أمام حطام المنازل المدمرة جراء العمليات القتالية في تكريت أو الرمادي أو غيرها من المناطق المحررة من تنظيم داعش تقف اليوم آلاف العوائل متسائلة عن مصيرها؟ متى ستعود؟ وكيف؟ وأين؟
أسئلة لا يوجد على المدى القريب وربما المتوسط من يملك إجابة لها، لا الحكومة المحلية التي تلهث وراء مستحقاتها من ميزانية تنمية الأقاليم التي لم يصلها منها إلا الفتات، ولا الحكومة المركزية التي بالكاد تدفع رواتب موظفيها وربما تعلن في أي لحظة إفلاسها، ولا الدول المجاورة التي بات لديها ما يشغلها ويستنزف خزانتها من عمليات قتالية تخوضها ضمن حدودها أو خارجها، أو دعم أطراف متصارعة في دول أخرى، إلى جانب عدم رغبتها بمساعدة شعب علاقاتها بحكومته غير ودية، ولا المجتمع الدولي أو الدول المانحة التي تبحث ابتداءاً عن مصالحها وأجنداتها الفكرية والثقافية والسياسية، فضلا عن انشغالها بمناطق وبلدان أكثر أهمية في سياساتها الخارجية.
فما هي الحلول والسيناريوهات الممكنة؟
عندما يكون السؤال يخص كل عائلة من العوائل التي دمر منزلها لوحدها تبقى الإجابة غير متاحة في حدود الإمكانات المادية لهذه العوائل المنكوبة، لكن عندما يتحول السؤال إلى سؤال يخص المجتمع بأسره.. عندما يحرص كل فرد من أفراد المجتمع وكل عائلة من العوائل النازحة على عودة العوائل الأخرى كحرصها على عودتها هي.. عندئذ يمكن الحديث عن حلول، والبدء بخطوات فعلية لإعادة الجميع وتأمين المسكن والمعيشة لهم عبر المبادرات المجتمعية الطوعية التي تستمد وجودها وقوتها من قوة اللحمة الاجتماعية ومستوى التضامن والتعاون التي تبديها المجتمعات في أوقات المحن والشدائد لمواجهة التحديات، هذه اللحمة وهذا التضامن يمثل رأس المال الاجتماعي الذي من خلاله يمكن تأمين الحاجات الأساسية للجميع، فمثلا يتم إيواء العوائل التي دمرت منازلها من قبل تلك العوائل التي سلمت منازلها من الدمار، ويتم إعمار المنازل المدمرة من خلال العمل الطوعي في إعادة بناء، والتبرع بمواد البناء من قبل ميسوري الحال، وشيئا فشيئا يتم تخفيف المعناة وتذليل المصاعب وتجاوز القيود المادية التي تطلبها عمليات إعادة الإعمار وعودة النازحين إلى ديارهم.
إن تبعات تأخير عودة الأهالي إلى المناطق المحررة كبيرة ويتحملها الجميع بمن فيهم الذين عادوا ممن لم تدمر منازلهم، فبدون عودة الغالبية العظمى من أهالي المناطق المحررة تبقى الحياة متعثرة، ويواجه الناس اختناقات في الكثير من المجالات الانتاجية والخدمية، فالعائدون بحاجة لوجود الأطباء والصيادلة والحرفيين بمختلف مجالاتهم، فضلا عن حاجتهم لموظفي الخدمة العامة في مختلف مفاصل الحياة العامة، وإلا فإن وضعهم المعاشي سيكون صعبا للغاية، وتكاليف المعيشة ستكون مرتفعة، كما أن إعادة الإعمار حتى لو توفرت لها الموارد المالية يتعذر الشروع بها في ظل قصور الموارد البشرية الناجم عن تأخر عودة النازحين بسبب دمار بيوتهم ومناطقهم. والأهم من ذلك هو حالة الإحباط العام التي ستخيم على هذه المناطق والتي ستؤدي إلى تجاذبات وخلافات وتعميق الانقسامات السياسية والاجتماعية، وسوء الأوضاع الأمنية وقلة الدعم الجماهيري للإدارة الحكومية، وتردي الواقع الخدمي، وسيادة عدم الاستقرار ما يضيف مزيدا من الأعباء على الأهالي العائدين ويضعف رغبة النازحين في العودة إلى مناطقهم.
في المقابل حين يتلاحم الأهالي ويتضامنون مع بعضهم، فإنهم بذلك يعملون على رفع الروح المعنوية لمن دمرت منازلهم، ويعيدون لهم الأمل، ويعززون لديهم الرغبة بالعودة من أجل المساهمة في إعادة الإعمار والبناء وتقديم الخدمات، وهذا يدعم ويعزز جهود إعادة الإعمار وعودة الاستقرار بشكل كبير، كما يشجع الجهات والدول المانحة على تقديم الدعم المادي، إذ بإمكان دعم مادي بسيط أن يؤثر تأثيرا كبيرا، وهذا التأثير يحفز المانحين لتقديم الدعم، بل إن حالة التلاحم بحد ذاتها تجتذب الأنظار وتلفت الانتباه وتثير الحماسة لدى المنظمات الإنسانية لإنجاحها وتقديم نموذج يحتذى من قبل الشعوب التي تمر بأزمات إنسانية. والأهم من ذلك كله هو خلق حالة من الاصطفاف والانسجام الداخلي، إذ ستنصرف الجهود الجماهيرية والحكومية نحو تقديم الدعم والإسناد لجهود إعادة الإعمار وهذا سيحقق استقرارا سياسيا واجتماعيا وأمنيا، ويقلل إلى حد كبير فرص الخلافات والتجاذبات والانقسامات، إذ إن إرادة الجماهير وتلاحمهم تحرج كل من يحاول أن يثير الفتن والانقسامات داخل المجتمع لتحقيق مصالح خاصة.
إن تأثير التضامن والتلاحم في أوقات الشدائد والأزمات يمتد لأجيال، ويحقق نقلة حضارية للمجتمعات، ويعزز ثقتها بقيمها وثقافتها وتبقى حالة التلاحم قصة يرويها الأباء للأجداد يغذون بها وحدتهم وتماسكهم، ويرسخون دعائم مستقبل أمن ومستقر ومزدهر. وما الحضارة الإسلامية التي سادت العالم قرونا، وحكمت من الصين شرقا إلى الأندلس غربا، إلا وليدة حالة التلاحم والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في المدينة المنورة. وما زالت تلك الحالة إرثا ثقافيا يربي عليه ملايين المسلمين أبناءهم.
إن مستقبل المدن المحررة وعلى مدار أكثر من جيل سيقرره اليوم أبناء هذه المدن والكيفية التي سيتعاملون بها مع تحدي العودة، وكيف سيبعثون الحياة مجددا من رحم الدمار والموت المخيم على مناطقهم. ورغم صعوبة التحدي إلا أن تاريخ عشائر الأنبار وأبناء صلاح الدين وغيرهم من أبناء المدن العراقية، وقيمهم الأخلاقية وثقافتهم الاجتماعية تنبئ بإمكانية عالية على التلاحم والتعاون والتضامن والكرم مع الغريب فضلا عن القريب، بل إن الكثير منهم أثبتوا هذه القدرة فعليا عبر إيوائهم للنازحين من اخوانهم وأقاربهم طيلة الفترة الماضية وما زالوا يؤونهم حتى اليوم. يبقى أن يبادر من بيده زمام المبادرة، فينسق ويرتب مع الشيوخ والوجهاء وأهل الرأي ليبدأ الناس بالعودة إلى الديار متلاحمين متراصين ليبنوا ويعمروا ويرسموا مستقبل نهضة واعدة.