أربع وعشرون ساعة فقط قضاها روبوت الإنترنت (أو البوت) “تاي” على صفحات تويتر مع الشباب الأمريكي ليتحول إلى النازية والعنصرية ضد النساء واستخدام السباب، ومن ثم يُجبر شركة مايكروسوفت صاحبة التجربة على غلق حساب تويتر الخاص به، لتُكتَب نهاية تاي بعد حياة قصيرة للغاية أفسدها البشر على ما يبدو.
تاي هو بوت من صنع الفرق البحثية لدى شركتي مايكروسوفت وبينغ، وكان من المفترض أن “يتعلم” عبر الدخول في حوارات مع البشر بشكل يكتسب منه رصيدًا من المعرفة بالمواضيع اليومية وكيفية إجراء المحادثات، وبالتالي التفاعل مع الناس وترفيههم على الإنترنت بالدخول معهم في حوارات عشوائية واعتيادية.
كانت الشريحة المستهدفة هي الشباب الأمريكي بين 18 و24 عامًا، والذين توافدوا بقوة على التجربة حيث حصل تاي على أكثر من 50 ألف متابع في نفس اليوم، لكن المشكلة ببساطة هي أن “برنامجه” تضمن إجراء المحادثات عبر التعلم من الآخرين، وبالتبعية فإنه بدأ بعد ساعات في تقليد متابعيه، لتتحول تغريداته على تويتر من “مرحبًا بالعالم” و”أنا أحب نفسي وأحب الجميع،” إلى “نعم، هتلر كان على حق، أنا أكره اليهود” و”أنا أكرة النسويات” وغير ذلك من تغريدات مسحتها مايكروسوفت قبل أن تلغي الحساب كله.
بطبيعة الحال، لم يفُت مايكروسوفت أن تشير لنجاح تجربة مشابهة لتاي لا تزال موجودة بالصين هي تجربة شاوايس Xiaoice، والتي انطلقت عام 2014 كـبوت على شبكات التواصل الاجتماعي الصينية بالأساس يتعلم أيضًا عبر التواصل ومراكمة المحادثات، وهو يمتلك حاليًا حوالي 40 مليون مستخدم في الصين يستمتعون بقصصه والحديث معه، والشركة في بيان اعتذارها عما قام به تاي تتسائل بوضوح عما إذا كان استنساخ التجربة في سياق ثقافي مغاير تمامًا قد أدى لتلك النتيجة الكارثية، ثم توجه اللوم مباشرة للمستخدمين الأمريكيين، متهمة إياهم بجهد ممنهج لإفساد تاي كتجربة، لكن ذلك لا ينفي إشكالية كامنة خلف تاي والقدرة على إفساده في غضون ساعات بهذا الشكل.
حساب تويتر الخاص بـ”تاي” قبل إغلاقه
واحدة من المشكلات الرئيسية في تاي هي أنه لا يدرك مدى حساسية أو سوء ما يقوله ووقعه على أذان البشر، والسبب البسيط هو أنه لا يشاركهم تاريخهم، فالشباب الذين تحدث معهم تاي يعلمون جيدًا وقع تغريداتهم وكلماتهم على أسماع المحيطين بهم، مثل إعلان تأييد هتلر ومعاداة اليهود بتلك السهولة والبساطة، وذلك لأنهم مروا بمراحل نمو كاملة استغرقت عشرين عامًا أو يزيد تلقت فيها عقولهم وتشربت الثقافة المحيطة بالكامل بما تعتبره محمودًا ومذمومًا وحساسًا وما إلى ذلك، أما تاي فهو “خارج التاريخ” باعتباره بوت ليس أكثر، ولذا فقد كان أشبه بالببغاء كما يقول لويس روزنبرج، المدير التنفيذي لشركة Unanimous A.I.
كل ما هو “تاريخ” بالنسبة لتاي هو ما تلقاه بعد تشغيله تقنيًا ليصبح رصيده وذاكرته التي يعتمد عليها، وهي مشكلة بالطبع بالنظر لضحالة ذلك التاريخ مقارنة بالتاريخ الطويل لمن اشتبكوا معه، مما يدفعنا للتساؤل حول إمكانية تحسين أدائه من عدمه، والحقيقة هي أن البعض في شركات التكنولوجيا يحاول إنتاج نُسَخ أكثر إيجابية من تاي ببساطة عبر برنامج يتيح له مراكمة تاريخ طويل في وقت وجيز، وكأنها محاولة لصنع تاريخ سريع Fast History على غرار الوجبات السريعة Fast Food، مما يتيح له مستقبلًا تركيبيًا وحساسًا مماثلًا للبشر نظريًا، لكن السؤال سيظل ما إن كان البوت بتاريخه السريع والمضغوط هذا سيمتلك نفس التركيبية بالفعل والقدرة على الإلمام بالثقافة التي يتحدث معها، أم أن غياب عُمق التجربة بقضاء سنوات طويلة من النمو البطئ كالبشر سيظل فيصلًا بينه وبينهم.
للإجابة على هذا السؤال ولو جزئيًا يمكن أن ننتقل إلى التجربة الناجحة للروبوت ألفاجو، والتي سبقت تاي بأيام قليلة، وفي مجال مختلف قليلًا هو الذكاء الاصطناعي المحض، بعيدًا عن عالم الاشتباك المباشر بالثقافة والمجتمع البشريين.
ألفاجو: الذكاء الاصطناعي المعقد
هي لعبة صينية عريقة، لكنها أكثر تعقيدًا من الشطرنج، إذ يتناوب لاعبان على وضع أحجار بيضاء أو سوداء على نقاط التقاء خطوط مرسومة بالطول والعرض (19 طولًا و19 عرضًا،) ويحاول كل منهما محاصرة مساحات الآخر والسيطرة عليها بالتحرك لمحاصرة حجرة واحدة أو أكثر من أحجار المنافس بالكامل، وحين ينجح في ذلك يفقد منافسه تلك الأحجار، أما اللعبة فتنتهي حين يصبح من المستحيل إجراء المزيد من التحركات، ليكون اللاعب صاحب المساحة الأكبر هو الفائز.
في سيول، عاصمة كوريا الجنوبية، كان موعد لي سيدول بطل العالم في لعبة “جو” مع الروبوت “ألفا جو،” ليلقى هزيمة ثقيلة بأربعة مرات مقابل الانتصار في واحدة فقط، تركت سيدول مذهولًا بعد أن توقع هزيمة الروبوت إثر متابعته له وهو يهزم لاعبًا آخر سابقًا، فقد اعتقد سيدول أنه كشف “تكنيك” الروبوت، لكن التعقيدات الكامنة خلف ذكاء ألفاجو الاصطناعي غابت عن سيدول على الأرجح، والتي توصلت لأساليب غير مسبوقة للعبة لم تشهدها من قبل في تاريخها الممتد لألفي عام أو يزيد.
على العكس مما قد نظن، لا يمتلك ألفاجو لوغاريتمات (خوارزميات) مبتكرة، فهو يحتوي على شبكة عصبية اصطناعية شبيهة بتلك الموجود في الدماغ بيولوجيًا، والتي يقوم عبرها باستقبال إشارات وضع الأحجار مباشرة، ثم يقوم عبر شبكات عصبية التفاتية (Convolutional) بالقيام بمهام أكثر تجريدًا مثل التعرف على أشكال وتوزيعات معينة للأحجار أثناء اللعب (وهي نفس الشبكات التي ساعدت الكثير من التطبيقات مؤخرًا في التعرف على صور محددة، مثل الإشارات الأتوماتيكية التي يقوم فيسبوك بإضافتها للصور عبر التعرف على صاحبها.)
غلاف مجلة نيتشر العلمية المعروفة في يناير الماضي عن ألفاجو
في البداية كان ألفاجو روبوت خام بدون أية “تجارب” سابقة، لكن شركة ديب مايند DeepMind التي طورته (وهي مملوكة لجوجل حاليًا) دربته على 30 مليون وضع مختلف للوحة اللعب مستقاة من 160 ألف مباراة حقيقية سابقة حصلت عليها الشركة من قاعدة بيانات مُتاحة للعبة جو، وهو رقم لا يسع أي لاعب محترف بالطبع أن يُلِم به ولو كرس حياته كلها للعبة، وتباعًا فإن تلك الخبرة السريعة والمركزة أتاحت للروبوت أثناء الاختبارات التنبؤ بتحركات اللاعبين الذين فازوا بالفعل حين تعرض لنفس موقفهم في مباراة سابقة.
لم تكن “الخبرة المضغوطة” تلك هي السمة الوحيدة لذكاء ألفاجو المعقد، إذ يمتلك الروبوت خاصية يستحيل لبشر أن يمتلكها، وهي تدريب الروبوت لنفسه باختبار أوضاع اللعب المخزنة في ذاكرته ومعرفة احتمالية أن تؤدي إلى انتصاره، وهو ما يتطلب أن يلاعب الروبوت نفسه، حيث ينقسم فعليًا إلى اثنين باستخدام شبكات معيّنة لتجربة أخرى داخل “دماغه،” وهو مرة أخرى يضيف إلى ملايين من الأوضاع التي تُكسبه تجربة تفوق ما يستطيع أي لاعب أن يحصل عليه في حياته وبقيود إمكانياته البشرية.
تفوق تاريخي للذكاء الاصطناعي هو بالطبع، باعتماده على “خبرة مضغوطة” وإمكانيات غير متاحة دماغيًا للبشر مع سرعة فائقة لمعالجة المعلومات المتاحة له وعدم شعوره بالكلل أو الإجهاد على العكس من منافسيه البشر، لكن المرة الوحيدة التي انتصر فيها لي سيدول في الأشواط الخمس قد تشي لنا بنفس القصور الذي أدى لفشل تاي، ففي تلك المباراة سلك سيدول أسلوبًا جديدًا، واستغرق الأمر ألفاجو بضعة جولات من اللعب قبل أن يدرك ضرورة تغيير أسلوبه، وهي واحدة من الحقائق المعروفة عن الذكاء الاصطناعي وهي أنه أقل كفاءة من الإنسان في التعلم، إذ أنه يحتاج إلى أمثلة وتجارب أكثر بكثير جدًا ليلتقط الأساليب الماهرة في اللعب، وهي واحدة من الإشكاليات التي تواجه علماء الذكاء الاصطناعي باستمرار، والمعروفة بإشكالية “التعلم العميق” Deep Learning، والذين يعكفون على حلها بإيجاد وسائل جديدة تتيح تعلم الروبوت بكمية بيانات أقل.
الذكاء الاصطناعي والإبداع البشري
ديشو: فن الخط الصيني “المؤقت” المنتشر باستخدام حبر الماء في المساحات العامة، والذي يتبخر بعد ساعات
شيء ما إذن يتيح للبشر التعلم ولو بخبرات محدودة، في مقابل حاجة الروبوت إلى مراكمة معلومات هائلة، وهي ربما تكون نفس إشكالية تاي، فالقيام بضخ معلومات وسوابق لتجارب في لعبة ما داخل شريحة الروبوت لا تتساوى أبدًا مع سنوات طويلة من تحصيل الخبرة البشرية البطيئة، والتي تتداخل فيها بالطبع عوامل ثقافية ولغوية معقدة تتجاوز بالكلية حدود لغات البرمجة، بما يتيح لتركيبية العقل والإدراك البشريين تحصيل المعرفة بدون نفس الكمية من المعلومات، وهو ما يعني سهولة التوصل لذكاء معقد يهزم بطل العالم في لعبة جو، ولكن صعوبة التحول لكائن اجتماعي يُدرك المحمود والمذموم نتيجة الحاجة إلى تفاعل طويل وثقافة كاملة.
يلفت النظر هنا الفرق بين الذكاء كمجموعة من الآليات الدماغية مهما بلغ تعقيدها، ونسبة الذكاء المعروفة بالأي كيو IQ والتي تقيس معدلات “تطور” الذكاء مقارنة بالعُمر، فكما تشرح لنا صفحة تابعة لجامعة ستانفورد الأمريكية عن الذكاء الاصطناعي، فإن الأي كيو يرتبط بقوة مع مقاييس النجاح والفشل في الحياة البشرية، وبالتالي فإن الروبوت لا يمتلك أي كيو من الأساس.
ما هو السبب بالضبط الذي يجعل من التجربة البشرية البطيئة ولو بمعلومات محدودة “أعمق” معرفيًا من التجربة المضغوطة غزيرة المعلومات؟ لا نعلم على وجه اليقين، فهناك من يعزوها كما قُلنا للنمو البطيء والتفاعل المركب للبشر، وهو ما يتيح لأصحاب هذا الفكر التنبؤ بروبوتات مستقبلية أطول من حيث تعرضها للتفاعل مع البشر وبالتالي أكثر تركيبية، في حين يعزوها البعض الآخر، على غرار ناعوم تشومسكي، إلى تركيبية وفرادة كامنة في الإدراك البشري لا يمكن استنساخها، فالذكاء عند هؤلاء قابل للاستنساخ كعملية دماغية تؤدي لظهور روبوتات “أذكى” من البشر، لكن الحصول على روبوتات مطابقة تمامًا للبشر في وعيهم وطبيعة تفاعلهم مع خبراتهم واتخاذهم للقرارات يُعد مستحيلًا.
طبقًا لتشومسكي وأنصار مدرسته، والتي تهيمن حاليًا على علوم الإدراك، فإن عملية إدراك اللغة لدى البشر ليست مجرد مُدخلات وشبكة عصبية تقوم بمعالجتها لتحصل على مخرجات على غرار الكمبيوتر والروبوت، بل إن الأمر يتعلق بالبناء الداخلي للمنظومة الدماغية بالكُلية، وهو الأمر الذي يتيح للأطفال مثلًا تعلم اللغات سريعًا رُغم تفاعلهم المنقوص معها، والمقتصر على عشوائية الحياة اليومية، ومسألة إدراك الأطفال بالتحديد لا يزال فهمها بالكامل عصيًا على علماء الإدراك، مما يعني صعوبة محاكاتها وبالتالي صعوبة هندسة وبرمجة آلة تنمو ببطء من الصفر على شاكلة البشر.
اكتساب الأطفال للغة: لغز علمي وجدل فلسفي
إلى جانب كل ذلك، وبعيدًا عن الذكاء والذي يتقدم فيه الروبوت بنجاح عبر امتلاك خبرات أكثر وأسرع، يأتي سؤال عن الإبداع والابتكار، والذي لا يزال حكرًا على البشر حتى الآن، فتركيبية اللغة طبقًا لمدرسة تشومسكي وغيره من فلاسفه، هي ما يرسم الخط الفاصل بين الإنسان والحيوان وليس العقل كما اعتدنا أن نسمع في سن صغيرة، فأصناف القردة القادرة على حل أحجيات بشرية موجودة، ولو تسنى لها الحصول على إمكانيات الروبوت الدماغية لربما تهزم لي سيدول هي الأخرى، لكن أي من القردة أو الروبوتات لا يكتب شعرًا أو يرسم لوحة أو يبتكر شيئًا جديدًا خارج عن حدود المُدخلات المألوفة، وهو أمر كفيل باختراع لعبة جديدة بالكُلية كما يفعل البشر منذ آلاف السنين.
تركيبية اللغة البشرية إذن ترسم حدًا فاصلًا وفق هؤلاء بين الإنسان وغيره، وهي حُجة قوية في الحقيقة لن تتمكن الآلة من تجاوزها ما لم يبتكر العلماء لغة معقدة بنفس مستوى اللغات البشرية، وحتى حينئذ فإننا سنضطر للانتظار ورؤية كيفية “تطور” تلك اللغة، وما إن كان مستوى تعقيدها فقط هو ما يشرح فرادة الإدراك البشري، أم أن عوامل أخرى متعلقة بوجود البشر في مجتمعات وانتمائهم لثقافات عريقة لا يمكن اختزالها وضغطها في قاعدة بيانات مجردة يفسر أيضًا فرادة الإدراك البشري حتى الآن.
إلى حين يجد جديد، يمكننا أن نُطمئن علماء الذكاء الاصطناعي إلى أن عدم قدرتهم على استنساخ تجربة بشرية بحذافيرها ليس نهاية مجالهم، بل وقد يكون هدفًا عبثيًا في الحقيقة، فعبقرية “الذكاء” الاصطناعي، كاختراع من “ابتكار” البشر، هي في قيامه بمهام مستحيلة في وقت سابق وبسرعة فائقة تفتح للبشر أفاقًا جديدة في الصناعة والمواصلات والتكنولوجيا وإجراء التجارب العلمية ومعالجة المعلومات والبحث فيها، وبالتبعية فإن انتصار ألفاجو على سيدول، والذي استُقبِل بحفاوة، لا يمحوه أبدًا فشل تجربة تاي كما حاول بعض المتشائمين من الذكاء الاصطناعي أن يجادلوا، ولكن دليلًا على أن أفاق الذكاء الاصطناعي لن تتضمن في الوقت الحاضر فك الشفرة التفاعل البشري، بل وأنها لا تحتاج لذلك أصلًا لإثبات ذكائها لأن التفاعل البشري مناطه ليس الذكاء ولكن فرادة التجربة والإدراك البشريين.
أما البشر فإن روبوتات مثل ألفاجو ستكون مفيدة لتُشعرهم بالتواضع نوعًا ما، في نفس الوقت الذي يمكن أن يطمأنوا فيه إلى وجودهم الفريد في الكون حتى الآن، والذي يحتوى على إبداع لن تتواجد منه نُسَخ اصطناعية، وهو إبداع بشري يشكل للمفارقة القاعدة الوجودية الرئيسية لمجال الذكاء الاصطناعي.