بوصول تسعة عشر من يهود اليمن في غضون اليومين الماضيين إلى مستعمرة الكيان الصهيوني (إسرائيل)، وبحوزتهم مخطوط من أقدم نسخ التوراة عمره أكثر من 600 عام، يمكن القول أن تاريخ يهود اليمن غادر البلد الذي يصفه بعض المؤرخين بأنه أحد أقدم مواطن اليهود.
غير أن ماهية وجود “اليهود” في اليمن ماتزال غير معلومة، كون وجودهم فيها قديم وتضاربت الروايات حوله، بين رواية اعتناق أحد ملوكها التبابعة لليهودية إثر لقائه بحبرين من اليهود في يثرب، حين غزاها قبل بعثة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، ورواية أخرى تقول إنهم من بقايا القبائل اليمنية التي اعتنقت اليهودية مع الملكة بلقيس.
فيما يطرح اليهود اليمنيون عن أنفسهم رواية مغايرة لما سبق مفادها: “إن النبي إرميا أرسل 75.000 شخصًا من سبط لاوي إلى اليمن”، وفي الجملة تظّل هذه الروايات عند التحقيق مجرد تخمين لأن سبب وجود اليهود باليمن لا يزال غامضًا ولم يتم كشفه وبيانه.
تعيد العملية السرية التي نفذتها دولة الاحتلال الصهيوني (إسرائيل) بـ نقل 19 يهوديًا من اليمن إلى إسرائيل، إلى الذاكرة عمليات إجلاء سرية سابقة، نُقل خلالها الآلاف من اليهود اليمنيين إلى إسرائيل بعد أشهر من قيامها في العام 1948.
تقلصت أعداد اليهود في اليمن كثيرًا بعد قيام دولة الكيان الصهيوني (إسرائيل) وهجرة ما يقارب 52.000 يهودي في عملية بساط الريح مثلهم مثل باقي اليهود الشرقيين، إلا أن اليهود اليمنيين لا يوافقون الصهيونية وأسباب هجرتهم كانت بسبب مشاعر العداء المتزايدة ضدهم عقب مجازر الهاغاناه ضد الفلسطينيين والضغوطات الغربية على الحكومات العربية وتنامي القومية العربية بين أوساط الشعب اليمني في غضون تلك الفترة.
بدأت هجرة اليهود من اليمن عقب قيام الدولة العبرية مباشرةً، حيث أبرمت الوكالة اليهودية وبالتعاون مع الحكومة البريطانية التي كانت تحكم مستعمرة عدن صفقة مع الإمام يحيى حميد الدين الذي كان يحكم شمال اليمن، وتم بموجبها ترحيل نحو خمسة وأربعين ألفًا من اليهود اليمنيين إلى إسرائيل عبر عملية شهيرة سميت بساط الريح.
معظم من رحلوا في تلك العملية التي أطلق عليها “بساط الريح” هم من سكان مدينة صنعاء القديمة وبعض المدن القريبة منها في وسط وشمال اليمن، في ذمار وإب وتعز وبعض من سكان محافظة عمران وغالبيتهم أصحاب ممتلكات وحاخامات، لكن صلتهم لم تنقطع بمن تبقى في اليمن، ومازالوا محتفظين بتقاليدهم وأعرافهم ولهجتهم المحلية اليمنية ولغتهم العربية وبالتراث من الأغاني والزوامل الشعبية التي ما تزال حاضرة حتى اليوم.
منذ أول هجرة لهم كان معظم أبناء الطائفة اليهودية وحاخاماتهم طيلة العقود الماضية يزورون العاصمة صنعاء بجوازات سفر بريطانية وأمريكية ويلتقي الكثير منهم بمسؤولي وقادة اليمن ويقدمون أنفسهم كمغتربين يمنيين اضطرتهم الظروف السياسية والاقتصادية إلى مغادرة البلاد، وانتشرت معظم أغاني الفنانين اليهود في المدن اليمنية، ويقبل على شرائها الكثيرون ويقدم بعض منها في التلفزيون الحكومي.
ووفق بعض الإحصائيات وتقديرات الطائفة اليهودية، فقد بقي في اليمن منهم حتى مطلع تسعينات القرن الماضي نحو خمسة وثلاثين ألف، يتركز وجودهم في شمال اليمن في محافظة عمران بمنطقتي ريدة وحصن ناعط ومنطقة زندان في مديرية أرحب بمحافظة صنعاء، ومجموعة قليلة منهم تقطن في منطقة آل سالم في محافظة صعدة، فتحت لهم ثلاث مدارس لتعلم العبرية والتوراة ولم يلتحق أحد منهم في مدارس التعليم الحكومي، لكن هجرة هؤلاء نشطت في التسعينات إما عبر الولايات المتحدة أو بريطانيا.
ومع دخول التعددية إلى اليمن، أصبح من المعتاد مغادرة أتباع الطائفة اليهودية بشكل طبيعي إلى إسرائيل عبر الأردن والعودة منها إلى اليمن بدون أي مضايقات أو إجراءات تعسفية تطالهم، حيث يفضّل هؤلاء الاحتفاظ بعاداتهم التقليدية المحافظة ويخشون من تمرد بناتهم على أسرهم بموجب قوانين الدولة العبرية (إسرائيل)، لكن الانفتاح والحياة العصرية جذبت الكثير من شباب الطائفة اليهودية اليمنية التي كانت تحرص على أن تلحقهم بمعاهد التعليم الديني وتجنبهم الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي.
في الجانب العقائدي يعتبر اليهود اليمنيون الأكثر قربًا من طائفة الأشكناز المتشددة والمتمركزة في ولاية نيويورك والتي لا تعترف بالصهيونية وتعتبر مدن عسقلان وبئر السبع مراكز لتجمع اليهود اليمنيين في إسرائيل، حيث نقلوا إليها عاداتهم وحرفهم اليدوية حتى زرعوا شجرة القات التي يتعاطونها يوميًا عقب تناول وجبة الغداء، كما كان عليه حالهم في اليمن وهو حال بقية السكان في اليمن.
ويصنف الباحثون يهود اليمن ضمن طائفة المزراحيم (المشارقة) والبعض يجعلهم من السفار ديم، ومنهم من اعتبر اليهود اليمنيين قسمًا منفصلًا للعادات والتقاليد الدينية والاجتماعية التي تميزهم عن غيرهم.
يمتلك اليهود اليمنيون إرثا ثقافيا نادرًا ومخطوطات من التوراة القديمة كما يتكلمون لهجة عبرية قديمة جدًا، لكن أدوارهم السياسية في إسرائيل ضعيفة ولا تكاد تذكر، حيث دخل الكنيست عضوان منهم فقط حتى الآن، ولم يشغل أي منحدر منهم منصبًا سياسيًا رفيعًا وهم غالبًا ما يفاخرون بانتمائهم إلى اليمن ويحنون للعودة إليه، غير أن ذلك لا يبدو ممكنًا في المدى المنظور.
استؤنف نشاط الهجرات الجماعية الصغيرة لليهود اليمنيين في السنوات الأخيرة عقب اندلاع الحرب بين الحكومة اليمنية والحوثيين في منتصف عام 2004 خصوصًا بعد قيام الحوثيين بطرد أكثر من سبعين فردًا من منطقة آل سالم في صعدة وهم آخر من تبقى من أتباع هذه الديانة هناك حيث استقر بهم المقام في مجمع عسكري قريب من السفارة الأمريكية بصنعاء.
رصدت لهم الحكومة اليمنية مبالغ دعم شهرية بسيطة وتموينًا غذائيًا، لكن تمدد الحوثيين إلى محافظة عمران مع حلول العام 2011 ومن ثم مقتل المعلم ماشا النهاري جعل سكان ريدة يبدأون رحلة الهروب وبيع الممتلكات وإغلاق محلاتهم، حتى لم يبق هناك سوى بعض العوائل والأسر.
في العام 2013 أقدم أحد الأشخاص على قتل يهودي آخر في صنعاء هو هارون زنداني بتهمة السحر فبدأت عملية هروب جديدة للمقيمين في صنعاء ومع دخول الحوثيين العاصمة والسيطرة على الحكم خشي هؤلاء الانتقام فسافر منهم نحو 30 شخصًا وبقي اليوم 43 هم الحاخام يحيى يوسف ووالده المقعد وأعمامه وأبناؤهم وزوجاتهم وهم يتأهبون للرحيل بعد أن قطعت السلطات في صنعاء المساعدات المالية والغذائية عنهم.
أعلن موقع “معاريف”، فضلًا عن صحيفة “هآرتس”، أنه تم نقل 19 يمنيًا عبر “عملية سرية ومعقدة” أشرفت عليها الوكالة اليهودية، وأشارت هآرتس إلى أن العملية جرت بالتنسيق مع وزارة الخارجية الإسرائيلية، ووزارة الخارجية الأمريكية، وهيئات حكومية أخرى، موضحة أنها تمت على امتداد أربع دول، من دون ذكر المزيد من التفاصيل.
وبحسب الصحيفة، فإن أحد أفراد المجموعة نقل معه مخطوطة قديمة من “التوراة” تعود إلى قبل ما يقارب 500 عام، ونقل عن رئيس الوكالة اليهودية، ناتان شارانسكي، اعتبار ما جرى “لحظة هامة من تاريخ إسرائيل”.
ولفت إلى أنه “بعد عمليات نقل جوي متعددة ليهود اليمن، فإنه مع نقل المجموعة الأخيرة تكون المهمة التاريخية وصلت إلى نهايتها”، كما أفادت وكالة “أسوشيتد برس” أن الوكالة اليهودية أطلقت على العملية اسم “ميكتزي تايمان”، وهي عبارة بالعبرية مأخوذة من نص توراتي يعني بالعربية “من أقاصي اليمن”، بحسب الوكالة.
يتحدر أغلب أفراد المجموعة التي انتقلت إلى إسرائيل، 14 فردًا من أصل 19، من منطقة شهيرة كمعقل للطائفة اليهودية في اليمن، وهي مدينة “ريدة” في محافظة عمران شمال صنعاء، كما تضم المجموعة عائلة واحدة مؤلفة من 5 أشخاص من صنعاء، وكانت هذه المحافظة بالإضافة إلى صعدة وصنعاء من أهم آخر المناطق التي رفضت فيها العوائل اليهودية مغادرة البلاد، بعد هجرات منتصف القرن الماضي.
وفيما ذكرت تقارير صحافية أن أفراد المجموعة المغادرة هم آخر ما تبقى من يهود اليمن، ونفت مصادر في السلطة المحلية بصنعاء لـ”العربي الجديد” صحة ما تردد، مشيرة إلى أن نحو 25 أسرةً يهوديةً لا تزال في العاصمة وترفض مغادرة البلاد، ولاقت حادثة التهجير إدانات واسعة داخل اليمن، حمّلت سلطة الأمر الواقع في صنعاء (الحوثيين) المسؤولية، وسط اتهامات لمسؤولين في الجماعة بالتواطؤ في العملية.
وكانت الوكالة اليهودية قد نجحت خلال السنوات الماضية في تهجير نحو 200 يمني من وطنهم عبر رحلات جوية سرية، بعدما تعرضوا للتهجير القسري تحت التهديد من قِبل الحوثيين في محافظة صعدة، حيث اتجه الحوثيون في عام 2007 لتهديد يهود منطقة “آل سالم” واتهامهم بـ “الفساد” وتخييرهم بين القتل أو الرحيل، ما أدى إلى نزوحهم للعاصمة صنعاء، فيما استغلت المنظمات الصهيونية تلك التصرفات، بالإضافة إلى استغلالها حادث قتل أحد اليهود بنيران متطرفين في عام 2012، وغيره من الحوادث.
كانت المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة هيومن رايتس ووتش، سارة ليا ويتسن، قد كتبت في عام 2009، رسالة إلى الرئيس اليمني في ذلك الحين، علي عبد الله صالح، طالبته فيها بدعوة الحكومة اليمنية إلى “اتخاذ الإجراءات العاجلة والفعالة من أجل ضمان استمرار تواجد زهاء 335 عضوًا من المجتمع اليهودي اليمني في منازلهم في محافظة عمران في سلام وأمان”، كما دعته إلى “إعادة النظر في عرضه بنقل المجتمع، الذي يقطن بلدات ريدة وخريف إلى العاصمة صنعاء، ومنحهم قطع أرضٍ ومنازل هناك”.
وحتى منتصف القرن الماضي كان اليهود مكونًا أصيلًا من مكونات المجتمع اليمني، بل إن أغلب مناطق اليمن قبل الإسلام كانت تعتنق اليهودية، وشهد اليمن تعايشًا بين مختلف مكوناته طوال القرون الماضية، إلا أن الهجرات اليهودية بدأت منذ ثمانينات القرن التاسع عشر بأعداد محدودة.
وفي عام 1949، بدأت أشهر عملية تهجير بتواطؤ ودعم نظام الحكم الإمامي الذي كان قائمًا في شمال اليمن (يعتبر الحوثيون امتداده السياسي إلى حد ما)، ونفذت “الوكالة اليهودية” عملية ترحيل لنحو 49 ألفًا من يهود اليمن، عبر عملية شهيرة عُرفت بـ”بساط الريح”، وتمت باستخدام طائرات أمريكية وبريطانية عبر مدينة عدن التي كانت لا تزال تحت الاستعمار البريطاني، وذلك عبر 380 رحلة جوية سرية من عدن إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبحسب تقديرات إسرائيلية مختلفة، فإن نحو 51 ألف يمني من أبناء الديانة اليهودية تم جلبهم إلى فلسطين بعد النكبة.
وبعد قيام ثورة 26 من سبتمبر/ أيول 1962 وقيام الجمهورية في الشطر الشمالي من اليمن، تحولت قضية اليهود اليمنيين إلى قضية قومية ترفض الحكومات تهجيرهم، ومع ذلك استمرت المحاولات الصهيونية باستقطاب الأسر اليهودية اليمنية، الأمر الذي تصاعد في السنوات الأخيرة.
منذ تهجير يهود “آل سالم” في صعدة في عام 2007 من قِبل الحوثيين، انتقلت العديد من الأسر للإقامة في “المدينة السكنية” الخاصة، وهي منطقة سكنية مغلقة تحت حماية السلطات، وتقع أمام مقر السفارة الأمريكية في منطقة “سعوان”.
وعانى يهود اليمن، شأنهم في ذلك شأن باقي يهود الدول العربية والإسلامية، من التمييز العنصري ضدهم، ومن تسخيرهم في أعمال سوداء في السنوات الأولى من قيام دولة الاحتلال بعد النكبة، كما اشتهر في إسرائيل موضوع اختطاف أبناء المهاجرين من اليمن الذين ولدوا في إسرائيل، وقال أهاليهم إنه تم إعطاؤهم لعائلات يهودية من أصول غربية.
وقد نفت لجنة تحقيق إسرائيلية رسمية ادعاءات الأهالي، لكن في أواخر القرن الماضي، اعتصم حاخام يهودي من أصول يمنية، هو عوزي مشولم، في منزله في إيهود، رافضًا تسليم نفسه ومطالبًا بلجنة تحقيق رسمية جديدة، لكن شرطة الاحتلال اقتحمت منزله لاحقًا وقامت باعتقاله والزج به في السجن في مايو/ أيار 1994 وتم الحكم عليه بالسجن الفعلي خمس سنوات وأفرج عنه في عام 1999. وقد توفي مشولم في عام 2013، فيما هاجر نجله إلى كندا بعد طلب اللجوء السياسي.