بدأنا بالحديث عن مدرسة الطبيعيين في الاقتصاد أو من يطلق عليهم بالفيزوقراط، وهي مجموعة من أفكار الاقتصادية نشأت في نهاية حكم لويس الخامس عشر في فرنسا تبناها فلاسفة اقتصاديين بتقديم نظرية متكاملة عن النشاط الاقتصادي، وهي نظرية مبنية على دراسة الإنسان وعلاقاته بالعالم الطبيعي، وقلنا أن على راس هذه المدرسة الطبيب الذي كان يعمل في بلاط لويس الخامس عشر واسمه فرانسوا كيناي وقد نشر عدة مؤلفات أهما الجدول الاقتصادي والقانون الطبيعي، كما تحدثنا عن نظرية الناتج الصافي لدى الطبيعين واليوم نتكلم عن الجدول الاقتصادي.
الجدول الاقتصادي
بعد أن بين الطبيعيون أن الزراعة هي النشاط الوحيد المنتج وتعرضوا لكيفية توزيع الناتج الصافي عن طريق استخدام الجدول الاقتصادي وفيه يبين “كيناي” كيفية توزيع الصافي بين طبقات المجتمع . وهو ليس بنظرية للتوزيع بالمعنى المفهوم حديثا ولكنه يكتفي بعرض دورة الناتج الصافي و ذلك بانتقال الدخول من طبقة إلى أخرى.
قسم كيناي المجتمع إلى ثلاث طبقات:
1– الطبقة المنتجة: تشمل العمال الزراعيين الذين يقومون على خلق الناتج الصافي وهو الزراعة.
2– طبقة الملاك العقاريين: هؤلاء وإن لم يكونوا منتجين بالمعنى المتقدم إلا أن الطبيعيين أعطوهم أهمية خاصة وبذلك احتلوا مكانا وسطا بين طبقة المنتجين والطبقة العقيمة.
3– الطبقة العقيمة: تشمل ذوي الحرف الأخرى غير الزراعة، ويدخل فيها العاملون في الصناعة والتجارة وكان كيناي يعتبر هذه الطبقة عقيمة طبقا لنظريته في الإنتاج الصافي حيث إنها لا تضيف إلى الإنتاج الصافي كما هو الحال في الزراعة.
يقوم الجدول الاقتصادي ببيان تداول الإنتاج الصافي بين هذه الطبقات ولبيان ذلك استخدم كيناي أمثلة حسابية لتبسيط عرض هذه الدورة، حيث افترض أن الزراعة تنتج ما قيمته 5 مليار فرنك وافترض أن العمال الزراعيين يحتفظون ب 2 مليار فرنك لواجهة نفقاتهم الخاصة على المنتجات الزراعية وسداد تكلفة الإنتاج الزراعي أما ال 3مليارات المتبقية فإن دورتها تتم على الوجه التالي، ينفق العمال الزراعيون مليارا من الفرنكات لشراء منتجات من الطبقة العقيمة على شكل سلع صناعية وخدمات تجارية كما يقومون بدفع 2 مليار من الفرنكات لطبقة الملاك نظير مليكتها.
وتقوم طبقة الملاك بدورها بتوزيع دخلها من الزراعة_ 2 مليار _ بأن تنفق بعضها على شراء السلع الزراعية والبعض الآخر على شراء سلع وخدمات من الطبقات العقيمة. فتنفق مليارا من الفرنكات لشراء سلع زراعية ومليار آخر على السلع والخدمات من الطبقة العقيمة.
وبذلك يجتمع لدى الطبقات العقيمة 2 مليار فرنك أحدها من الزراعيين والآخر من الملاك، وتقوم هذه الطبقة بإنفاق دخلها على الزراعة لشراء ما تحتاج إليه من السلع الزراعية. وبذلك يعود من جديد كل قيمة الإنتاج الزراعي إلى طبقة المنتجين. وهكذا تتم دورة الناتج الصافي بأن تعود إلى النقطة التي بدأت منها.
تأثر كيناي بحكمه طبيب بالدورة الدموية التي تم اكتشافها في القرن السابع عشر وفصّل الجدول الاقتصادي على أساسها حيث نلاحظ أن كليهما يمثل دورة مغلقة تبدأ من نقطة وتدور لتنتهي إلى نفس النقطة التي انطلقت منها.
يمثل الجدول الاقتصادي أول بداية تحليلية لوضع نماذج للتوازن الشامل للاقتصاد القومي، وقد أدت هذه النماذج فيما بعد إلى وضع نماذج “فالراس” ونماذج المنتج المستخدم للتوازن “ليونتييف”.
تجدر الإشارة أن طبقة الملاك لها أهمية خاصة عند الطبيعيين ويرجع ذلك إلى أمرين:
1- أهمية طبقة الملاك في حفظ النظام الاجتماعي، حيث أن فكرة وجود نظام اجتماعي قائم على الملكية الخاصة هي أحد الأركان الأساسية لتفكير الطبيعيين.
2- أن الملاك كانوا يقومون بدور اقتصادي هام في الاستثمار العقاري وحفظ قيمة الأرض فيما ينفقونه على استصلاح الأراضي
النظام الطبيعي.
اعتقد الطبيعيون بوجود نظام طبيعي باعتباره نظاما مثاليا يحقق التوافق بين المصالح المتعددة في المجتمع. وهو يتكون عندهم من مجموعة من الأنظمة تحقق الرخاء للجماعة وبما يساعد على ازدهار الزراعة. ويستند هذا النظام على فكرة المكلية في صورها المتعددة التي تشمل:
1– الملكية الشخصية: وهي حق الشخص في استغلال ملكاته الذهنية والعضلية والحصول على مقابل إنتاجه أي الحق في الحرية.
2– الملكية المنقولة: وهي حق الشخص في ملكية ثمرة عمله.
3– الملكية العقارية: وهي تتعلق بصفة خاصة بملكية الأراضي الزراعية.
في الإطار المالي نادى الطبيعيون بفرض ضريبة على الأرض بما يتفق مع نظريتهم في الناتج الصافي فنظرا لإن الزراعة هي المصدر الوحيد للثروة فإن فرض أي ضريبة أخرى لابد وأن تنتقل بطريقة أو بأخرى إلى الزراعة باعتبارها المصدر الوحيد للناتج الصافي. ولذلك فمن المستحسن أن تفرض ضريبة مباشرة على الارض باعتبارها المصدر الوحيد للناتج الصافي وبالتالي القادر على دفع الضريبة. أما من حيث نظام الحكم فالطبيعيون أيدوا الحكم المطلق الشرعي.
أثر الطبيعيين
انتقد آدم سميث في قصرهم الإنتاج الصافي على الزراعة فقد ميّز نفسه بين الأعمال المنتجة والأعمال غير المنتجة. وهذه التفرقة لا تعدو أن تكون أثرا تركه الطبيعيون على الفكر اللاحق وهو التمييز في الأعمال بين ما هو منتج وما هو غير منتج، وكذلك عند ماركس فكرة الإنتاج هي أثر من آثار الطبيعيين للتفرقة بين الأنشطة المنتجة والغير المنتجة. وقد حظى الطبيعيون بتقدير بالغ من المفكرين المعاصرين،حيث اعتبر شومبيتير أن كيناي واحد من أكبر العقول الاقتصادية.
وبهذا نكون قد ختمنا المدرسة الطبيعية في الاقتصاد، وفي المقالة القادمة سندخل بالمدرسة التقليدية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.