كانت الأيام الأخيرة من شهر آب/ أغسطس من عام 2013 هي أيام “تحرر” أوباما من سياسات واشنطن الشرق أوسطية، والتي – كما أورد “جولدبرج” في مقالاته التي نشرتها مجلة أتلانتك مؤخرًا – كانت قد شكلت لأوباما مصدر إزعاج وامتعاض منذ توليه منصب الرئاسة، كان تلك الفرصة المواتية لكي يتخلص في ذلك الأسبوع من “قواعد اللعبة” الأمريكية، تلك القواعد التي ترى أن تدخل واشنطن العسكري هو سلاح الردع الذي يحافظ على مصداقيتها وتفوقها النوعي في فرض قوانينها كشرطي العالم، ما الذي حدث إذن في أواخر شهر آب/ أغسطس من عام 2013؟
لنضع الأمور في سياقها، بداية علينا أن نعرف أن أوباما بسياساته في التحركات العسكرية تنطلق بداية من فهمه للدروس القاسية التي تلقتها واشنطن في حربها على العراق وأفغانستان، وعليه فإن أوباما يؤمن بأن حل الصراع في سوريا لا يمكن أن يحدث بإرسال قوات عسكرية إلى الأرض السورية، وإسقاط ديكتاتور قاتل لأبناء شعبه، والدافع وراء ذلك هو إيمانه أن الولايات المتحدة إن أسقطت ذلك الديكتاتور، فعليها أن تكمل الشوط لآخره باختيار بديل لذلك الطاغية، وعليها أيضًا أن تتحمل مسؤوليات وتبعات ذلك كله، ولذا فقد قاوم وتصدى، ما استطاع لذلك سبيلاً، لكل تلك الدعوات التي كانت تستحثه وتدفعه للتدخل العسكري لردع التغول الأسدي على المدنيين العزّل، إلا أن الموقف تغير جذريًا، وأعاد أوباما حساباته كليًا في 21 من أغسطس/ آب 2013 عندما استخدمت قوات الأسد الأسلحة الكيماوية، وارتقى أكثر من ألف ضحية من الشهداء، بينهم عشرات النساء ومئات الأطفال.
حركت تلك الصور المريعة والمناظر المفزعة، على حد زعم جولدبرج، ضمير أوباما وخطب خطابه الناري العاطفي الذي توعد فيه برد قاسٍ على جرائم الأسد، قال أوباما صراحةً في خطابه الشهير: “إن الولايات المتحدة تمتلك الأدلة الدامغة على أن الأسد هو من استخدم تلك الأسلحة المحرمة دوليًا، وأطلق من مناطق سيطرته صواريخه الكيماوية باتجاه إحدى عشرة ضاحية سورية، بغرض قتل أكبر قدر ممكن من قاطنيها، ونشر الرعب بين سكانها ليتركوها ويهربوا، في حين أنه قام بتوزيع الكمامات الواقية من السلاح الكيماوي على جنوده، والسؤال الآن هو ليس من ارتكب تلك الجرائم فلدينا الدليل القاطع الذي لا يشوبه شائبة، نحن على يقين بأن الأسد هو من فعلها، وإنما القضية الآن ما الذي ستقوم به الولايات المتحدة والمجتمع الدولي حيال ذلك؟”، جدير بالذكر أن السفير الروسي في لبنان “ألكسندر زاسبكين” كان يروج لفكرة أن من ارتكب المجزرة الكيماوية هم مجموعة من المعارضة المسلحة عبر صاروخ أطلق من إحدى المناطق التي تسيطر عليها.
قرر الرئيس الأمريكي أن يوجه ضربة محددة الأهداف في فترة زمنية قصيرة جدًا وكان تصريحه ذلك، بحسب جولدبرج، مفاجئًا لمعظم أفراد طاقمه الرئاسي بمن فيهم نائبه جون بايدن وكذا وزير خارجيته جون كيري ووزير دفاعه تشاك هيجل، شدد أوباما في خطابه ذلك على أن الولايات المتحدة قد تفقد مصداقيتها إذا لم تتحرك، وأن أحدًا لن يردع الأسد ونظامه عن استخدام سلاحه الكيماوي مرة أخرى ضد أبناء شعبه، وقد يتجرأ ليستخدمه ضد حلفاء واشنطن في المنطقة.
كان لزامًا على إدارة أوباما أن تتدخل لترفع الحرج وتدحض الانتقادات اللاذعة التي تقول بأن أوباما لا يملك استراتيجية واضحة لإدارة الصراع في الشرق الأوسط، فسياسته سلبية مترددة لا تستطيع أن تتخذ قرارات جريئة، ولذا كان التدخل حتميًا ليكون بمثابة دليل عملي على أن تصريح أوباما “الخطوط الحمراء” في العشرين من أغسطس/ آب 2012 لم يكن فقاعة في الهواء، ذلك الخطاب الذي قال فيه “لقد أوضحنا لنظام الأسد ولباقي اللاعبين على الأرض أن الخط الأحمر بالنسبة لنا هو استخدام الأسلحة الكيميائية، والتي، إن استخدمت، فحينها لن تتردد الولايات المتحدة في الرد الحاسم”.
بدا الأمر وكأن أوباما قد حسم أمره وأضحى توجيه ضربة قاسية للأسد مسألة وقت، مباشرةً رحبت معظم دول المنطقة بالقرار، وأعلن رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان استعداد بلاده التام للمشاركة في الضربة، وكذا رحبت كل من بريطانيا وفرنسا، بل وذهبت فرنسا لأبعد من ذلك، مطالبة بتدمير كامل القدرة الكيماوية لنظام الأسد، وبحسب جولدبرج فإن العملية كانت وشيكة وحتمية ولا تراجع عنها، وذلك ما أكده له أيضًا عادل الجبير وكان آنذاك لا يزال السفير السعودي لدى واشنطن، إذ أسر له أن أوباما اتخذ قرارًا لا تراجع عنه بتوجيه ضربة محققة للأسد قريبًا، وكان أوباما فعليًا قد أمر البنتاغون بتجهيز قائمة أهدافه المحددة لتوجيه ضربات جوية سريعة وموجعة، وكذا كان أولاند الرئيس الفرنسي، والذي كان الأكثر حماسة للمشاركة في ضرب الأسد، يجهز لضربات فرنسية مساندة.
ولكن كانت الصدمة غير المتوقعة للجميع، فقد تراجع أوباما عن قراره؟
يا ترى ما هي الأسباب التي دفعته لذلك التراجع المفاجئ؟
بنظرة أشد عمقًا لمذهب أوباما وخطوط سياسته الخارجية العريضة، فإن أسلوب أوباما هو التردد ألف مرة قبل اتخاذ أي قرار بالتدخل العسكري المباشر، بل ورفضه بتاتًا إن لم يشكل عدم التدخل تهديدًا واضحًا للأمن القومي الأمريكي، حيث يؤمن أن أيًا من القضايا، وإن كانت إنسانية وعادلة، لا تستحق أن يعرض حياة جندي أمريكي واحد للخطر لأجلها، ولكن الأسد فرض عليه تحديًا صعبًا بتخطيه خطوطًا حمراء خطها أوباما بنفسه، صحيح أنه أكد لاحقًا في تصريح صحفي أنه ليس هو من وضعها، إنما هي محاذير ومواثيق توافقت عليها أكثر من 98% من دول العالم وصادق عليها الكونجرس الأمريكي.
كانت سامانثا باور السفيرة الأمريكية الحالية لدى الأمم المتحدة وأحد مستشاري أوباما المقربين أثناء عملها في طاقم مجلس الأمن القومي تستحثه للتدخل ولو بتسليح المعارضة السورية ولكنه، وبحسب جولدبرج كان لا يستمع إليها بل وصرخ فيها يومًا قائلًا “يكفي يا سامانثا، فقد قرأت كتابك” يقصد كتابها “مشكلة من الجحيم” والذي نشرته في عام 2002.
ما يثير الاستغراب في جل رواية جولدبرج قضية أساسية ألا وهي لماذا عين أوباما كل أولئك المستشارين، ولماذا شكل ذلك الطاقم الرئاسي؟ إذ إنهم وعقب كل قرار يتخذه سرعان ما يتفاجأون، ويصرحون بأنهم علموا بالقرار، إن كانوا قد علموا أصلًا، فقط قبل إعلانه أو أحيانًا يعلمون به من الصحافة؟! هل حقًا هذه هي الصورة التي يريد أن ينقلها لنا الصحفي المخضرم؟ وهل هكذا هي الديمقراطية الأمريكية؟
أمرٌ آخر يثير الاستغراب هو مدى إعجاب أوباما اللامحدود بشخصية الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب وبالأحرى بمستشاره للأمن القومي برانت سكوكرفت، إذ كثيرًا ما يردد “أنا أحب هذا الشخص، ومعجب حقًا بفلسفته وأدائه في التعاطي مع التحديات، فقد استطاع أن يحل الاتحاد السوفيتي من جهة، ويطرد صدام حسين من الكويت من جهة أخرى، كل ذلك كان بحذاقة ودهاء، ودون أن يتورط في حرب إقليمية واسعة“.
على العكس من ذلك فإن أكثر من كان يثير غضبه وسخطه، وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون والتي كانت تظن أن أوباما فشل فشلًا ذريعًا، بل وذهبت لاتهامه بالغباء المتقع عندما رفض أن يؤسس لجيش من الثوار المعتدلين ضد نظام بشار، والذي يعتقد أوباما أن الغباء عينه هو الاستماع لرأي وزيرة خارجيته، التي ذاتها كانت قد وافقت وصادقت على حرب العراق في عهد جورج بوش الابن، أوباما وعلى لسان بنجامين رودس نائب مستشار الأمن القومي قال بأن العمل على تمكين المعارضة المعتدلة ما هو إلا مضيعة للوقت، إذ إن تدريب مهندسين وفلاحين ومدنيين لمواجهة جيش الأسد المدرب والمتحفز طائفيًا والمدعوم من حزب الله وإيران وروسيا ما هو إلا ضرب من الخيال بل والجنون.
وزير خارجيته في دورته الثانية جون كيري أيضًا كان يؤيد تدخلًا مباشرًا ليس فقط لردع الأسد وإيقافه عند حده ولكن أيضًا للحفاظ على مصداقية الردع الأمريكية التي اهتزت في العالم، ولم يكن نائب الرئيس الأمريكي جون بايدن استثناءً فقد كان أيضًا يحفز أوباما على التدخل بتكرار مقولته إن “الأمم الكبرى لا تخادع” وكان يرى بأن أوباما لا بد وأن ينزل عند رغبة حلفاء الشرق الذين يحفزونه ويدعونه للتدخل المباشر.
في ضوء كل هذه المعطيات وتحفيز كل هذه الأطراف، يأتي القرار الأوبامي الصادم إذ يتراجع عن قراره فجأة متمترسًا خلف أعمدة سياسته التي يراها الأنجع والأنجح، وقد أنقذ أوباما من تلك المعضلة عدة أطراف، وذلك بأن أوجدت له مبررًا ومخرجًا من الأزمة التي تورط فيها، فقد كان فعليًا بين نارين؛ نار التدخل العسكري المباشر وهو ما لا يرغب فيه ولا يتبناه، ونار إظهار عجز الولايات المتحدة في أن تستعرض قوتها العظمى التي تقود العالم وتحفظ قوانين الحرب والسلام.
جاء طوق النجاة الأول من المستشارة الألمانية أنجليلا ميريكل والتي أعلنت رفض بلادها المشاركة في أي عمل عسكري ضد نظام الأسد، أعقبها فورًا في 29 آب/ أغسطس المملكة المتحدة، فقد باءت خطط رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الرامية لانضمام بريطانيا إلى أي ضربة عسكرية محتملة بالفشل، وذلك عندما رفض البرلمان البريطاني اقتراح يقضي بتفويض الحكومة للمشاركة في عمل عسكري ضد نظام الأسد.
أما طوق النجاة الأكثر استهجانًا وغرابة فقد جاءه من مدير استخباراته الوطنية جيمس كلابر والذي قاطع التقرير الاستخباراتي اليومي الذي يتلقاه الرئيس الأمريكي بشكل دوري بقوله “إن الدلائل على استخدام غاز السارين قوية ودامغة ولكنها ليست slam dunk، قاصدًا أنه قد يشوبها بعض ما روج له أبواق النظام الإعلامية وكذا بعض الدبلوماسيين الروس بأن أطراف متطرفة أخرى قد تكون استخدمت الغاز السام”، من الجدير بالذكر هنا أن جيمس كلابر كان دائمًا ما يعبر عن سخطه على مدير الاستخبارات الأمريكية الأسبق جورج تنت والذي أكد للرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن بما لا يدع مجالًا للشك“slam dunk”أن النظام العراقي يمتلك أسلحة دمار شامل.
في الوقت ذاته دعت موسكو إلى اجتماع طارئ في مجلس الأمن لمناقشة الأزمة السورية وتداعيات استخدام السلاح الكيماوي، وذلك بعد يوم فقط من إطلاق مبادرتها بتسليم السلاح الكيماوي السوري، فلم يكن فلاديمير بوتين يريد سوى حماية نظام بشار من ضربة أمريكية وشيكة.
استدعى أوباما دنيس ماكدونوف، رئيس موظفي البيت الأبيض، وهو المشهور بمعارضته الحاسمة والرافضة لأي نوع من التدخل العسكري مهما كانت الظروف، خرجا سويًا للتنزه في حديقة البيت الأبيض لأكثر من ساعة من الزمن ويقول جولدبرج على لسان ماكدونوف إن أوباما أعرب له عن تخوفه من أن الأسد قد يستخدم المدنيين كدروع بشرية، وكذا فإن للأم المتحدة مفتشين دوليين على الأرض قد يتعرضوا لخطر محدق إن أقدمت الولايات المتحدة على توجيه الضربة العسكرية، كما وأن أي ضربة لمخازن ومستودعات الأسلحة الكيماوية قد يؤدي إلى تسرب إشعاعي يضر أكثر مما ينفع، ولكنه في الوقت ذاته عبر له عن سخطه مشتكيًا من الضغط الذي تمارسه عليه أجهزة الدولة المختلفة بضرورة الإسراع في التدخل.
في النهاية، خرج أوباما بخطابه الشهير الثاني الذي تراجع فيه عن الضربة الوشيكة تاركًا القرار للكونجرس الأمريكي متعذرًا بأن الولايات المتحدة دولة تحترم المؤسسات والديمقراطية، ولذلك فقد قرر أن يطرح الموضوع للنقاش بين أعضاء الكونجرس الأمريكي حتى لا ينفرد باتخاذ القرار رغم تصريحات سابقة له قال فيها إن الولايات المتحدة “ستحاسب الأسد من دون تفويض دولي، إن استدعت الضرورة.”
قال في خطابه ذلك إنه قد وصله جملة من الرسائل من مواطنين أمريكيين ملّوا من الحروب، ويخشون أن يضع ذلك التدخل العسكري المحتمل الولايات المتحدة على منحدر زلق لحرب شرق أوسطية ثالثة لا داعي لها، ولذلك فكانت نظرة أوباما واضحة بأنه لن يشارك بأي قوات أمريكية برية في سوريا كما حدث في العراق وفي أفغانستان ولن يطيل الضربة الجوية كما حدث في كوسوفو و ليبيا ولكن بشرط الحصول على موافقة الكونجرس.
بحسب جولدبرج فقد أغضب القرار معظم حلفاء أوباما في الشرق، فوصفه محمد بن زايد آل ناهيان ولي عهد أبو ظبي بأنه رئيس “غير جدير بالثقة”، بينما قال ملك الأردن إنه يؤمن بقوة أمريكا وعظمتها أكثر من أوباما نفسه، هذا فضلًا عن الموقف التركي والسعودي اللذين خيب أوباما ظنهما، إذ كانا مستيقنان بحتمية الضربة وتجهزا وأبديا استعدادًا للمشاركة وخاصة الأتراك. أما إسرائيل وكما هو متوقع، فقد أغضبها القرار واتهم نتياهو أوباما بعجز سياسته الخارجية عن اتخاذ أي خطوات جريئة في المنطقة.
ولكن، كما سنرى، سرعان ما سيتغير موقف هؤلاء جميعًا ويبدأوا في كيل المديح والإطراء على أداء الرئيس الملهم بعد برهة قليلة من الزمن، إذ لم يمض وقت طويل حتى طغت نغمة الإعلام بأن الرئيس الأمريكي يواجه مهمة بالغة الصعوبة تقضي بقلب رأي الكونجرس والرأي العام المشككين في الخيار العسكري حيال سوريا، وفي السياق ذاته، قدم كيري تطمينات إلى أن أي عمل عسكري سيكون محدودًا للغاية، وقصير الأمد جدًا بحيث يضعف قدرات نظام الأسد ويلجمه عن استخدام الأسلحة الكيميائية مرة أخرى، ولكن دون الدخول في الحرب الأهلية في سوريا.
سارع النظام السوري بتقديم مسلسل تنازلات بإخضاع أسلحته الكيماوية تحت تصرف المفتشين الدوليين لإتلافها مقابل أن يتجنب ضربة عسكرية فيها خطورة على نظام حكمه وعلى أزلامه، جاءت تصريحات وزير خارجية النظام السوري وليد المعلم بالقبول اللامشروط بالمبادرة الروسية قبل نحو ثلاث ساعات من بداية اجتماع مجلس النواب الأمريكي وذلك لإجهاض أي تفويض بتوجيه ضربات عسكرية ضد النظام السوري.
يقول أوباما “نعم أنا فخور أنني لم أوجه ضربة عسكرية لنظام الأسد، وفخور بأنني لم أصغ لنصائح بعض المستشارين وفخور بأني لم أصغ لتوصيات بعض مراكز ووحدات التفكير البحثية المحتلة عربيًا وخليجيًا وأعتقد أنني نجحت في أن أنزع سلاح الأسد وأتخلص من خطورة استخدامه له مرة أخرى دون أن أتدخل بضربات عسكرية قد لا تؤدي إلى نفس النتيجة الفعالة التي حصلنا عليها”.
بعد أن كان المعظم شاحذًا لسانه، شاهرًا سيفه بالقدح والذم في تفكير الرئيس الأمريكي وقصور نظره ورعونة تفكيره المراهق وارتجاله السياسي الهاوي، أضحى الجميع يعتقدون أن أوباما نجح في تحقيق أهدافه بأقل الخسائر ورأى نتياهو أن تلك العملية كانت بمثابة شعاع من النور في ظلام السياسة الأوبامية، وكذا كان رأي كل من جون كيري وجوبايدن اللذين أبديا إعجابهما بنظرة أوباما الثاقبة ورؤيته المتقدمة وسياسته الناجحة رغم انتقادهم السابق لها!! وكأنهم ليسوا من فريقه وليسوا من يصنعون القرار معه.
يحق لي أن أتساءل هنا، هل كانت الضربة وشيكة حقًا؟ أم هل صعّدت الإدارة الأمريكية من نبرة تهديداتها بغرض الوصول إلى ما وصلت إليه برفع سقف تنازلات الأسد وحلفائه في المنطقة؟ هل حقًا حققت الصفقة أهدافها؟ هل تم نزع السلاح الكيماوي من يد النظام؟ هل انتهى مسلسل الدماء؟ هل كان أوباما قد خطّ حقًا خطوطًا حمراء؟ وما هي طبيعة تلك الخطوط؟ أهي نوعية السلاح أم عدد القتلى؟! هل إذا قُتل نفس العدد بالبراميل الأسدية المدمرة، ألا يشكل ذلك تعديًا على خطوط أوباما الحمراء؟ ما الذي دار بين أوباما وبوتن حين أخذه من يده في قمة مجموعة الدول العشرين في سان بطرسبرج في التاسع من سبتمبر/ أيلول 2013؟ هل أبرمت الصفقة في ذلك اليوم؟
بالرجوع لأصول المسألة هل كانت الثورة السورية، كما يروج الإعلام الغربي، حربًا أهلية؟ للأسف انساقت بعض الصحف والقنوات العربية مستخدمةً تلك المصطلحات التي سوّقها الإعلام الغربي الموجه، في حين أن الواقع وكما يعلم الجميع أن سوريا عاشت ولا تزال حربًا طاحنة من قبل نظام ديكتاتوري ظالم ضاق ذرعًا بشعارات صدعت بها حناجر بعض الفتية في درعا ورفض أن يصغي لكل دعوات الاحتواء والإصلاح وسارع بإجرامه اللامسبوق إلى عسكرة الثورة.
في النهاية، بحسب ذا وول ستريت جورنال فإن المفتشين الدوليين في عام 2013 لم يدخلوا إلا مواقع أعلن عنها النظام السوري كمختبرات للأسلحة الكيميائية، وخوفًا من أن دمشق ستنهي تعاونها، وخوفًا على سلامتهم الشخصية، فقد ترددوا في الضغط على مضيفيهم لمزيد من المعلومات وللمطالبة بدخول مرافق أخرى مشبوهة.
انطوت تلك الصفحة في تاريخ الصراع الملحمي المستمر وللتاريخ أن يحكم على تلك السياسة الأوبامية تجاه الثورة السورية، ولكن للتاريخ أن يعلم أن أمريكا لن تستطيع أن تمرر، كما فعلت من قبل، أكاذيبها المنمقة إبان حرب العراق وحربها على الإرهاب المزعوم في أفغانستان، وكذا فلن يستطيع أوباما ومهما حاول إعلامه أن يروج لصورة الرئيس الحيادي الذي ينأى بنفسه عن الخوض في معترك مستنقع حرب أسموها زورًا أهلية، لن يستطيع إعلامه أن يغسل وجه سياسته الأسود القاتم، ولن تمح مقالات العلاقات العامة ومقالات “ما سُمح بنشره” أن تزيل عار لحق بإنسانية وديمقراطية منافقة غضت الطرف عن إجرام نظام دموي قاتل، وسمحت له بغطاء أممي أن يستمر في إبادة شعبه الأعزل.
ليس صحيحًا أن أوباما قد هجر الشرق أو أن الشرق قد أضحى ثانويًا في قاموس مفرداته السياسية، فالشرق وإن تظاهرت أمريكا وإدارة أوباما بأنه لم يعد أولويتها، إلا أنه كان ولا زال محرك السياسات العالمية ومرجح كفة القوى الدولية. قد يرى البعض أن الولايات المتحدة كانت يومًا أرض الأحلام ومهوى أفئدة الحالمين والطامحين لحياة أجمل وأفضل، ولكنها وكما أجاب جيف دانيلز الممثل الأمريكي في البرنامج السياسي الدرامي “غرفة الأخبار”، على سؤال “لماذا أمريكا هي أعظم شعب في العالم”؟ لم تعد أمريكا حلم العالم، هذا على أساس أنها كانت يومًا!! وهو من قال أيضًا إن الجيل الحالي في الولايات المتحدة يعيش فترة أسوأ من أسوأ الفترات في تاريخ الولايات المتحدة، أمريكا التي لم تعد تهتم بمواطنيها وشروط معيشتهم بقدر ما تهتم بميزانيتها التي تنفق معظمها على برنامج تسلحها بما يفوق ميزانية أكثر من 28 دولة مجتمعة، 26 منهم دول حليفة للولايات المتحدة!
تكون الدول عظمى عندما تقف مع المظلوم لا في صف الظالم، عندما تشن حروبها على الفقر لا على الفقراء، عندما تحارب المرض، عندما توظف التكنولوجيا لمصلحة البشرية، هذه هي الدول العظمى ولا أظن أن من قتلت أكثر من 140000 في هيروشيما و80000 في ناجازاكي تجرؤ أن تدعي أنها من تلك الأمم العظيمة، أمريكا التي قتلت مئات الآلاف في حربها على العراق وأفغانستان بحجج واهية لن يمسحها اعتذار غبي من حليفها توني بلير عراب الحروب ولن يزيلها محاولاتهم تشويه الحقائق وتبرير الجرائم بزرعهم لأسباب مستدعاة لتبرر قتلهم وهمجيتهم، فالأيام كفيلة أن تكشف زيف طرحهم وكذب منهجهم.