“في رأيي أن الحوار السعودي الإيراني هو حوار بين دولتين هما على خلاف حول أمور عدة، ولا شك أن الأمور ستهدأ أو تتحسّن في المنطقة حال اتفاقهما..” بهذه الكلمات استهل سعد الحريري، رئيس تيار المستقبل اللبناني حديثه عن الوساطة الإقليمية والدولية لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين الرياض وطهران بعد سنوات من التراشق السياسي والاقتصادي ألقى بظلاله القاتمة على المنطقة العربية والشرق أوسطية بالكامل.
العديد من الأصوات المحلية والإقليمية والدولية ناشدت الأطراف المعنية بالجلوس على مائدة المفاوضات والحوار من جديد، في محاولة لحلحلة الأزمة في الشرق الأوسط باعتبار أن السبب الرئيسي في جل هذه الأزمات يرجع للخصومة بين الرياض وطهران مما يجعل من إعادة النظر في طبيعة العلاقة بين البلدين أمرًا غاية في الأهمية.
جهود الوساطة الروسية – الباكستانية – الكويتية، فرضت العديد من علامات الاستفهام حول ما يمكن أن تتمخض عنه، لاسيما بعد تأزم الموقف بالتدخل الدولي المباشر في سوريا والعراق، وقريبا في اليمن، وهو ما دفع البعض لفرض عدد من السيناريوهات للخروج من هذا المأزق.
“نون بوست” يسعى في هذا التحليل إلى طرق أبواب الحوار بين الجانبين لمعرفة مدى واقعية بعضها وخيالية الآخر، والوقوف على أبرز السيناريوهات المقدمة لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، فهل تستهل العلاقات السعودية الإيرانية خطواتها نحو المصالحة بضمان الحفاظ على الأمن القومي السعودي من الناحية الجنوبية بتطويق الحوثيين وغلق منافذ الدعم لهم، في مقابل تخلي الرياض عن تعنتها في سوريا والإبقاء على الأسد لمرحلة انتقالية؟
الرياض – طهران.. تاريخ من العلاقات المتأرجحة
كان نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية 1979م والإعلان عن الدولة الإسلامية، العلامة الفارقة في تاريخ العلاقات بين السعودية وإيران، حيث تأرجحت بعدها ما بين الهبوط والصعود، المد والجزر، حيث تحولت الرياض من التحالف مع شاه إيران محمد رضا بهلوي إلى الصدام مع مرشد الثورة روح الله الموسوي الخميني.
ثم جاء وقوف الرياض إلى جانب العراق في حربه ضد إيران، بمثابة الطعنة التي أصابت طهران في مقتل، وهو ما دفعها إلى إثارة بعض عمليات القلاقل والاضطرابات التي كانت السعودية تتهم إيران دائمًا بالوقوف ورائها، وما حدث في بعض مواسم الحج أكبر دليل على حجم الصراع بين البلدين، وتعتبر أحداث مكة في أغسطس 1987 – والتي خرج الحجاج الإيرانيون فيها بمظاهرات مؤيدة للثورة الإسلامية – منعطفًا مهمًا في العلاقة بين الدولتين ترتب عليه قطع العلاقات بينهما واستمر ذلك الانقطاع حتى عام 1991.
استمرت القطيعة بين طهران والرياض حتى وفاة الخميني ونهاية حرب الخليج الثانية (1990-1991) لتدخل العلاقات الإيرانية السعودية بعدها مرحلة من الهدوء النسبي لاسيما بعد تولي مقاليد الحكم في طهران شخصيات تنادي بحوار الحضارات وتحسين علاقات الجوار، وفي مقدمتهم رفسنجاني ومن بعده خاتمي، وكان نتيجة ذلك أن شهدت العلاقات السعودية الإيرانية درجة عالية من التطور والتنسيق والتعاون ترجم في تعدد وتبادل زيارات المسؤولين من البلدين وعلى مستوى عال، وتوجت تلك العلاقة بتوقيع اتفاقية أمنية عام 2001 شكلت محطة مهمة ليس فقط في علاقة البلدين بل في الخليج العربي بأكمله لأنها انتقلت من مرحلة البروتوكولات الدبلوماسية إلى عمق العلاقة وتأصيلها شعبيًا ورسميًا.
ثم جاء عهد أحمدي نجاد لتعود العلاقات بين البلدين إلى المربع “صفر” من جديد، حيث تشابهت علاقة البلدين في عهد نجاد مع مرحلة الخميني، وزاد في درجة تطرفها انفجار بعض الملفات الساخنة والمتمثلة في الشحن الطائفي الموجود في المنطقة، والبرنامج النووي الإيراني، وكذلك الدور الإقليمي الذي تلعبه إيران في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق.
المصالحة بين الرياض وطهران.. لماذا؟
“تتسم التعاملات بين السعودية وإيران، على رغم انعدام الثقة والخلافات، بالواقعية والحلول الوسط، ما سينعكس على المنطقة”، كان هذا ملخص خطاب للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون حث فيه الرياض وطهران على التصالح والمساعدة في إنهاء التوتر في المنطقة.
أما رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري طالب أكثر من مرة في تصريحات عدة ما بين الحين والآخر، بضرورة جلوس صنّاع القرار في طهران والرياض على مائدة المفاوضات، مؤكدًا أن استعادة العلاقات الطبيعية بين السعودية وإيران تمثل ضرورة إسلامية وعربية ولبنانية وعراقية ويمنية وبحرينية، مشددًا على أن ضمان سلامة المنطقة والخلاص من أزمتها السياسية هو في استعادة العلاقة السعودية – الإيرانية إيجابيتها.
وشاركه الرأي النائب ميشيل موسى، عضو كتلة التنمية والتحرير اللبناني، والذي أكد على التأثير القوي لكل من السعودية وإيران على الدول التي يحاربون فيها بالوكالة وهي سوريا واليمن والعراق ولبنان وغيرها من الدول التي تشهد أوضاعًا غير مستقرة، وهو ما يجسد اهتمام العديد من المحللين بمؤشر العلاقة بين هاتين القوتين الإقليميتين.
موسى أشار إلى أن الحوارات الجارية في لبنان بشأن الوصول إلى نقطة اتفاق بين تيار المستقبل وحزب الله نجحت في الإجابة عن كثير من التساؤلات، كما ساهمت في حل بعض الإشكالات، لكنه غير كاف بالشكل المطلوب، منوهًا أن أي تلاق سعودي إيراني سيسهم بشكل كبير في إزالة الغالبية العظمى من الخلافات في دول المنطقة ومنها إيران.
السعودية: نعم للتصالح لكن بشروط
بالرغم من أن فتح صفحة جديدة في العلاقات بين طهران والرياض مطلب سعودي وإن لم يتم الإعلان عنه لاسيما في ظل ما تتكبده السعودية من خسائر مادية وبشرية في اليمن وسوريا، إلا أن سعي الرياض للحفاظ على هيبتها الإقليمية، وعدم السماح لأي نفوذ إيراني بالمنطقة، دفع وزير خارجيتها، عادل الجبير، لفرض إملاءاته على طهران حال رغبتها في التصالح مع السعودية.
الجبير صرح خلال مؤتمر صحفي عقده بالرياض مؤخرًا مع نظيرته الجنوب إفريقية مايتي نكوانا ماشاباني، أن إيران إذا أرادت إقامة علاقات أفضل مع السعودية عليها تغيير سلوكها، وتصبح بلدًا عاديًا وتكف عن أن تكون بلدًا ثوريًا يسعى إلى تصدير ثورته، لافتًا إلى أن بلاده لا تريد أن يكون هناك توتر مع طهران.
إيران.. ومساعي تطويق الخصومة
بالرغم من الحرب الباردة المستعرة بين طهران والرياض منذ عقود، وسواء كانت ذا مرجعية مذهبية أو سياسية، إلا أن الأجواء الحالية تشير إلى أن إيران تبدو معنية أكثر من أي وقت مضى بالتهدئة مع مختلف الخصوم الإقليميين والدوليين للاستفادة من فرصة رفع العقوبات الاقتصادية عنها بعد إبرامها اتفاقًا مع القوى الكبرى بشأن برنامجها النووي.
وجاء رد فعل المرشد الأعلى علي خامنئي والذي يعد الشخصية الأكبر في الهرم السياسي الإيراني حيال الاعتداء على سفارة السعودية وقنصليتها بطهران يناير الماضي على إثر إعدام رجل الدين الشيعي نمر النمر ليلوح في الأفق برغبة قوية لدى إيران في فتح الباب مع الرياض بصورة مغايرة لما كان عليه الوضع سابقًا.
خامنئي الذي علّق على حادث الاعتداء بـ “العمل السيء للغاية والمضر بمصلحة البلاد والمصالح الإسلامية” ثم من بعده وزير الخارجية جواد ظريف الذي قال إنّ المواجهة بين إيران والمملكة “ليست في مصلحة أحد”، دفعت الكثير من المحللين إلى التأكيد على رغبة طهران في ترطيب الأجواء مع السعودية.
فتح باب الحوار مع السعودية لم يقتصر على البعد السياسي وفقط، بل هناك ضرورة ملحة تدفع إيران للاستفادة بشكل فعلي من رفع العقوبات الاقتصادية عنها، وذلك من خلال فتح قنوات حوار مع الرياض لإيجاد حل لمعضلة تهاوي أسعار النفط، ودون ذلك لن يكون لعودتها إلى سوق البترول العالمية معنى يذكر.
الوساطة الإقليمية والدولية
“نحن نعبر عن أسفنا لتأزم العلاقات بين أكبر دولتين في العالم الإسلامي، وأكثرهما نفوذا في المنطقة، وفي سوق النفط العالمية”، بهذه الكلمات كشف مصدر دبلوماسي في الخارجية الروسية عن استعداد بلاده للقيام بدور الوساطة بين طهران والرياض من الجلوس على مائدة الحوار والمفاوضات بما يذلل عقبات المصالحة بين البلدين.
ونقلت وكالة “نوفوستي” الروسية للأنباء عن ذات المصدر قوله إن موسكو كانت دائما حريصة لتكون لدى المسلمين رؤية مشتركة، لدى السنة والشيعة، في إطار منظمة التعاون الإسلامي، وكذلك في المنظمات الدولية الأخرى، ورؤية مشتركة كذلك فيما يخص المشكلات الدولية والإقليمية، بما في ذلك الأزمة السورية والوضع في منطقة الخليج.
ثم جاءت جولة رئيس الوزراء الباكستاني ووزير دفاعه للسعودية وإيران بهدف تهدئة الأجواء بين البلدين، ومن بعدها ما أعلنت عنه الكويت بصدد مساعيها للتقريب بين وجهة نظر البلدين، لتضيف حلقة جديدة من جهود الوساطة الإقليمية والدولية.. فما هي فرص نجاحها؟
محمد محسن أبو النور الباحث المتخصص في الشؤون الإيرانية، يرى أن فرص نجاح الوساطة كبيرة للغاية، وذلك لاعتبارات عديدة على رأسها ثقة البلدين في قيمة ومكانة الدول التي تسعى للوساطة.
أبو النور أشار إلى أن هذه التحركات أمر جيد في هذا التوقيت، لاسيما بعد قرار رفع المجتمع الدولي العقوبات الاقتصادية على إيران، مما سيدعم ملفاتها بالشرق الأوسط الأمر الذي سيزيد التوتر في المنطقة بشكل عام.
بدوره أشار الدكتور طارق فهمي أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن ما تقوم به باكستان وروسيا والكويت ليست وساطة بمعنى إنهاء الخلاف وإنما تقريب لوجهات النظر بين السعودية وإيران، مضيفًا أن جهود التهدئة حال نجاحها قد تمثل مصدر قلق لإسرائيل وأمريكا لاسيما وهما يسعيان لإثارة القلاقل في المنطقة.
الحوثيون في مقابل الأسد
(العراق – لبنان – اليمن – سوريا) هذا هو مربع الحرب التي تخوضها السعودية وإيران بالوكالة، وبالرغم من الصراع المستعر لبسط النفوذ لكلا الدولتين في الدول الأربع، إلا أن الواقع يشير إلى أن كافة الجهود تتركز في محورين فقط، اليمن وسوريا.
تمثل اليمن بالنسبة للسعودية معركة حياة أو موت، إذ تعد اليمن الخنجر الذي قد يطعن بلاد الحرمين من الجنوب، وهو ما يمثل تهديدًا صارخًا لأمن المملكة القومي، ومن ثم نجد حجم الضغط الممارس للإطاحة بالحوثيين وفرض الاستقرار السني باليمن، من خلال تجييش الرياض لقوات الدول المجاورة فيما أطلق عليه “التحالف العربي الإسلامي” ضد علي عبدالله صالح ورجاله في اليمن.
وبالانتقال إلى الوضع في سوريا، نجد أن الأمر مختلف نسبيًا، فقد تمثل الأزمة السورية للرياض معركة مذهبية أيديولوجية في المقام الأول، قبل أن تكون معركة سياسية أمنية مباشرة، بينما يمثل الوضع لإيران معركة وجود، إذ إن الإبقاء على بشار الأسد ونظامه يعني لطهران ضمان تواجدها في المنطقة في هذه البقعة الحيوية، وهو ما يضمن لها توازنها الإقليمي الذي تسعى للحفاظ عليه.
العديد من الخبراء فرضوا بعض السيناريوهات للخروج من المأزق الحالي، في محاولة لحلحلة الأزمة في الشرق الأوسط، وتطويق المخاطر التي تهدد دول المنطقة بلا استثناء، لاسيما بعدما وضعت القوى الدولية أقدامها في المنطقة.
السيناريو الأكثر جدلاً والأقرب لترجمته على أرض الواقع يتمثل في تخلي طهران عن دعم الحوثيين في اليمن، بما يمهد سيطرة الرياض على مقاليد الأمور، وتطوق المد الحوثي لاسيما في الشمال، بما يضمن لها – الرياض – أمنها القومي من الناحية الجنوبية، في مقابل تخلي السعودية عن تعنتها في الإطاحة ببشار الأسد والقبول بمرحلة انتقالية سياسية يكون الأسد فيها رئيسًا لحين إجراء انتخابات رئاسية بعد عام ونصف أو عامين كما اتفقت موسكو وواشنطن على ذلك.
المؤشرات تقود الجميع إلى هذه السيناريو وهو ما كشفت عنه الأحداث القليلة الماضية، فالتأكيد الروسي الأمريكي على عدم مناقشة مصير الأسد في مرحلة التفاوض المقبلة، والاكتفاء بدراسة طبيعة المرحلة الانتقالية التي يجب أن تمر بها سوريا للخروج من أزمتها الراهنة، فضلاً عن انشغال تركيا بما يهدد حدودها مع الأكراد من جانب والعمليات الإرهابية في الداخل من جانب آخر، يصب في صالح هذا السيناريو.
وفي المقابل نجد أن التدخل الأممي في اليمن وفرض قرار وقف العمليات القتالية هناك وقبول السعودية بهذا القرار في مقابل اعتراض الحوثيين ورجال صالح، يضع الأخير في ورطة أمام المجتمع الدولي، في الوقت الذي تسحب فيه إيران يدها رويدا رويدا من خلال التوقف عن تزويد الحوثيين بعناصر حزب الله على عكس الوضع في سوريا، بما يعطي مؤشرًا لتطويق رجال الحوثي أمنيًا وسياسيًا – إقليميًا ودوليًا – وهو ما تسعى إليه الرياض.
فهل تشهد الفترة المقبلة صفحة جديدة بين الرياض وطهران تستهل حروفها الأولى بالحفاظ على أمن السعودية الجنوبي في اليمن بتطويق الحوثيين في مقابل الإبقاء على بشار بسوريا لفترة انتقالية؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.