على بعد حوالي 600 كيلومتر جنوب تونس العاصمة، وسط الصحراء، تعترضك واحة “قصر غيلان” أحد أبواب الصحراء الكبرى لتونس على حافة منطقة عرق الشرق الكبير، ترتوي من عين ماء حارة تنبع من قلب الصحراء.
لم يكن الوصول إليها يسيرًا، فبعد قطع مسافة ليست بالقصيرة في الصحراء التونسية وسط طرقات وعرة حوصرت بجريد النخل لمنع الرمل من الزحف عليها ولوحات طبيعية خلابة، تصل إلى الحلم المبتغى، إلى جنة الصحراء “قصر غيلان” التابعة لمحافظة قبلي الجنوبية.
في الطريق إليها تخوض عباب صحاري ممتدة لأميال وسبخات رصعها الملح بياضًا لعشرات الكيلومترات والسراب يملأ المكان يتراءى ثم يختفي.
بجانب نبع طبيعي يحيط به بساط أخضر كثيف، تهش نفس الناظر وتتهلل أساريره لرؤية الخضرة والماء، يجيل بصره حول المكان، فترهبه الكثبان العاتية والرمال الممتدة، التقى “نون بوست” بالحاج أحمد يسقي جماله ويأخذ قسط من الراحة عقب تعب يوم عمل شاق “قصر غيلان.. جنة في قلب الصحراء بواحاتها الغناء وبحيرتها الدافئة ونخيلها الباسقة الشاهقة”، يقول الحاج أحمد.
سكت قليلاً يتفقد الجمال ثم تابع: “رغم تراجع السياحة في قصر غيلان نتيجة تأثرها بالواقع العام للبلاد، فإنها تبقى قبلة للعديد من المسؤولين الكبار والمفكرين والفنانين والسياح الأجانب والمحليين”.
وأرجع ذلك إلى “مناخها المتميز وطبيعتها الخلابة وهدوءها الممتع وعينها المائية الدافئة التي تنبع من قلب الصحراء ورمالها الذهبية”.
يوجد في هذه المنطقة الخلابة وسط صحراء تونس العديد من الأنشطة السياحية والرياضية من ذلك ركوب الدراجات الرباعية والدراجات النارية وركوب الخيل أو الجمال، كما توفر للسياح فرصة التمتع بالمناظر الطبيعية من الرمال والنخيل وكسب الراحة في الينابيع الحارة، ويوجد فيها ثلاثة مخيمات على شكل خيمة البربر، من ذلك مخيم باراديس قصر غيلان الموجود على مساحة تزيد عن 4 هكتارات في الواحة، ويتميز المخيم بموقع مثالي وسط النخيل، بالقرب من الينابيع الساخنة، ويضم 42 خيمة كلاسيكية بطاقة استيعاب من شخص إلى ثمانية أشخاص لكل واحدة منها، مجهزة بأغطية تقليدية بربرية، دش وحمام خاص (على طراز المخيمات) ومطعم.
في قلب الواحة انتشر المئات من الزوار الأجانب والتونسيين في سعة من الأمن والطمأنينة، وسط فضاء سياحي منقطع النظير يزاوج بين خضرة النخيل وصفرة الرمال، ترصعها بركة وقد تلألأت مياهها.
فمع انخفاض درجات الحرارة في أوروبا شتاءً، يهرع سياح كُثر إلى جنوب تونس هربًا من قسوة التقلبات المناخية وبحثًا عن جو هادئ يُشيع في أجسادهم الدفء ويبعث الحرارة في الشرايين.
وأكد الحاج أحمد إيغال المنطقة في التاريخ وقال “يعود اسم القرية إلى اسم البرج الروماني الذي بناه القائد العسكري تيزار سنة 297 ميلاديًا، وقد اتخذ الرومان هذا البرج في السابق كقاعدة عسكرية متقدمة للسيطرة على طريق القوافل التجارية الصحراوية القادمة من الغرب ومن الجنوب، حسب الحاج أحمد.
ينتصب هذا المعلم الأثري على ربوة من الرمال الذهبية ويمثل نهاية الطريق الرومانية الصحراوية المسماة بطريق “أنطوليوس”.
وقف الحاج أحمد وأشار بيده الى عمود منتصب وسط الرمال وقال “هذا العمود التذكاري يعكس مرور جيش الجنرال الفرنسي جاك فيليب لوكلير فيليب مارى فيكونت دي أوتكلوك – في عام 1943 خلال معركة قصر غيلان”، وكتب على هذا العمود نص “هنا، من 23 فبراير إلى 10 مارس 1943، الجنرال لوكلير والقوة L جاءوا من تشاد حيث قاتلنا بقوة وانتصرنا وألحقنا خسائر فادحة بقوات العدو”.
رمال على مد البصر وكثبان رملية تزحف وتزحف حتى تكاد تبتلع ما حولها، والريح تعبث بذرات التراب الذي يتحول غبارًا يصفع الوجه ويعمي العيون، والشمس تشعل الصحراء فتحول رمالها وكثبانها لهيبًا حارقًا طوال ساعات النهار، مقابلها ظلال ونخيل وحيوانات وبشر وبيوت ومزارع.
تحتضن منطقة قصر غيلان أول محطة لتحلية المياه بالطاقة الشمسية في إفريقيا والعالم العربي تم إحداثها مؤخرًا بالتعاون مع عدد من الأخصائيين في مجال الطاقات المتجددة من تونس وإسبانيا، تقوم بتحلية المياه لفائدة المنشآت السياحية والمؤسسات العمومية (مدرسة، مستوصف…) بالمنطقة وتزويد المواطنين وأبناء القرية بالماء الحلو المقطر الصالح للشراب.
احتضنت الصحراء التونسية 80% من مشاهد الفيلم السينمائي العالمي “المريض الإنجليزي”، الذي حصل على مجموعة من جوائز الأوسكار؛ حيث فتحت تضاريس الجنوب أسرارها لتصوير حوالي معظم مشاهده، بالإضافة إلى تصوير أحداث فيلم “التهديد الخفي” من سلسلة فيلم “حرب النجوم” للمخرج العالمي جورج لوكاش.
قصر غيلان حيث الواحات الممتدة والعيون الحارة الدافئة والبيوت المتناثرة، تجاوز أهلها قساوة الصحراء ليعمروا جنة خضراء أضحت تمثل قبلة عالمية للسياح.