصمًا وحكمًا في آن واحد، كما أن نادي القضاة وعلى رأسه أحمد الزند قدموا بلاغات ضد عدد من القضاه بسبب انتقادهم النادي الذي رأسه الزند فترة، وقد قدم الزند وحده بلاغات ضد نحو 15 قاضيًا، بالإضافة إلى أن أغلب الوقائع المتهم فيها القضاة المعزولين كان إبداءً لآرائهم، وهو ما يتيحه القانون، فلم يكن اشتغالًا بالسياسة.
فتشكيل مجلس التأديب مخالف أساسًا لأحد أحكام المحكمة الدستورية العليا الذي يقضي بعدم دستورية النص الذي كان يجيز اشتراك من قام بالإحالة ضمن مجلس التأديب”، كما خالف نص المادة 65 من قانون الإجراءات الجنائية، والتي تنص على: “لوزير العدل أن يطلب من محكمة الاستئناف ندب قاض لتحقيق جريمة معيًنة أو جرائم من نوع معين ، ويكون الندب بقرار من الجمعية العامة، وفي هذه الحالة يكون القاضي المندوب هو المختص دون غيره بإجراء التحقيق من وقت مباشرة العمل”.
فيؤكد نص المادة على اختصاص الجمعية العامة للقضاة المتألفة من قضاة المحكمة فقط في ندب قاضي التحقيق، ويتقصر هذا الاختصاص على الجمعية العامة وحدها دون غيرها، ومن ثم فإنه لا يجوز ندب قاضٍ للتحقيق في الحالة الواردة في النص إلا من الجمعية العامة للمحكمة، وهذا مالم يتم، إذ أنه في أغسطس 2013 انفرد رئيس محكمة استئناف القاهرة بندب القاضى محمد شرين للتحقيق في التحقيق في قضيتي “قضاة من أجل مصر، وقضاة البيان”، وهذا يعني انعدام القرار لصدوره من غير مختص.
وحينما وجد النظام نفسه في حرج بسبب عدم اختصاص الجهة التي أنشأها لتقوم بعزل كل الوجوه التي لا تُرضيه وتبعدها نهائيًا عن السلك القضائي، قام بتعديل تلك المادة التي خالفها، ففي نوفمبر 2014 صدر قانون رقم 138 لسنة 2014 تضمن تعديل هذه المادة بمنح الجمعية العامة للقضاة حق تفويض غيرها فى ندب قضاة التحقيق، وهذا الأمر أكد انعدام قرار ندب القاضي شرين من الأساس، حيث إن لم يكن انتدابًا مخالفًا للقانون فلم يكن هناك داعٍ لتعديل تلك المادة، ويعني هذا أن كل الإجراءات التي أصدرها القاضي شرين منعدمة، فما بني على باطل فهو بالتأكيد باطل، وهو ما يعني بطلان كل تلك القرارات بعزل القضاة وإحالتهم للصلاحية والمعاش.
في الجزء الثاني من المقال استطرد في الحديث عن اشتغال قضاة بالسياسة بشكل صارخ فيما لا يتم مسائلتهم بسبب موقفهم المتماهي مع النظام.