ما لا يفهمه المتابعون للمشهد السياسي الدولي والإقليمي، ما هو السبب الأساسي لإصرار المملكة على إغراق المنطقة والعالم بالبترول، وتخفيض أسعاره لما دون الـ 40 دولارًا، بعدما كان يتخطي 120 دولارًا للبرميل، بعضهم يتفهم وجهة النظر التي تعمل عليها منذ سنوات، لمحاصرة النفوذ الإيراني والروسي بخفض أسعار النفط، والآخر يرى أن المملكة بإصرارها على المحافظة على نسبة الإنتاج رغم انخفاض الأسعار، كمن يطلق الرصاص على نفسه، وربما يتحول سلاح النفط الذي تستخدمه المملكة في حربها ضد خصومها السياسيين، مع الوقت من سلاح في وجه الخصوم لخنجر في صدرها.
حرب “البترودولار”
على مر التاريخ انتهجت المملكة سياسة “رفع الأسعار” في منظومتها الحربية “البترودولار”، كسلاح لها في وجه الغرب، منذ حرب أكتوبر في السبعينات، لكن مؤخرًا تغيرت سياستها، ربما بإيعاز أمريكي، وباتت تستخدم “خفض الأسعار” كسلاح لفرض مكانة لها دوليًا، معتمدة على احتياطياتها النفطية الهائلة، ومخزونها الدولاري الداخلي، الذي يدعم ميزانيتها لسنوات مقبلة دون أزمة، لكن في المقابل شهدت ميزانية 2016 عجزًا بقيمة 326 مليار ريال، أي ما يقارب 87 مليار دولار، حتى إن صحيفة النيويورك تايمز توقعت أن تشهد المملكة حالة إفلاس بحلول العام 2020، في حال لم تتخذ إجراءات تقشفية، لمواجهة عجز الموازنات المتتالي خلال السنوات المقبلة، كونها تعتمد على النفط كمصدر أول ورئيس للدخل دون تنويع، ناهيك عن كلفة “ورطة اليمن” التي تزداد يوميًا.
في الماضي القريب، ربما كان يفلح تكتيك المملكة هذا، وبالفعل أثبت نجاحه في العام 1977، حينما واجهت شاه إيران بإغراق أسوق النفط، لكبح جماح النفوذ الإيراني، وكان عاملاً مؤثرًا في زعزعة حكم الشاه وسقوطه، ثم نجحت مرة جديدة في منتصف الثمانينات، عندما ضخت المملكة ملايين البراميل لإغراق الأسواق للتعجيل بسقوط الاتحاد السوفيتي، بالتنسيق مع أمريكا وقتها، لكن روسيا الآن غير روسيا وقتها، وبوتين ليس كـ “جورباتشوف ويلتسن”، وإيران أيضًا حاليًا تختلف عن دولة الشاه، وتملك من القوة ما يمكنها من تحمل الضغط السعودي، فعلى من تطلق السعودية الرصاص الآن؟
ورطة حقيقية
نظريًا ترى المملكة أنها يمكنها في أي وقت التحكم في سعر البترول، بخفض الإنتاج لرفع السعر، لكن واقعيًا هذا التصور أضحى غير موجود، بعدما باتت الولايات المتحدة وحلفائها تتحكم في آبار النفط بمعظم منطقة الشرق الأوسط؛ ما يجعلها تحدد سعره بعيدًا عن “أوبك” ذاتها، وإن أقدمت المملكة في أي وقت على رفع سعر نفطها، لن تجد من يشتريه بهذا السعر، إضافة إلى أن رفع العقوبات عن إيران مكنها من الدخول لسوق النفط، ومن الممكن أن تستغل ذلك، وتعرض نفطها بثمن أقل، لترد الضربة للمملكة، وبالتالي فإن الواقع الآن للمملكة وكأنها حفرت حفرة لنفسها، وتسعى للخلاص منها دون طائل.
البعض قد يبرر خطوة المملكة تلك، بأنها محاولة للتصدي للبديل الآخر لنفط دول الأوبك، أي “النفط الصخري” الذي أصبح استخراجه مجديًا، رغم تكاليفه العالية، وهو ما دفع بالولايات المتحدة لزيادة إنتاجها منه في السنوات الأخيرة من 5.7 مليون برميل إلى 8.4 مليون برميل يوميًا، وهو مبرر يمكن قبوله نظريًا فقط، ويمكن الرد عليه بجدلية “نفط الشمال الأوروبي” في الماضي القريب منتصف الثمانينات، حينما واجهته السعودية ودول الأوبك، بضخ المزيد من نفط الشرق الأوسط، لينخفض سعر البرميل وقتها إلى أقل من 7 دولارات، في حين كانت تكلفة إنتاج البرميل في النفط الأوروبي وقتها 10 دولارات، لكنه لم يتوقف مطلقًا، ما يعني أن المملكة لا يمكنها أن تقضي على فرص التوسع في النفط الحجري، وتعيد الدول المستهلكة له وعلى رأسها أمريكا إلى الاعتماد على النفط التقليدي، في المقابل لا نعلم على وجه التحديد كيف ستكون ردة فعل كل من إيران وروسيا على هذه الخطوة السعودية، لكن المعروف أنها لن تكون ودية، ونتائجه كما يتوقع الجميع لن تكون لصالح السعودية، مثلما كان عليه الحال في مرات سابقة.
مبررات غير مقنعة
ربما يجادل البعض أن المملكة مجبرة على هذا التصرف، لحماية مصالحها، والتصدي للمساعي الإيرانية عسكريًا وأيديولوجيًا في سوريا ولبنان واليمن والعراق، وهو أمر قريب من الصحة، ولكن السعودية ليست محصنة لردود الفعل الداخلية والخارجية، والانتقامين الروسي والإيراني المحتملين وهو الأمر المخيف في تحركاتها تلك.
الآن وبعد ما يقرب من عام من تلك الاستراتيجية، المملكة وجدت نفسها أمام متغيرين رئيسيين، قلبا الطاولة عليها، قبل إيران وروسيا، أهمها هو الاتفاق النووي الإيراني – الغربي، وما تبعه من متغيرات إيجابية على إيران، الدولة ذات الاقتصاد المتنوع، والتي بدأ العالم في العودة للاستثمار معها، بعد رفع العقوبات، وكان لرد ما يقرب من 170 مليار دولار أمريكي كانت مجمدة في البنوك العالمية بسبب العقوبات، بالإضافة إلى تعطش دول العالم، وخاصة أوربا ودول شرق أسيا، إلى انطلاق استثماري في شتى المجالات الاقتصادية والصناعية معها، بما في ذلك صناعة النفط، ما شكل وبالاً على المملكة.
أما النقطة الثانية والتي تزيد من عمق الحفرة التي ألقت السعودية نفسها بها طواعية، هي “النفط الصخري”، فشركات النفط العالمية، وخاصة تكتل الشركات الأمريكية العاملة في مجال استخراج النفط الصخري، نجحت خلال الشهور الماضية في تجاوز عقبة تخفيض سعر النفط، حيث خفضت بواسطة التكنولوجيا تكلفة استخراج النفط الصخري، ليتناسب مع سعر النفط الحالي، ويصبح ذا جدوى اقتصادية للعديد من الدول، وبالتالي فشلت الاستراتيجية السعودية، وساهمت دون غيرها في الإضرار بصناعة النفط والاقتصاد السعودي.
مرحلة الأزمة
برؤية أكثر تعمقًا، فإن كانت توقعات مستقبل سوق النفط صحيحة، فإن المملكة العربية السعودية ستبدأ في دخول مرحلة الأزمة خلال عامين من الآن، وستتحول أزمتها إلى أزمة وجودية، بحلول نهاية العقد الحالي؛ لأن السعر التعاقدي لخام النفط الأمريكي الذي سيُسلم حتى ديسمبر 2020 يبلغ حاليًا 62.05 دولار، وبالتالي باتت “أوبك تتحلل بشكل طردي”، حتى إنها أغلقت مكاتبها في ڨيينا لتوفير المال، والآن أوبك، تسبح عكس التيار، وكل ارتفاع في سعر النفط، سيرافقه زيادة في نسبة إنتاج النفط الأمريكي، والقيد الوحيد على هذا الموضوع هو حجم احتياطيات الولايات المتحدة التي يمكن استخلاصها بتكلفة متوسطة، وهذه الاحتياطيات قد تكون أكبر مما هو متوقع، كما أنه يمكن استخراج النفط من الأرجنتين وأستراليا، والصين، فحوض “البرمي” في ولاية تكساس وحده، قادر على إنتاج من 5 إلى 6 مليون برميل يوميًا على المدى الطويل، وهذا الرقم يفوق ما ينتجه حقل “الغوار” العملاق في المملكة العربية السعودية، وهو حقل النفط الأكبر في العالم.
محرقة الاحتياطي النقدي
الخلاصة.. المملكة أضحت المتضرر الأكبر من استراتيجيتها تلك، وبات اقتصادها الذي يعتمد في 90% من مدخولاته على النفط مهدد الآن، خصوصًا وأن المواطنين السعوديين لا يدفعون الضريبة على الدخل، ولا تحمل أسهمهم أية خصومات من الأرباح، والبنزين يباع بمحطات الوقود بأسعار زهيدة، والكهرباء كذلك، ناهيك عن الإنفاق المتزايد على الرعاية الاجتماعية، الذي وصل إلى أرقام فلكية، في محاولة لمواجهة أية ثورة اجتماعية خلال تيارات الربيع العربي في السنوات الخمس الأخيرة.
ومؤخرًا، بعد ثورات الربيع العربي، ظهرت تسربات لرؤوس الأموال لخارج المملكة، بلغت تدفقاتها حوالي 8% من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا، وحدث ذلك كله قبل انهيار أسعار النفط، أما الآن فقد لجأت المملكة لحرق احتياطياتها من النقد الأجنبي بوتيرة كبيرة، وباتت تنفق حوالي 12 مليار دولار من احتياطياتها كل شهر.