“لماذا لا يثور المصريون”؟ هذا السؤال الذي عَنوَن به علاء الأسواني كتابه ما يزال يُحيرني كثيرًا، وما زلت أبحث له عن جواب، خاصة بعد كل مُلمة تلم بالبلاد، أو تدهور يصيب الاقتصاد وزيادة في الأسعار، وارتفاع سعر الدولار أمام الجنيه، أو تبخر المشاريع الكبرى وزيادة نسبة البطالة، أو تراجع الاحتىاطي النقدي وزيادة نسبة الدَّينْ الداخلي والخارجي، أو انخفاض عائدات السياحة، أو توغل الأجهزة الأمنية في الحياة المدنية وشيوع الفساد والمحسوبية… إلخ.
هذا غيض من فيض، وقليل من كثير أصاب المصريين، والقائمة في زيادة منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013 وحتى الآن.
لماذا لا يثور المصريون؟ وقد ثاروا بالأمس القريب في الخامس والعشرين من يناير 2011 لأسباب ودواعٍ، هي نفسها اليوم ولكنها تتفاقم وتتضخم، ومع ذلك فالشعب المصري لن يثور مرة ثانية، فقد استطاعت الثورة المضادة شيطنة الثورة، حتى كفر بها الناس ورضخوا للأمر الواقع وأغلقوا أفواههم وساروا بجوار الحائط مخافة التنكيل والبطش فلا تكاد تسمع لهم همسًا، حتى وقفات بعض المهنيين كحاملي الدكتوراة وأوائل الخريجين أو الأطباء، أو بعض الإضرابات العمالية والفئوية قليلة التأثير، والتي لا تستغرق سوى ساعات وترجع أدراجها قافلة، وتستمر حركة الحياة في الدوران.
ويُرجع الأسواني السبب: “أن هناك في الشخصية المصرية ما يمكن تسميته بمركب الإذعان، ذلك الميل المتوارث للسكوت عن الحق إيثارًا للسلامة والتعايش مع الظلم وممالأة للسلطة” هذا الميل يعتبره غوستاف لوبون، نزعة عامة لدى كل فئات الجماهير، حتى وإن تجسدت بأنواع ودرجات متفاوتة، فكتب في سيكولوجية الجماهير “أنها تحترم القوة ولا تميل إلى احترام الطيبة التي تعتبرها شكلًا من أشكال الضعف وما كانت عواطفها متجهة أبدًا نحو الزعماء الرحماء والطيبي القلب، وإنما نحو المستبدين الذين سيطروا عليها بقوة وبأس، وهي لا تقيم تلك النصب التذكارية العالية إلا لهم، وإذا كانت تدعس بأقدامها الديكتاتور المخلوع فذلك لأنه قد فقد قوته ودخل بالتالي في خانة الضعفاء المحتقرين وغير المهابين” وهذه النزعة نراها واضحة لدى كثير من المصريين في أفعالهم وتصرفاتهم وحتى أقوالهم بأن مصر لا يصلح لها سوى حاكم عسكري، والعراق لا يناسبه سوى صدام حسين.
وكان مالك بن نبي قد طرح نظريته الشهيرة “القابلية للاستعمار” فقال: “كل قصة استعمار سبقتها قصة شعب قابل للاستعما”، كذلك تتضح في شعوبنا “القابلية للاستبداد” وأن “وراء قصة كل مستبد وطاغية قصة شعب قابل للاستبداد والظلم وراضٍ عن المستبد” هذه الشعوب التي طال عهدها بالاستبداد حتى ألفته، وأنا هنا أُشخص حالة عامة ولكل قاعدة شواذ، وليس معنى هذا أن الشعوب ومنها المصريين لم يكن لهم مواقف شجاعة ونضال وتضحيات، لا، بل ثار المصريون وناضلوا وقاوموا المستعمر وقدموا في سبيل ذلك الشهداء والتضحيات، ولكن دائمًا ما تتنازعنا قوتان متساويتان كما يقول الأسواني “حب الحق من جانب، ومركب الإذعان من الجانب الآخر.. فإذا انتصر حب الحق ثار المصريون وانتزعوا حقوقهم، كما حدث في كل الثورات المصرية، أما إذا تملكهم مركب الإذعان فإنهم يلوذون بالصمت ويتركون الطغاة يعيثون فيهم فسادًا”.
ومن سيكولوجية الجماهير “أنها مستعدة دائمًا للتمرد على السلطة الضعيفة، فإنها لا تحني رأسها بخنوع إلا للسلطة القوية، ونمط البطل العزيز على قلب الجماهير هو ذلك الذي يتخذ هيئة القيصر، فخيلاؤه تجذبها، وهيبته تفرض نفسها عليها، وسيفها يرهبها”، ومن يظن بأن من ثار سيثور فهو واهم لأن “الاعتقاد بهيمنة الغرائز الثورية على الجماهير يعني الجهل بنفسيتها، فعنفها وحده هو الذي يُوهمنا بخصوص هذه النقطة، فانفجارات الانتفاضة والتدمير التي تحصل من حين لحين ليست إلا ظواهر عابرة ومؤقتة، فالجماهير محكومة كثيرًا باللاوعي”.
وهذه “القابلية للاستبداد” جعلت المؤرخ المصري جمال حمدان يُلقي بمسؤولية الاستبداد كاملة على كاهل الشعب، يقول: “لقد درجنا تقليديًا على أن نبرئ ساحتنا كشعب، بمقولة (إننا شعب مغلوب على أمره مفترى عليه، وأن الفاعل المباشر هو الطغيان والمجرم الأكبر هو الاستعمار)، غير أن الحقيقة التاريخية التي تثبتها مرارًا وتكرارًا تجربة ألفي سنة مازالت مُستمرة معنا حتى اليوم، هي أن كُبرى الآفتين ليست الاستعمار الأجنبي ولكن الطغيان المحلي، ذلك أن الذي مكن للأول غالبًا، بل استدعاه واستعداه أحيانًا إنما هو الحكم المطلق الداخلي بعجزه عن حماية الوطن فعلًا أو بخيانته له علنًا ومساومته وتواطؤه مع المستعمر ليحفظ على نفسه عرشه أو مركزه – تذكر فقط الخديوي توفيق – والشعب نفسه – ولا أوهام في ذلك – هو المسؤول الأول والأخير، الأصلي والأصيل، حتمًا وبالضرورة، فإذا كان الحكم في مصر مأساة أو ملهاة، كارثة أو مهزلة، فإن سببها الشعب وحده نظريًا وعمليًا”، وهذا ما لخصه الكواكبي: “إن مبعث الاستبداد هو غفلة الأمة”.
ومن ثم فالشعب عند حمدان لا عذر له ومرفوض المنطق الانهزامي المعكوس الذي يعتذر للشعب أو عنه بأنه مغلوب على أمره لا قدرة له على الثورة، فالطغيان لا يصنعه الطاغية وإنما الشعب هو الذي يصنع الطاغية والطغيان معًا، والمثل المصري يقول: “يا فرعون من الذي فرعنك؟ قال: لم أجد من يمنعني”، والمثل الإنجليزي يقول: “القوة المطلقة مفسدة، كل سلطة فهي مفسدة “، وهكذا تتحول القضية إلى مسألة داخلية، مسألة عائلية بحتة، وبهذا يبدو الخطر الحقيقي على مصر ينبع من داخلها، هو مصر نفسها، أكثر من الآخرين أو الغرباء، هو بطش وعجز الحاكم من جانب ورد فعل الشعب أو سلبيته من الجانب الآخر، هو قضية الديكتاتورية ضد الديمقراطية.
وتأتي قابلية الاستبداد من غياب عقول الجماهير في الخيال والتفكير، وتكون كجسم فقد مناعته وأصبح كفريسة لكل فيروس أو ميكروب ينال من الجسد الواهن، وبالتالي تكون مُهيأة للتأثير العميق، “فالصورة التي يثيرها في نفوسهم شخصية ما أو حدث ما أو حادث ما لها حيوية وقوة نفس الأشياء الواقعية ذاتها”، ولذلك فإن الجوانب الساحرة والأسطورية من الأحداث هي التي تدهش الجماهير دائمًا وتؤثر عليها.
ومن أسبابها الخيال الشعبي وهو من أكبر داعمي سلطة المستبد، قال نابليون في مجلس الدولة الفرنسي: “لم أستطع إنهاء حرب الفاندي إلا بعد أن تظاهرتُ بأني كاثوليكي حقيقي، ولم أستطع الاستقرار في مصر إلا بعد أن تظاهرتُ بأني مسلم تقي، وعندما تظاهرت بأني بابوي متطرف استطعت أن أكسب ثقة الكهنة في إيطاليا، ولو أنه أتيح لي أن أحكم شعبًا من اليهود لأعدت من جديد معبد سليمان”، ولما تمكنت من الشعب قابلية الاستبداد كان المستبد عقوبة لهم ولرضاهم مصداقًا للحديث القائل “كما تكونوا يُوَلَّ عليكم” أو كما يقول المثل الفرنسي “لكل شعب الحكومة التي يستحقها” والشعب عند حمدان “لا يُعفى من اللوم، وليس له إلا أن يلوم نفسه أساسًا، فهو الجاني مثلما هو المجني عليه، الفاعل والضحية، ظالم لنفسه كما هو مظلوم بحاكمه”.
ويُرجع حمدان الأوضاع السيئة التي يتردى فيها وإليها الشعب كل يوم تكون العقاب الطبيعي المستحق لتفريطه في حق نفسه وتهاونه في الدفاع عن حريته وكرامته وعزته وسيادته، فالحاكم الرديء الطاغية إنما هو عقاب تلقائي وذاتي لشعبه الذي سمح له بأن يكون ويبقي حاكمًا، وقديمًا كان قادة التتار والمغول من عتاة السفاحين والطغاة يتوعدون ضحاياهم بقولهم عن أنفسهم إنهم لعنة الله على الأرض أرسلهم نقمة وعقابًا! أي أن خير عقاب لمصر دائمًا على ما هي فيه، هو ما هي فيه بالفعل، وكأنها بهذا أيضًا تعاقب نفسها بنفسها بانتظام.
وأخيرًا وليس آخرًا “قل لي من حاكمك أقل لك من أنت” أو “قل من الحاكم أقل لك من الشعب”.