“إذا كنت ترغب في استجواب جاد، أرسل المعتقلين إلى الأردن، وإذا كنت تريد أن يتعرضوا للتعذيب، يمكنك إرسالهم إلى سوريا. أما إذا كنت تريد أن يختفوا ولا يظهرا مرة أخرى، يجب عليك أن ترسلهم إلى مصر” هكذا قال ضابط المخابرات المركزية السابق روبرت باير في عام 2004، قبل ست سنوات من بدأ الانتفاضات العربية.
في عام 2015 فقط، تمّ تسجيل أكثر من 1250 حالة اختفاء قسري و267 حالة قتل خارج نطاق القانون في مصر مع ما يزيد على 40 ألف معتقل سياسي.
هذه ليست أرقام شاملة، بل أرقام الحالات التي تمكنت من توثيقها المنظمات المحلية غير الحزبية (أو الأقل حزبية) لحقوق الإنسان. وعلى الرغم من أن مصر قد خضعت لحكم أنظمة عسكرية قمعية لأكثر من نصف قرن، إلّا أنَّ هذه الأرقام غير مسبوقة في تاريخ البلاد.
أحد الأسباب وراء شدة القمع هو الاعتقاد السائد داخل الفصائل الأمنية والعسكرية بأن الخطأ الرئيسي لحسني مبارك كان “تساهله”.
من منظورهم، سمح ديكتاتور مصر السابق بهوامش صغيرة للمعارضة والمجتمع المدني الذي كان ينبغي سحقها قبل انتفاضة عام 2011.
وهناك سبب آخر لهذا المستوى من القمع؛ وهو الإفلات من العقاب الدولي والمحلي. حتى الآن، لا يوجد ثمن لتعذيب الطالب الإيطالي، جوليو ريجيني، حتى الموت؛ وهو طالب دكتوراه إيطالي يبلغ من العمر 28 عامًا، ناهيك عن أكثر من 600 حالة تعذيب محلية موثّقة من قِبل مركز النديم في عام 2015.
المشجعون واللاعبون
هناك تكاليف كبيرة لتوثيق وفضح هذه الجرائم. كان مركز النديم واحدًا من حوالي 200 منظمة غير حكومية ومراكز بحوث وشخصيات بارزة في المجتمع المدني خضعت لتحقيقات جنائية من قِبل قضاء النظام المصري إزاء اتهامات “بتمويل أجنبي غير مصرّح به”.
هؤلاء هم “المتهمون” في قضية جنائية رقم 173/2011. وهناك سبب أقل أهمية وراء المستوى المكثّف من القمع؛ وهو التسييس غير الإنساني للمنظمات غير الحكومية المحلية والمؤسسات البحثية، نتيجة الاستقطاب السياسي الشديد.
في الواقع، رحّبت العديد من المنظمات غير الحكومية المدرجة والشخصيات المستهدفة بالانقلاب العسكري في يوليو عام 2013 ثمّ هللوا لتضييق الخناق على خصومهم السياسيين. وعندما وصل القمع على عتبات بيوتهم، تذمروا من الوضع.
ولكن كما ذكر زميل لي ذات مرة، لا ينبغي لنا أن نخلط بين المشجعين واللاعبين. وكانت العديد من “النخب” التابعة للمنظمات غير الحكومية مجرد مشجعة للنظام.
لذلك، مَن هم اللاعبون الذين شكّلوا هيكل القمع في مصر؟ وفقًا لضحاياهم، فإنهم يرغبون في الإشارة إلى أنفسهم ومقرات قيادتهم العامة باسم “عواصم الجحيم”.
في عهد مبارك، شكّلت ثلاث مؤسسات هيكل القمع في مصر: جهاز المخابرات العامة، وجهاز أمن الدولة (الذي يُطلق عليه حاليًا جهاز الأمن الوطني) وجهاز الاستخبارات العسكرية.
يرتبط جهاز المخابرات العامة مباشرة بمؤسسة الرئاسة، ويتمتع بوضع خاص في ظلّ إطار قانوني. في حين يقع جهاز أمن الدولة تحت إشراف وزارة الداخلية، وهي أقوى مؤسسة داخلها. أما جهاز الاستخبارات العسكرية فهو جهاز تابع لوزارة الدفاع، تطور تدريجيًا في القوة والوصاية للسيطرة على المؤسستين الأخرتين، والمؤسسات الأصغر منذ عام 2011.
“لقد أصبح ضباط وزارة الداخلية أعين وآذان المجلس الأعلى للقوات المسلحة. أما بقية أجهزة المخابرات لم تكن جديرة بالثقة ” هكذا قال جنرال سابق، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته.
وتدريجيًا، تحولت العيون والآذان إلى العقل المفكر. لقد تدخلت وزارة الداخلية في “الانتخابات” البرلمانية، وإدارة السجون السياسية، وصياغة السياسات المناهضة للمعارضة.
وعلى الصعيد المحلي، صارعت هذه المؤسسات الأمنية المسلّحة حتى يكون لديها “أجنحة سياسية”. وفي الانتخابات البرلمانية لعام 2015، دعمت كل مؤسسة مختلف الكتل التعددية الحزبية والمرشحين المستقلين.
لقد كانوا يحاولون خلق حزب وطني ديمقراطي خاص بهم، على غرار الحزب الوطني الديمقراطي أيام مبارك الذي كان آلة التعبئة السياسية الرئيسية.
المنافسة والمزايدات
ولكن هذه المؤسسات تتنافس أيضًا عندما يتعلق الأمر بالسياسة الأمنية الأجنبية. وقد وقعت واحدة من اشتباكاتهم العامة في هذا الشهر حينما أعلن وزير الداخلية المصرية مجدي عبد الغفار أن حركة حماس الفلسطينية متورطة بشكل مباشر في اغتيال النائب العام السابق، هشام بركات.
بعد ستة أيام، دعا جهاز المخابرات العامة القادة السياسيين لحركة حماس إلى القاهرة لبحث التعاون الأمني والعسكري في شمال سيناء، حيث فشل النظام في قمع التمرد المتزايد. “لذلك، هناك مؤسسة ترى أن حركة حماس جماعة إرهابية، في حين ترى مؤسسة أخرى أنها حركة شريكة في مكافحة الإرهاب. وأخبرني قائد عام بالقوات المسلحة المصرية: “نحن نمتلك سياسات أمنية متعددة، وليست سياسات” الشرطي السيء والشرطي الطيب.”
كيف ستؤثر “عواصم الجحيم” على المشهد الأمني والسياسي في مصر؟ ربما، لن تؤثر بشكل إيجابي.
من المحتمل أن تؤدي المنافسة والمزايدات بين هذه المؤسسات إلى مستويات مرتفعة من القمع الداخلي. ومن ثمّ استمرار التعذيب والقتل خارج نطاق القضاء، وسوف تستمر الاعتقالات السياسية الجماعية لتكون السياسة والأدوات الرسمية لتلك المزايدات.
وفي ظلّ الغياب المستمر للمساءلة الدولية والمحلية، وآلية الرقابة والأجندات الإصلاحية، وفي ظلّ الموارد المستنفدة، فمن المرجح أن تتجه مصر نحو مزيد من عدم الاستقرار.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية / ترجمة إيوان 24