من الغريب أن النظام الذي كان يعاقب بعض القضاة بإقصائهم نهائيًا عن العمل في هذا السلك بحجة الاشتغال بالسياسية ومناصرة فصيل سياسي ما، هو ذاته الذي كان يحابي قضاة آخرين ويقلدهم مناصب قضائية أكبر بمناصرتهم فصيل سياسي ما، بل وتحريضهم ضد فريق سياسي آخر حتى وصل الأمر للمطالبة بالقتل، لكن اختلاف الفصيل السياسي الذي يناصره كل قاضٍ هو الفيصل في موقف النظام منه بالعزل أو الترقية فتارةً يجد ذلك جريمة، وتارةً أخرى يجده وطنية.
على رأس هؤلاء القضاء، “أحمد الزند” الذي تقلد أعلى المناصب القضائية، حتى أنه عُين وزيرًا للعدل، ليسيطر على أعلى الهرم القضائي في مصر بتاريخ 20 مايو2015 وهو على مشارف السبيعين من عمره، ولا تخفى تصريحات الزند العنصرية على أحد، ففي يناير الماضي دعى الرجل إلى قتل مئات الآلاف من جماعة الإخوان المسلمين وأنصارهم ومحبيهم، وقال إنه لن يهدأ له بال شخصيًا ولن تنطفىء ناره حتى يتم الانتقام من الإخوان ثأرًا لمن سقط من الجيش والشرطة، وذلك بقتل 10 آلاف من الإخوان مقابل كل فرد سقط من القوات المسلحة.
لم يرى النظام أن تلك التصريحات التي أدلى بها على فضائية مصرية تحريضية كما لم يراها مناصرة لفصيل سياسي ضد آخر أو اشتغالًا بالسياسة أو شيء من هذا القبيل ليعاقب الرجل عليها، خاصةً وأنها خرجت من رجل في مثل منصبه يمثل صورة للعدل المفروض تنفيذه داخل المحاكم والنيابات، له صلاحيات تمكنه من التأثير المباشر على سير إجراءات التقاضي في تلك الساحات، تتمثل في صلاحيات اختيار القضاة وتوزيعهم بين الدوائر الجغرافية وتحديد القضايا التي ينظروها، وكذلك اتخاذ إجراءات تأديبية بحق القضاة، أو إحالتهم لهيئة التفتيش، أو حتى انتداب قضاة للعمل بشكل مؤقت في المناصب الوزارية بالحكومة.
وبالطبع، لم تكن تصريحاته تلك الأولى أو الأخيرة التحريضية ضد الإخوان المسلمين خصوصًا والمعارضين لنظام السيسي بشكلٍ عام، التي لم تُعتبر قد اشتغالًا بالسياسة بنظر النظام الذي عزل عشرات القضاة الذين لم يبدوا تأيديهم له، ففي سبتمبر 2014 وصف الزند الإخوان المسلمين بـ”الأشر من إبليس”، فيما وصف بعض الحركات الشبابية المعارضة بأنها لا تملك دين أو وطنية أو إنسانية وأباح قتلهم، وطلب من السيسي الاستماع لنصائحه، ليتم بعدها بأشهر قليلة تقليده منصبه الأخير.
وفي مداخلة هاتفية مع برنامج لتوفيق عكاشة وصفه في بدايتها بالبطل العظيم، قال: “نحن هنا على أرض هذا الوطن أسياد، وغيرنا هم العبيد، اللي هيحرق صورة قاضي هيتحرق قلبه وذاكرته وخياله من على أرض مصر”، وأيد فكرة التوريث في الوظائف القضائية والتي اختار لها اسمًا آخر وهو “الزحف المقدس”، حيث أمد أنه يفضل تولية المناصب القضائية لأبناء القضاة حتى لو تخرجوا بتقديرات متواضعة على أبناء بقية الشعب وإن كانوا متفوقين، وبالرغم من حماسته لهذا الزحف المقدس عارض بشدة إضراب موظفي المحاكم الذي طالبوا بتعيين أبنائهم بالمحاكم، كأن توريث المناصب هذا حكرًا على فئة دون غيرها.
استمر هذا حتى آخر أيامه بمنصبه كوزيرًا للعدل، حيث انقضت سلطته عقب تصريحات أدلى بها في قناة صدى البلد اعترف فيها بتورط النظام المصري في حادث مقتل الشاب الإيطالي “جوليو ريجيني” تحت وطأة التعذيب، كما اعترف بممارسة الجهات الأمنية المصرية لجريمة الاختفاء القسري بعلمٍ من الأجهزة القضائية، واعتبرها لصالح العدالة، متناسيًا تجريم القانون لها ودوره كجهة قضائية في الكشف عنها لا التستر عليها، كما أساء للرسول محمد صلى الله عليه وسلم بقوله أنه لا يهتم لسجن صحفيين، فلو كان الرسول نفسه لسجنه، لتطلب من الحكومة تقديم الاستقاله، ثم تقوم بإقالته فعليًا بعد رفضه تقديمها، في 14 مارس 2015، وبررت الأمر بأنه تطاول على النبي محمد، إلا أن متابعون أكدوا أن الأمر ليس هكذا وإنما لاعترافه بجرائم النظام.
الزند الذي كان من أشد معارضي ثورة يناير والتيار الإسلامي بشكلٍ عام وجماعة الإخوان المسلمين بشكلٍ خاص، وكذلك الرئيس السابق محمد مرسي والإعلان الدستوري الذي أصدره الأخير إبان فترة حكمه، المؤيد بقوة للرئيس المخلوع حسني مبارك، ولتظاهرات 30 يونيو 2013، المطالب بإقالة النائب العام طلعت عبدالله الذي عينه مرسي، لم يحاسب قط على أيٍ من مواقفه وقراراته التي لم يأخذها النظام على أنها اشتغالًا بالسياسة تلك التهمة المغلفة لمن لا يرغب باستمراره في السلك القضائي، كما أن الغريب في الأمر أن الزند نفسه كان يعاقب بعض القضاة بالتهمة التي طالما مارسها على الملأ، ففي سبتمبر 2013 قرر فصل 75 قاضيًا من قضاة تيار الاستقلال من عضوية الجمعية العمومية للنادي، واتهمهم بالإنحياز لفصيل سياسي.
فيما تناسى النظام كل قضايا الفساد التي تورط فيها، من إهدار ملايين الجنيهات من أموال نادي القضاة- نادي اجتماعي ورابطة غير حكومية للقضاة- الذي ترأسه فترة قبل أن يصبح وزيرًا للعدل، أو بيع الأراضي المملوكة للنادي لأقاربه بأسعار زهيدة، والاستيلاء على أراضي الدولة، لتحفظ تلك القضايا دون رفع الحصانة عنه، وتناسى أيضًا مواقفة السياسية الواضحة وتحريضاته المتكررة ضد فئات بعينها، فيما كافئه النظام بتقليده المناصب العليا.
وقد أعقب الزند في منصبه رجلًا وفيًا لنظام السيسي، حيث وافق المستشار حسام عبد الرحيم البالغ من العمر 72 عامًا، الذي ترأس سابقًا مجلس القضاء الأعلى ومحكمة النقض، على إحالة عشرات المستشارين أصحاب المواقف المعارضة للنظام إلى مجالس التأديب والصلاحية قبل أن يتم عزلهم من القضاء، وأشهر تلك المذابح القضائية عزل النائب العام الأسبق طلعت عبدالله، ووقف المستشار زكريا عبد العزيز، رئيس نادي القضاة الأسبق عن العمل، كما عمل على قضيتي “قضاة من أجل مصر”، و”قضاة البيان” في إحالة القضاة المتهمين فيها للصلاحية، ورفض طعونهم، ورفع الحصانة عن عدد منهم، كما أنه وافق على تشكيل لجنة لحصر أموال الإخوان المسلمين إبان ترأسه للمجلس الأعلى للقضاء، وإن لم يكن للرجل تصريحات إعلامية مثيرة للجدل لابتعاده عن الإعلام، إلا أن القضايا التي عمل عليها تظهر نقمته على فضيل سياسي بعينه وتأيده الكبير لنظام السيسي، ولهذا كان جزاؤه أن يتولى منصب وزير العدل.
خطف المستشار ناجي شحاتة الأضواء خلال محاولة إثبات ولائه للنظام بإصدار عشرات الأحكام بالسجن المشدد والمؤبد وأحكام الإعدام ضد معارضين للنظام في قضايا مختلفة، حتى عُرف الرجل بلقب “قاضي الإعدمات”، لكثرة ما أصدره من أحكام إعدام في قضايا سياسية منفردًا، حيث أصدر أحكامًا بالإعدام في أكثر من 8 قضايا، طالت الأحكام فيها 250 شخصًا، بالإضافة إلى إصداره أحكامًا بالسجن المؤبد طالت ما يزيد عن 300 شخصًا.
كان للرجل تصرحات مثيرة أكد فيها أن المعتقلين يدّعون تعرضهم للتعذيب، رغم ما يكون باديًا عليهم من آثار ضرب وتعذيب خلال جلسات المحاكمة، كما اتهم بعض المعتقلين بالتمثيل والإدعاء خلال جلسات محاكمتهم دون محاولة للتبين من حقيقة ذلك، كما شيطن بعض المعارضين السياسيين واتهمهم بالإرهاب، منهم الإخوان المسلمين وحتى المعارضة الشيوعية والاشتراكية، كما وصف حركة 6 أبريل بـ”6 أبليس”، واعترف في تلك التصريحات التي أدلى بها في منتصف ديسمبر 2015، أنه كان ضابطًا بالقوات المسلحة، وهو ما يوضح سبب موقفه الجانح للنظام، كما أبدى سعادته بلقب “كلب العسكر”، وتحدث بشكلٍ صريح في الأحداث السياسية وتحليله للفترات القادمة، ووصف ثورة 25 يناير بثورة “25 خساير” وقام بسبها بألفاظ نابية، وعندما أثارت تلك التصريحات جدلًا أنكر إجراءه حوارًا مع صحيفة الوطن، وبعد نشرها تسجيلًا صوتيًا للحوار اتهمها بالتحريف.
ولم يكن ناجي شحاته وحده الذي ينافس على الانتقام من المعارضين بإصدار الأحكام القاسية بحقهم، فتنافس معه على إصدار أكثر الأحكام قساوة لتطال أكبر عدد من المعارضين المستشار محمد شرين فهمي الذي ترأس محكمة جنايات الجيزة، وأصدر عدد لا بأس به من أحكام الإعدام والسجن المؤبد، وكان له موقف واضح معادي ضد من يحاكمهم، كذلك المستشار معتز خفاجي الذي يعتبر عضوًا في هيئة محكمة جنايات الجيزة، الذي تقدم متهمون بقضية “غرفة عمليات رابعة” طلبًا لرده عن نظر إعادة محاكمة المتهمين في القضية، حيث أن له موقف معادي منهم كان قد أفصح به في تصريحاتٍ مع جريدة المصري اليوم، وغيرهم العشرات الذين لا يتسع سطور هذا المقال للحديث عنهم جميعهم.
وإن دل جل ما ورد في هذا المقال والجزء السابق منه فإنه يدل على أن امتلاك القضاة رأي سياسي مؤيد للنظام أمرٌ طبيعي ومسموح به، وإن حاول أحدهم الحيد مرة عن تأييد النظام أو ورطه في مشكلة ما يتم تنحيته عن المشهد نهائيًا، أما ذلك الذي يمتلك رأيًا معارضًا فحلالٌ أن ينكل به ويعتقل ويفصل من عمله ويحرم من تقاضي راتبه.