في غرفة مغلقة لا يضيئها سوى ضوء مصباح خافت وضع على مكتب تم تجديده حديثًا، في شرق وسط إنجلترا، يجلس الرجل العجوز القادم من العاصمة الإيطالية صاحب الشعر الأبيض والنظارة الكلاسيكية الذي صار عمره الآن 64 عامًا، يجلس في كامل أناقته يفكر في المستقبل القريب، لوهلة يعتريه الأمل ويشعر أنه قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلمه وحلم المدينة بأكملها.
وعندما نتحدث عن الحلم فهو حلمٌ بكل ما تحتويه الكلمة من معنى، حلمٌ لم يكن ليستطيع أعتى عرابي ودجالي العالم أن يتنبأوا به، وما كان لأهل أكبر مدن شرق وسط إنجلترا أن يصبوا إليه وهم في كامل قواهم العقلية، ثم في اللحظة التي تليها يشعر الإيطالي المخضرم أن حلمه يستحيل أن يتحقق وأن الصدفة وحدها هي التي قادته إلى ما وصل، وأنها ما هي إلا مسألة وقت حتى يتوقف كل شيء ويعود كلٌ إلى مكانه الصحيح.
أخذ يفكر الرجل ويفكر حتى كادت رأسه تنفجر، صار لا يقدر على النوم، ففي كل مرةٍ يخلد فيها إلى النوم تداعبه الأحلام تارةً بالمجد وبأن يكتب اسمه لأول مرةٍ في مصاف الأبطال والمتوجين باللقب، وأي مجد هذا الذي سيحصل عليه إن إستطاع فعل ما عجز عنه الأولون والآخرون، ترتسم على وجهه ابتسامة لامعة يحاول أن يخفيها لكنه لا يقدر، ثم لا يلبث حتى تأتيه الكوابيس تباعًا، فلقد مرّ الرجل بهذه التجربة من ستة أعوامٍ تقريبًا عندما كان مديرًا فنيًا لذئاب روما، حدث معه سيناريو شبيه لما يحدث اليوم.
كان نادي روما يحتل المركز الثاني خلف المتصدر نادي إنتر ميلان، عندما تواجها على أرضية ستاد الأوليمبكو في روما، كان روما حينها أمام اختيار واحد وهو الفوز لكي يعتلي صدارة الدوري بفارق نقطة واحدة عن الإنتر، وبالفعل حدث ما تمناه رانييري حينها وفاز روما بهدفين لهدف في ملحمة رومانية عظيمة، بعد المباراة كان كل شيء يعمل لمصلحة روما المتصدر، فلا مباريات مع كبار القوم مرة أخرى وأغلب المباريات المتبقية ستلعب على ملعبه ووسط الجماهير التواقة لبطولة الدوري الغائبة، لكن الرياح لم تجر بما تشتهي السفن العاصمية، ففي مباراة سامبدوريا حدث العجب العجاب!
روما يستحوذ على الكرة، يسيطر ويهيمن على كافة أرجاء الملعب، يسجل القائد التاريخي توتي الهدف الأول ويضيع الفريق بعدها أهدافًا بالجملة، وفي لحظة مسروقة من الزمن يسجل سامبدوريا التعادل، روما لا يستسلم يضغط بكل خطوطه وبكل ما أوتيَ من قوة للتقدم، يتألق حارس مرمى سامبدوريا كما لم يتألق من قبل ويصد ويرد كل الهجمات الرومانية، حتى خطف سامبدوريا الهدف الثاني ليقتل كل الأحلام في قلب وعقل رانييري ويهدي الدوري لنادي إنترميلان، في سيناريو مجنون لو حاول ممثلوه إعادته مئة مرة لن يفلحوا أبدًا.
يغلق باب الغرفة وراءه متجهًا إلى منزله.
…………………….
يحدث الآن في مدينة ليستر سيتي حدثُ لا يتكرر كل يوم بل لا يتكرر كل موسم، حدثٌ استثنائي بكل ما تحمله الكلمة من معنى فالنادي الذي كان ينافس من أجل البقاء في نهاية الموسم المنصرم، حتى إن الكثير من المحللين قالوا بأن لا أمل له في البقاء، صار متصدرًا لجدول الترتيب وبفارق خمس نقاط عن أقرب منافسيه، النادي الذي يبلغ إجمالي قيمته (4.14) مليون باوند وإجمالي ما قام بدفعه في سوق الانتقالات منذ عام 1992 لا يتعدى 93 مليون باوند صار حديث عالم الكرة، يا سادة من يصدق أن ليستر سيتي متفوق على مانشستر يونايتد العريق ومانشستر سيتي صاحب الأموال وتشيلسي ومالكه تاجر السلاح الروسيّ وأرسنال بقيادة فينجر، وليفربول التاريخيّ، كل هؤلاء يلهثون خلف ليستر سيتي صاحب الإمكانات المتواضعة.
تبقى فقط سبع مباريات في الدوري الإنجليزي، 630 دقيقة لتحقيق المستحيل، 4410 ثانية لصناعة التاريخ، توقفت من فترة طويلة عن الإيمان بالمعجزات، لا أصدق حديث السحر والشعوذة، أحب الموهوبين والمجتهدين لكنني أؤمن بالواقعية، ففي كرة القدم لا يوجد أبطال خارقون، لا سوبر مان ولا باتمان، لكن إن فعلها رانييري فلتنصبوه إلهًا جديدًا، بطلاً خارقًا، صانع المعجزات، بابا نويل الكرة، سموه ما شئتم، فالإيطالي الفاشل على مرمى حجر من فعل المستحيل.
أشعر يا سادة وكأن نصر ليستر سيتي هو نصرٌ شخصي بحت، نصر لي ولأحلامي، نصرٌ على كل هزائمي الشخصية الماضية، نصرٌ على كل الديكتاتوريات ورؤوس المال والحكام والحكومات والدول المنتصرة، نصرٌ لكل مستضعفي الأرض في سوريا وأفغانستان ومصر والعراق ونيجيريا واليمن والبحرين، نصرٌ لكل سكان العشوائيات والفقراء الذين لم يحظوا يومًا بفرصة لنستمع إلى أحلامهم وتطلعاتهم في الحياة، نصرٌ لكل الأطفال الحفاة الذين يركلون الكرة في كل ناصية وحارة وضاحية في هذا العالم، نصرٌ لكل من سولت لهم أنفسهم بأن يحلموا ولو مرة، حتى ولو كان الحلم في لحظة اختلال ميزان القوى.
يا سادة سيولد أبطال لم يكن لهم سعر في الماضي القريب، أبطال لم يهتم لشأنهم أحد من قبل، لم يؤمن بهم أحد يومًا ما، أبطال يشبهوننا ونشبهم، أبطال عندما تراهم تشعر أنك تنتمي إليهم دون سابق لقاء.
محرز الجزائري الذي يمتد نسبه إلى الأمازيغ، وفاردي الذي كان يبحث ويسأل أصدقاءه على تويتر عن فندق يبيت فيه ليلته الأولى في المدينة، وكانتي الذي كان يلعب في دوري الهواة قبل أربع سنوات، وكاسبر شمايكل الصغير الذي يكمل مسيرة والده الأسطورة، وروبرت هوث الذي طاف أندية العالم باحثًا عن مجدٍ مفقود ولم يجده سوى هنا، هؤلاء وباقي كتيبة الكوماندوز هم إخوتي، إخوتي الذين سيرتدي أطفال العالم أجمع قمصانهم.
أعلم أنهم لا ينامون الليل يفكرون فيما هو آت، يحلمون باللقب، بالدرع الغالية، وأنا مثلهم أنتظر لحظة يولد فيها الحلم من أضلع المستحيل، لا شيء يوصف ذلك الإحساس، ستدخلون التاريخ أيها الجمع، سيُحفر اسمكم بجوار جيفارا ومالكوم إكس ومارتن لوثر كينج وكل الأبطال الشهداء.
بربك أيتها الكرة لا نريد مفاجآت، فقط كوني منطقية ولو مرة واحدة، لا نهايات دراماتيكية جديدة، انصفي جمع الهلافيت هؤلاء فإنهم يحبونكِ حبًا يكفي العالم ويفيض، لا نهائي إسطنبول آخر ولا عودة من الخلف لناد كبرياءه مجروح، لا ضربة جزاء ضائعة أو غير محتسبة ترتد بهدف يأخذ اللقب ويطير، أعرف ألاعيبكِ الخبيثة جيدًا، لا تعانديهم بربكِ فإنهم يستحقون.
وأنت أيها الإيطالي طريقك واضح، فإما أن تشتري لك بيتًا في مدينة البندقية بما تملكه من المال تخفي به وجهك عن العالم وإما أن تجوب العالم مرفوعًا فوق الأعناق وترى أجيالًا إيطالية جديدة تسمي نفسها: كلاوديو الصغير.
…………….
لا يا أيها المحترمون، أنا لا أهرب من واقعي المظلم إلى واقع مشرق لا يد ليه فيه، أنا لا أهرب إلى كرة القدم، كرة القدم هي التي تمسك بي وتقول لي دائمًا أن الحياة مستمرة وأن النجاح والانتصار ما زال ممكنًا مهما ساءت الأحوال وهاهم إخوانك ينتصرون لك ولأحلامك رغم استحالة نصرهم نظريًا، كرة القدم لها رسالة أكبر من المتعة المقدمة، ربما الكرة لا توقف الحروب ولا تحيي القتيل ولا تنقذ حياة المرضى، لكنها تفعل ما هو أعظم من ذلك، كرة القدم تعطينا الشغف والأمل، الشغف الذي إن وجِد صنع المستحيل والأمل الذي يحاربونه بينما يتراقص هو على صوت طبول حربهم الغبية.
…………………..
إلى كتيبة الكوماندوز: أرجوكم لا تعبثوا بي، فأنتم ثورة من لا ثورة له.