“سيداتي وساداتي، إن المجتمع الإسرائيلي يمر بتحول واسع النطاق سيعيد بناء هويتنا ذاتها كـ”إسرائيليين،” وسيترك أثرًا واضحًا على كيفية فهمنا لأنفسنا ووطننا، وهو تغيّر لا مفر أو مهرب منه.. إن “المجتمع الإسرائيلي الجديد” ليس نبوءة مخيفة ولكن واقع يمكن رؤيته بالفعل من تشكيل رواد الصف الأول بالمدارس الإسرائيلية.”
بهذه الكلمات بدأ الرئيس الإسرائيلي روفين ريفلين خطابه عن مستقبل المجتمع الإسرائيلي أمام مؤتمر هرتسيليا السنوي للبحوث العام الماضي، دون أن يلتفت كثيرون ربما في الإعلام العربي إلى كلماته، والتي أحدثت زلزالًا في الحقيقة داخل السياسة الإسرائيلية التي يهيمن عليها حاليًا اليمين المتطرف كما نعرف، إذ كانت تلك أول مرة يتحدث مسؤول سياسي إسرائيلي في منصب بهذا الثقل وبكل صراحة عن وجود مجتمع إسرائيلي جديد كأمر واقع ومختلف كليًا عن المجتمع الأكثر تجانسًا وتمسكًا بالصهيونية الذي عرفته إسرائيل على مدار سنوات الحرب الباردة.
لم يكتفي ريفلين بالحديث عن آرائه، بل قدم للحضور من الإسرائيليين ما يكفي من معلومات ليثبت أن المجتمع الإسرائيلي الجديد واقع بالفعل، فالأغلبية “الصهيونية” إن جاز القول التي شكلت أغلبية المجتمع حتى التسعينيات لم تعد أغلبية كما أشار ريفلين مستخدمًا إحصائيات الهيئة الإسرائيليية للإحصاء، والتي تنتظر أن يشكل العرب الإسرائيليون، ويهود الحريديم شديد التراثية والمعادين للحداثة كلها وللصهيونية، نصف طلبة المدارس خلال عامين فقط.
الرئبس الإسرائيلي في خطابه بمؤتمر هرتسيليا
بكل صراحة أشار ريفلين إلى الفجوة الهائلة بين هاتين “القبيلتين” كما سماهما، وبين القبيلتين الأخرتين، وهما الصهاينة المتدينين والعلمانيين، والتي تنعكس في هيمنة القبيلتين الأخيرتين على شتى مناحي الحياة الإسرائيلية ثقافيًا واقتصاديًا، بدءًا من المدن التي يتم استعراضها يوميًا في النشرة الجوية، والتي لا تتضمن أية مدينة عربية أو حريدية، وحتى مستوى المعيشة والوظائف التي تشغلها كل قبيلة من الأربعة، والتي تُظهر تفاوتًا واضحًا بين هذين المعسكرين، ناهيك عن تشكيلة قوات الدفاع الإسرائيلية التي يغيب عنها بشكل شبه تام العرب والحريديم.
لنُدرك مدى التغير الجذري الذي سيشهده المجتمع الإسرائيلي سنسلط الضوء هنا على القبيلتين غير الصهيونتين اللتين أشار لهما ريفلين، أو على واحدة فقط منهما هي الحريديم، إذ أننا نعرف بالطبع من هُم العرب، على تنوعاتهم بين مسلم ومسيحي ودُرزي، ومدى ابتعادهم عن الأفكار الصهيونية المؤسسة للدولة في إسرائيل وإن تفاوت انتماؤهم لها وفق مصالحهم وتوجهاتهم، كما سنلقي الضوء على جوانب من علاقة الحريديم بالدولة ربما لا يعرفها كثيرون، وهي جوانب يبدو أنها بدأت في التأثير سلبًا على العقد الاجتماعي داخل إسرائيل.
قبيلة الحريديم: اليهود الأكثر تكاثرًا
حين تأسست الدولة الإسرائيلية عام 1948، اعتقد بن جوريون، وهو اليهودي العلماني غير المبالي بالتعاليم الدينية، أن نجاح المشروع الإسرائيلي سيؤدي تدريجيًا إلى زوال اليهودية الأرثوذكسية، وبالتالي لم يمانع منح بعض المميزات لهذا المجتمع الصغير من المتزمتين اليهود أنذاك في مقابل اجتذابهم إلى إسرائيل في إطار جهوده لتوحيد كافة أطياف اليهود مهما كان الثمن.
تباعًا، أبرم بن جوريون اتفاقًا مع زعيم اليهود الأرثوذكس أنذاك، إسحاق مائر ليفين، تضمن السماح لأي فصيلة من المتدينين اليهود أن يشكلوا نظامهم التعليمي الخاص بهم على نفقة الدولة، واتباعهم للشريعة اليهودية وفق تفسيراتهم في شؤونهم الشخصية، والالتزام بكون “الشبات” أجازة رسمية (أي الجمعة والسبت،) بالإضافة إلى إعفاء أي رجل اختار تكريس وقته لدراسة التوراة من الخدمة العسكرية.
يهودي في تظاهرة للحريديم ضد التجنيد إلى جانب لافتة تقرأ: “اليهود الأرثوذكس قد يذهبوا للسجن بكل فخر، لكنهم لن يخدموا في الجيش الصهيوني”
تنازلات ضخمة هي كما يبدو، ولكنها لم تشغل بن جوريون كثيرًا في زمن لم يتجاوز فيه عدد المنكفئين على التوراة سوى 400 شاب، لكن مع ارتفاع معدلات إنجابهم وعلى مدار عقود طويلة، بالإضافة إلى تحول بعض اليهود إلى مذهبهم، أصبحت مسألة الحريديم وحياتهم المنعزلة عن بقية الإسرائيليين بمدارسهم وقوانينهم وأحيائهم، وإعفائهم من التجنيد، واحدة من أبرز المواضيع الساخنة اجتماعيًا وسياسيًا، والتي لا تقل سخونة عن مسألة عرب 48، فالحريديم إذن جيتو آخر داخل المجتمع الإسرائيلي مثلهم مثل العرب، وهو أمر خطير بالنظر لتشكيل العرب وحدهم رُبع التعداد الإسرائيلي، وتشكيل الحريديم لحوالي خُمس اليهود الإسرائيليين (يصل عددهم لحوالي مليون ومائتي ألف، وهو رقم مرشح للازدياد من الآن، حيث يشكل أطفالهم رُبع طلبة المدارس كما ذكرنا.)
بين الحين والآخر يدفع بعض السياسيين العلمانيين بفكرة إجبار الحريديم على دخول الجيش، أو إدخال مواد تعليمية إلزامية بكافة المدارس في إسرائيل بغض النظر عن هويتها؛ حريدية أو عربية أو غير ذلك، وهو أمر تعارضه وبقوة كافة شرائح الحريديم التي بنت عقدها الاجتماعي الغريب من نوعه على امتلاكها بالكامل زمام أمورها بعيدًا عن نطاق الدولة ككيان علماني، بغض النظر عن كونها في الواقع دولة لليهود فقط، فالصهيونية في نظر الحريديم فكرة فاسدة تنتمي لعصر التنوير الأوروبي، ولا علاقة بينها وبين اليهودية الأصيلة التي يتبعونها.
هي قبائل بالمعنى الحرفي للكلمة إذن من حيث خروجها من نطاق سلطان الدولة تشريعيًا وهوياتيًا، وإن كانت لا تملك على غرار القبائل التقليدية قوة سلاح منفصلة، والتشريع بالتحديد هو نقطة خلاف رئيسية تثير المشكلات باستمرار، فمحاكم الدولة الإسرائيلية كدولة حديثة لا تعني الحريديم في شيء، والذين يتبعون قوانين الحاخامات فقط، ففي أزمة سابقة كانت المحكمة العليا قد حكمت لصالح مجموعة من الفتيات السفرديم ممن ثبت إقصائهم وسوء معاملتهم في مدرسة يهيمن عليها الحريديم، وكانت حجة الحريديم الرئيسية هي أنهن “غير ملتزمات” بما يكفي لإدماجهم في الصف أولًا، وأن مرجعهم في تصرفهم هذا هو القوانين اليهودية، وأن حكم المحكمة ليس ملزمًا لهم كطائفة من الناحية الشرعية.
الحريديم يتظاهرون ضد مقترح قانون يفرض على بناتهم الالتحاق بمدارس غير خاضعة لشريعتهم
معضلة “القبائل” الإسرائيلية
ما هو الحل إذن لتلك المعضلة الإسرائيلية؟ يقترح البعض أحيانًا اقتصار الحل على دمج الحريديم قدر الإمكان بشكل يجعل الأغلبية اليهودية كافية نوعًا ما لتشكيل “الدولة اليهودية،” أو تقديم تنازلات سياسية لصالح الحريديم بشكل يجعل اليمين التقليدي الإسرائيلي وسطًا سياسيًا بين الكتل العلمانية من ناحية والحريديم من ناحية، مما يضمن تماسك المجتمع اليهودي داخل إسرائيل، دون الحاجة إلى النظر للمسألة العربية، وهو الخيار الذي تسير عليه حكومة نتنياهو حاليًا بتحالفها القائم مع حزب شاس الممثل للحريديم.
من ناحية أخرى، يعتقد كثيرون أن دمج الحريديم أولًا سيكون شبه مستحيل بالنظر لصلابة منظومتهم التعليمية والاجتماعية ووجودهم خارج العمليات الاقتصادية الحديثة نتيجة عدم امتلاك معظمهم لتعليم مهني حديث، وثانيًا لأن إقصاء العرب يخلق فعليًا منظومة فصل عنصري على غرار جنوب أفريقيا، وثالثًا لأن أزمة الشرعية التي تعاني منها إسرائيل دوليًا لن تُحَل دون تقديم إطار “وطني” سوي يضم عرب 48، وهو ما اقترحه ريفلين أثناء خطابه العام الماضي حين تحدث عن القبائل الأربعة بشكل متساوي.
يرى ريفلين الحل الراديكالي لـ”إنقاذ إسرائيل” في إعطاء كل قبيلة نصيبًا من النشاط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي الإسرائيلي يكسر العزلة القائمة على أقل تقدير، دون أن يحاول بالضرورة إحداث “دمج” بينها كما يقول الحالمون والمثاليون من الليبراليين الإسرائيليين، فريفلين هنا يعتقد تمامًا بأن القبائل ستظل في الحقيقة قبائل لأسباب تاريخية ودينية، وهو يقترح إعادة صياغة العقد الاجتماعي الخاص بإسرائيل على هذا الأساس، حتى لو تضمن ذلك نسفًا كاملًا للفكرة الصهيونية المؤسسة للدولة، والتي تتضمن في ثناياها كونها دولة علمانية مدنية على الطراز الغربي الكلاسيكي.
نموذج إسرائيلي خاص إذن يبشر به ريفلين، وهو الأكثر واقعية والأقل عنصرية، لا سيما أن القبيلة اليهودية المتدينة والصهيونية، والتي تشكل حوالي 15% حاليًا من المجتمع الإسرائيلي، تقترب اجتماعيًا بنمط حياتها المحافظ بشكل متزايد من الحريديم، مما يعني احتمالية تشكيل أغلبية محافظة مستقبلًا أبعد عن الصهيونية، وأكثر توترًا في علاقاته مع الشريحة العلمانية الصهيونية، والتي ستميل حينئذ بأفكارها اليسارية والمؤيدة للسلام في العادة نحو العرب، وهو خطر يقسم المجتمع نصفين كما يقول كثيرون، خاصة وأن السلطان السياسي والاقتصادي منقسم بين الصهاينة المتدينيين من ناحية والعلمانيين من ناحية أخرى، مما يعني ضرورة رأب الصدع بينهما وبين القبيلتين الأخرتين، قبل أن يحدث انشقاق بينهما بدأت معالمه السياسية تظهر بالفعل.
ستكشف الأيام بطبيعة الحال ما إن كان سيتسنى لريفلين وأنصار فكرته أن يرسموا مستقبل إسرائيل كما يريدون أم أن الائتلاف المحافظ المتشكل مؤخرًا هو الذي سيدفع نحو السيناريو الأخير، لكن المؤكد في شتى الأحوال هو أن الأفكار الصهيونية المؤسسة تزول تدريجيًا، وأن المبادئ الغربية التي التزم بها مؤسسو الدولة وقياديوها على مدار القرن العشرين تتلاشى لصالح نموذج إسرائيلي ذاتي قد يجعل المجتمع أكثر تنوعًا وتوترًا في آن، كما يجعله للمفارقة أكثر انتماءً لنسيج مجتمعات الشرق الأوسط المحيطة به.