في سياق سابق، تناولنا بالنقد والتحليل قضية من أهم القضايا التي تحرك وتوجه السياسة العربية في الوقت الراهن، وهي تلك المتعلقة بعودة تيار الدولة إلى الصعود وأخذ زمام المبادرة في مواجهة محاولات التقسيم والتفتيت.
وذكرنا في حينه، أن الدولة القومية العربية بالمعنى القانوني والجيوسياسي، تواجه العديد من تحديات البقاء، وعلى رأسها مشروع “الفوضى الهدامة” الأنجلوأمريكي، والذي استغل ظروف الفوضى التي خلفتها ردود فعل الأنظمة العربية على ثورات الشعوب العربية، منذ 2010م، والصدامات المسلحة التي قامت بين الدولة وبين جماعات عابرة للحدود، لها ولاءات فوق قومية أو فوق وطنية بمعنى الـ “national” القانوني، وليس وطنية بمعنى “patriot” القيمي.
وننطلق من هذه النقطة؛ حيث إن هذه النوعية من الجماعات، هي واحدة من أهم وأبرز الإشكاليات التي تعرفها الدولة القومية في العالم العربي، وخصوصًا في الدول ذات الطبيعة المركزية، والتي تشتد فيها قبضة الدولة المؤسسية، استغلالاً لسطوة مؤسساتها البيروقراطية والأمنية، وتوظيف حقها في ممارسة العنف المشروع لفرض القانون والنظام، وحماية المواطنين والحدود، حفظ الأمن، في حماية الأنظمة الحاكمة وشخص الحاكم تحديدًا.
محاولات للتأصيل التاريخي والفكري
من خلال مقاربة تاريخية “historical approach“؛ فإن هذه الجماعات – في الغالب – تتبع التيارات السياسية ذات الصبغة العالمية، ولها سطوتها بأيديولوجياتها المثالية، وتصوراتها الفتية للعالم، وكيف ينبغي أن يكون.
ويمكن التأكد من ذلك، من خلال الدراسات التاريخية المقارنة – كما تقدم – ففي الماضي، وفي وقت صعود الشيوعية بأحلامها وشعاراتها المثالية، كانت غالبية هذه الجماعات، ذات طابع يساري ثوري راديكالي، وفي الدول غير العربية أو الإسلامية، لا تزال هذه الجماعات تحتفظ بطابعها هذا، مثلما في أمريكا اللاتينية.
فنجد في مصر على سبيل المثال، أنه، ومنذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى الأربعينات الماضية، كانت هناك أكثر من حركة ثورية شيوعية أو يسارية تتبنى العنف، مثل “حدتو” و”مصر الفتاة”، وغيرها، مما ارتبط برابطة “الأممية الشيوعية”، أو “الكومنترن”، وهي رابطة ضمت في وقت ظهور الاتحاد السوفييتي السابق، مختلف الأحزاب الشيوعية والاشتراكية في العالم، وكانت بمثابة عامل تأثير مهم للاتحاد السوفييتي في الدول التي توجد فيها مجموعات وأحزاب يسارية.
ثم تبدل الحال تدريجيًّا في مصر وفي العالم العربي والإسلامي، مع انهيار دولة الخلافة وظهور جماعات مماثلة ولكنها ذات صبغة إسلامية، وهي تحديدًا،الإخوان المسلمون في مصر على يد الإمام حسن البنا، والجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية على يد الإمام أبي الأعلى المودودي، والحزب الإسلامي على يد القاضي تقي الدين النبهاني، وكانت الإخوان هي أول حبة في هذا العقد.
ضم هذا العقد بعد ذلك، وبسبب ظروف سياسية وأيديولوجية معينة في بلدان عدة مركزية في العالم العربي، مثل مصر وسوريا والعراق والجزائر، جماعات مالت إلى تبني المذهب الراديكالي في التعامل مع الدولة، بدأت بالجماعة الإسلامية في مصر – أيضًا – ثم القاعدة، وصولاً إلى تنظيم الدولة “داعش”.
وكان من بين أسباب ذلك، المظالم التي رافقت ممارسات الأنظمة الاستبدادية الحاكمة، وخروجها في كثير من الأحيان عن نهج الإحياء الإسلامي، وفق مفاهيم هذه الجماعات.
كانت هذه الجماعات، سُنِّية الهوية؛ حيث كان الشيعة في ذلك الوقت في مرحلة استضعاف تطلبت منهم تطبيق مبدأ التُّقَيَّة بحذافيره، إلا أنه وتحت وطأة المخاطر الوجودية التي تهددتهم في لبنان، وفي العام 1974م ظهرت “حركة المحرومين”، بدعوة من الإمام موسى الصدر، وكانت أولى الجماعات فوق الوطنية ذات الهوية الشيعية، وكانت أولى لبنات حركة أفواج المقاومة اللبنانية “أمل”، التي ظهرت على إثر اندلاع الحرب الأهلية اللبناية عام 1975م، والتي خرج من رحمها – بدورها – جناح أكثر راديكالية، وهو “حزب الله” عام 1982م عند الاجتياح الإسرائيلي الثاني للبنان.
وكان لاندلاع الثورة الإيرانية في العام 1979م، دوره الكبير في دعم وجود الجماعات الشيعية فوق الوطنية.
وكان مصدر هذه الهوية فوق الوطنية في كلا الحالتَيْن، الجماعات السُّنِّية والشيعية، هو فكرة الانتماء الإسلامي، والتي تجب كل ما عداها من هويات وانتماءات، وتلتمس طابعها “العالمي”، من عالمية الإسلام والدعوة الإسلامية.
وتكرس هذا الوضع أكثر في حالة الجماعات الشيعية، مثل “حزب الله” اللبناني، بسبب عدد من الأمور، من بينها وجود “دولة مشروع”، مثل إيران، تزعمت من خلال مرجعية القائد الأعلى أو المرشد الأعلى للثورة الإسلامية [1]، تدعم هذه الجماعات، وخروج قادة عدة لهذه الجماعات من الحوزات العلمية في كلٍّ من العراق (النجف) وإيران (حوزات قم وطهران)، وهي بمثابة مرجعيات روحية لكل الشيعة في العالم، أي أن العراق وإيران بالنسبة للمشروع الشيعي، أساس لا يمكن فصله عن صلب المشروع، وبمثابة روحه العقائدية.
وفي المادة (154) من الدستور الإيراني يبدو واضحًا الدور الحقيقي لإيران في الإطار السابق؛ حيث تقول: “تَعتبر جمهورية إيران إن هدفها المقدس هو سعادة الإنسان في كل المجتمعات البشرية وترى أن الاستقلال والحرية وإقامة حكومة الحق والعدل هو حق لجميع شعوب العالم كافة لذا فإن جمهورية إيران الإسلامية ستقوم بدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أية بقعة من العالم وذلك دون أن تتدخل في الوقت نفسه في الشؤون الداخلية للشعوب الأخرى”.
ولعل هذه نقطة مركزية في التمييز بين الجماعات فوق القومية أو الوطنية في العالم العربي والإسلامي، السُّنِّية والشيعية؛ حيث لا توجد دولة مركزية أو دولة أساس للجماعات السُّنِّية، وهو ما كان أساسًا مهمًا للاختلاف بين كلا المجموعات السُّنِّية والشيعية، في العديد من المسائل الجوهرية، ومنها مسألة الموقف من الدولة القومية.
فالجماعات السُّنِّية، لا تعترف بالدولة القومية، وترى فيها أساس فاسد، وبديل “شيطاني” لدولة الخلافة، صنعه المستعمِر الغربي، ضمن مخطط تفكيك الأمة؛ حيث الدولة القومية – ببساطة – ظهرت نتاج لاتفاقية “سايكس – بيكو” الاستعمارية التي وزَّعت إرث الدولة العثمانية، آخر دول الخلافة الإسلامية، وإن تباين منطق التعامل مع الدولة بين أكثر من منهج.
المنهج الأول، هو المنهج الإصلاحي التدرُّجي الذي نادى به الإمام حسن البنا، وتبناه الإخوان المسلمون، لحين الوصول إلى مرحلتَيْ “الحكومة الإسلامية” ثم “الدولة الإسلامية”، وهما المرحلتان الرابعة والخامسة ضمن مشروع الإخوان الإصلاحي طويل المدى.
قال البنا إنه في حينه، سيمكن استرجاع دولة الخلافة في حال تطبيق المشروع الإسلامي على هذه الصورة في كل الدول العربية والإسلامية، خصوصًا المركزية الكبرى؛ حيث سوف تكون المجتمعات فيها قد هُيئت لذلك في المراحل الثلاثة الأولى للمشروع، وهي: الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والمجتمع المسلم)، وبات فيها حكومات وأنظمة إسلامية، تبدأ في بحث الوحدة الاندماجية مجددًا بين الدول الإسلامية، ومستعدة هي وشعوبها لدفع ثمن ذلك في مواجهتها مع قوى الاستعمار والاستكبار العالمي.
المنهج الثاني، هو منطق الهدم والتدمير الكامل للدولة، كما في حالة جماعات السلفية الجهادية، في ظل وجود حالة من الطلاق البائن بينها وبين أي مفهوم “غير إسلامي”، وفق تنظيرات وضعها منظرو هذه التنظيمات، ومن بينهم الدكتور أيمن الظواهري، وأبو مصعب السوري، والذي يستند تنظيم “داعش” إلى الكثير من دراساته في موقفه من عدد من الأمور المفصلية، مثل الموقف من الآخر غير المسلم، ومن المسلم الذي يوالي الحاكم، ومن الحاكم نفسه.
ومن دون الدخول في الكثير من التنظيرات، فإن الموقف يتلخص في آفة التكفير، حيث إن من خرج عن الدولة الإسلامية، يكون من الضروري تطبيق حد الردة عليه بالقتل، ويشمل الخروج عن الدولة الإسلامية، صورًا عدة من بينها التعاون مع الأنظمة الحاكمة أو محاولة الهروب من المناطق التي تم إعلان الدولة فيها أو عدم التعاون الكافي مع السلطات المحلية التابعة لها فيها، وهكذا.
الجماعات الشيعية في المقابل، لا تتعامل بهذا المنطق الإصلاحي أو المنهج الهدام؛ حيث التعامل “براجماتي”، فلو كانت الدولة وبقاؤها في مصلحة الجماعات الشيعية الموجودة فيها، فإنها تعمل على إسنادها، فيما لو حاولت الدولة والجماعات الطائفية والأحزاب السياسية الأخرى فيها عرقلة سياسات ومصالح الجماعات الشيعية – التي غالبًا ما تكون مسلحة بميليشيات -؛ فإن البديل قد يصل إلى الحرب الأهلية، وهو سلوك واضح في العراق وفي لبنان واليمن.
وكذلك في البحرين، أو هكذا حاولوا، في فبراير ومارس 2011م، ولكن ما منع الموقف من التفاقم في البحرين، أمران: الأول أن المعارضة الشيعية هناك غير مسلحة، والثاني هو الموقف السعودي؛ حيث دفعت الرياض بعناصر مدرعة من قوات “درع الجزيرة” التابعة لمجلس التعاون الخليجي، إلى البحرين لحماية النظام وحفظ الاستقرار هناك والحيلولة دون سقوط الدولة في يد حلفاء إيران.
وإيران فارقة بالفعل بين كلا المشروعين السُّنِّي والشيعي، للجماعات فوق القومية أو الوطنية؛ حيث إنها – على الأقل – عامل ضبط سياسي وتمويلي، والأهم روحي، للجماعات الشيعية، بينما لا يوجد مثل هذه الدولة المركزية في حالة الجماعات السُّنِّية، وإن حاولت تركيا لعب ذات الدور الإيراني في فترة التمدد الحالي للجماعات الشيعية في دول الربيع العربي.
ولكن وجود الفكر التكفيري الذي يَحُول دون أي احتمال التقاء بين بعض هذه الجماعات وغيرها من الجماعات الإسلامية الأخرى، منع نجاح المسعى التركي في هذا الصدد؛ حيث تركيا في الأصل “رجس” مثل أي “رجس” قومي – لو صحَّ التعبير – ظهر بموجب اتفاقية “سايكس – بيكو”، بل إن الجمهورية التركية العلمانية الحالية – بنص الدستور – هي الفيروس الأساس الذي فتك بدولة الخلافة، والنظام التركي الحالي – حتى ولو كان إسلاميًّا في جذوره – فهو في النهاية جاء وحكم ويحكم، بموجب دستور تركيا العلماني.
لكن يحق القول أن المحاولة التركية نجحت بشكل ما في حالة الفصائل السورية؛ حيث استطاعت تركيا – بسطوة الإمداد المادي والعسكري – توحيد فصائل إسلامية مسلحة عدة، في إطار “جيش الفتح”، و”الجبهة الإسلامية”، والتي ضمت حتى فرع القاعدة في سوريا، وهو “جبهة النصرة”.
ولكن الخلافات الأيديولوجية حالت دون استمرار التجربة بطبيعة الحال؛ حيث فرضت الحقائق نفسها في نهاية الأمر، وانفرط عقد الكثير من هذه الجماعات، وابتعدت عن الإطار الجامع الذي حاولت تركيا وفي بعض الأحيان السعودية، القيام به، وإن ظل للدولتَيْن نفوذهما السياسي والروحي على الكثير من هذه الجماعات.
الربيع العربي و”ظاهرة” الإمارات الجهادية
ظهر ما يُعرف في الأدبيات السياسية بـ “الإمارات الجهادية” كتطور مهم لحدثَيْن رئيسيَّيْن في العقود الثلاثة الأخيرة، الأول هو حكم حركة “طالبان” في أفغانستان، والذي كان نموذجًا مهمًّا، حاولت تنظيمات أخرى تطبيقه، كما في حالة “المحاكم الإسلامية”، و”الشباب المجاهدين” في الصومال، وكانت الصومال مقصدًا مهمًّا في مرحلة ما قبل الربيع العربي، لأنها كانت تقريبًا الدولة الوحيدة في العالم التي لا توجد فيها حكومة مركزية.
وكان للتجربة في أفغانستان، برغم سقوطها على يد القوات الأمريكية الغازية، في أكتوبر 2001م، بعد أحداث سبتمبر 2011م، ألقها وجاذبيتها، فكانت السبب في إرهاص مهم للإمارات الجهادية في وجود الدولة ذاتها، وليس أن تتولى جماعة تنتمي إلى تيار السلفية الجهادية، الحكم.
فكانت أن ظهرت حركة طالبان باكستان، التي فرضت نفوذها على مناطق شاسعة من منطقة القبائل التي تذوب فيها الحدود الجيوسياسية مع أفغانستان، ويكون للانتماء القبلي والديني، الكلمة الفصل، متحدية بذلك – إلى الآن – سيادة الدولة الباكستانية.
الحدث الثاني، وهو أحدث نسبيًّا، يتعلق بغياب أو – بمعنى أدق – سقوط الدولة فعليًّا، بالمعنى الوظيفي والمؤسسي وليس بالمعنى السياسي والقانوني، في عدد من البلدان العربية، وهي تحديدًا: ليبيا، والعراق، وسوريا، واليمن بدرجة أو بأخرى.
دفعت الفوضى التي نجمت عن دخول السلاح – من جانب الأنظمة أولاً – ساحة معركة التغيير في دول الربيع العربي، تمدد البديل، والذي كان مجموعات السلفية الجهادية المسلحة، التي لها تصور مختلف تمام الاختلاف عن الدولة – كما تقدم – ويتلخص في عدم الاعتراف بإطار الدولة القائم، بمختلف جوانبه السياسية والقانونية والمؤسسية، والعمل على هدمه وإقامة البديل.
ويتمثل بديل هذه المجموعات في إقامة إمارات إسلامية محدودة الكيانات في الغالب، تتأسس بداخلها سلطة محدودة بدورها، على محدودية خبرة قياداتها، تعمل على إدارة شؤون الجماعة البشرية الموجودة في داخلها.
والتصور المستقبلي لدى بعض هذه المجموعات، أن تتمدد هذه الظاهرة – ظاهرة الإمارات الإسلامية – وتتحد مع بعضها البعض دولة واحدة تطبق الشريعة الإسلامية – بفَهم هذه الجماعات – تعلن بعدها دولة خلافة إسلامية جديدة.
أما البعض الآخر، فإنه مع منطقه التكفيري المحض، لا يعنيه هذا الامتداد السابق للمشروع؛ حيث يقف عند ما أسسه هو من إمارات، وسيطر عليه من مناطق، كما في بعض هذه الجماعات في ليبيا، أو العمل على استنساخ نفسه في دول أخرى، كما فعل “داعش”، سواء من خلال بناء “داعش” أخرى فيها، أو الحصول على البيعة من تنظيمات مماثلة موجودة هناك، كما في حالة “الشباب المجاهدين”، في الصومال، و”بوكو حرام”، في نيجيريا وغرب أفريقيا.
وفي حقيقة الأمر، فقد حققت، في البداية، بعض هذه الجماعات، نجاحات مهمة، جعلتها نموذجًا جاذبًا كما في حالة “داعش”، فالأخيرة وبالذات قبل بدء الحرب الراهنة لكبح تمددها وخصوصًا في سوريا والعراق، تمتلك من مقومات الدولة بالمعنى العلمي الكثير، فمكونات الدولة، هي: الإقليم أو الأرض، الشعب، الحكومة، والسيادة، وهو شرط أضافه جان بودان في كتاباته عن الدولة.
والعناصر الأربعة متوافرة حاليًا في المنطقة الجغرافية التي تسيطر عليها داعش في سوريا والعراق، وخصوصًا بعد سيطرتها على حقول نفط وغاز مهمة في كلا البلدَيْن، وخط الغاز الذي يحمل النفط العراقي إلى ميناء جيهان التركي؛ حيث يتم تصديره من هناك.
ولم يتبق لها سوى الاعتراف القانوني الدولي، حتى تصبح فاعلاً دوليًّا معترفًا به.
وحتى هذا الاعتراف – وفق القانونيين – ليس شرطًا لقيام الدولة؛ لأنها قائمة على أرض الواقع، وبالتالي فهي تتحكم في موارد ومساحات من الأرض، تلزم الآخرين بالتواصل معها، وهو ما يُعرف لدى المتخصصين بـ “De facto“.
ولذلك خصص القانون الدولي جزءًا مهمًّا منه، وهو النظام القنصلي للتعامل مع مثل هذه الكيانات، التي تنشأ على أرض الواقع ولا يتم الاعتراف بها، مع ضرورة ذلك في حالات المرور البرئ، التجاري والمدني عبر أرض أو أجواء مثل هذه الكيانات.
وتقول الدكتورة داليا رشدي، مدرس العلوم السياسية بكلية الاقتصاد جامعة القاهرة، إن ظهور ما أطلقت عليه مصطلح “الدويلات الجهادية”، كان نتاجًا لمجموعة من العوامل، أولها عوامل هيكلية نابعة من طبيعة التنظيم وقوته وقدرته على التكيف، فضلاً عن السياسات والأدوات التي يستخدمها لتحقيق أهدافه [2].
ومن بين ذلك، القدرات والإمكانيات؛ حيث جمعت بين القوة المادية الخشنة والناعمة، بما تقنيات الصوت والصورة، والتطور من أساليب حرب العصابات، إلى امتلاك قدرات كانت تعد قاصرة على الجيوش النظامية فقط، بما في ذلك أسلحة غير تقليدية، كما تشير تقارير الأمم المتحدة حول حالات ثبت فيها استخدام غازات أعصاب من جانب داعش في شمال سوريا والعراق، وكذلك قدرات استخبارية عالية مكنتها من تنفيذ عمليات في قلب أوروبا، مثل باريس في نوفمبر الماضي، وبركسيل في مارس الماضي.
واستغلت في ذلك مشكلات عدة في بنية الدولة القومية العربية، مثل عدم العدالة في توزيع الثروة والسلطة، وكذلك الظلم الاجتماعي والاستبداد والفساد، وكلها أمور قادت إلى فشل الدولة وتوسيع قاعدة الطبقات الساخطة عليها، والتي شكلت مددًا مهمًّا لهذه التنظيمات، وداعمًا وظهيرًا اجتماعيًّا لها.
كما استغلت بيئة دولية حاضنةً، ضمن مخطط الفوضى الهدامة، وسعت إلى استغلال هذه الظاهرة من أجل استكمال مخططات “سايكس – بيكو” الثانية، بعد مائة عام من الأولى.
عقبات وعوامل هدم
بالرغم من ذلك؛ فإن الرؤية التي تطرحها هذه التنظيمات تصطدم بأكثر من عقبة، وعلى رأسها أن الخلافات الأيديولوجية والفقهية القائمة فيما بينه والتي تصل إلى درجة التكفير، تمنع بأي شكل من الأشكال قيام مثل هذا الشكل من الكيانات الاتحادية، كما أن تباعُد أطراف المناطق التي تسيطر عليها هذه التنظيمات والمجموعات – وهي عقبة ثانية مهمة – لا يسمح بأي شكل من أشكال التواصل الجغرافي الضروري لتحقيق هذا.
العقبة الثالثة، تتعلق بالبيئة الداخلية والإطار الإقليمي والدولي الذي يتحرك فيه هذا المشروع، فهذه الكيانات الوليدة لا يوجد اعتراف بها، بل إن المكونات الأهم للمجتمع الدولي مثل القوى الكبرى والمنظمات الإقليمية والدولية، تعد هذه التنظيمات – في الغالب – إرهابية، وليست لها أية مشروعية قانونية أو سياسية لها.
وبالتالي، فإن أي تعامل معها، في ظل كون “الدولة” هي الوحدة “الرسمية” المُعترف بها عالميًّا للتعامل بين الفاعلين العالميين، بل إن منظمات عريقة مثل الأمم المتحدة، لا تملك إرادة تفوق إرادة الدول الأعضاء فيها، ولا شخصية مستقلة لها بالمرة عن الدول العضو فيها، أو بمعنى أدق المسيطرة عليا بسبب كونها دولاً عظمى أو كبرى.
ولا يكون هناك اعتراف أو تعامل إلا في استثناءات بسيطة، تخص حالات دقيقة للغاية، يتم فيها تطبيق مبدأ الاعتراف وفق الأمر الواقع، أو الـ”De facto” وفق تعبيرات القانونيين، مثل إدخال مساعدات إلى المناطق المنكوبة في الحروب والنزاعات الداخلية والدولية.
وحتى الكيانات الأخرى المماثلة لها، تقف العقبات الأيديولوجية والسياسية والجغرافية حائلاً ضخمًا دون تحقيق التواصل بينها وبين بعضها البعض، لخلق شبكة مصالح داخلية بينها على الأقل.
وبالتالي لا يمكن لهذه الكيانات والمجموعات التي تسيطر عليها، وتحاول أن تقوم بوظائف الدولة فيها، القيام بكامل مهامها في تحقيق مصالح “رعاياها”.
وهذا أمر شديد الوضوح في سوريا والعراق؛ حيث تتقاتل هذه المجموعات مع بعضها البعض، وبالتالي؛ فإنه حتى الخروج من منطقة إلى أخرى يسيطر عليها هذا الفصيل أو ذاك، أمر غير قابل للحدوث، ومن ثَمَّ؛ يبقى المواطن محاصرًا فيها.
وفي الأخير؛ فإنه من غير المستطاع القول أن هذه الظاهرة سوف تنتهي في القريب العاجل، مهما كانت الحرب ضدها، فهي في النهاية ظاهرة تسنتد إلى بواعث موضوعية، مثل فشل الدولة ومظالمها، وغياب العدالة الاجتماعية، وهزيمة مشروع التغيير العربي، بالقوة المسلحة في بعض الأحيان، مثلما حصل في مصر وسوريا.
وفي ظل وجود هذه الجماعات والإمارات، في حواضن اجتماعية مثل حالة داعش في مناطق العرب السُّنَّة في العراق، ووجود قوى إقليمية ودولية تتصدى لها، وكونها – في الأول والأخير – جماعات تحارب بنمط حرب العصابات، وقادرة على التعامل بمرونة مع الضغوط الأمنية.
إلا أنه – في المقابل – يمكن التأكيد، أنها في طريقها إلى الانحسار أو – على الأقل – توقف تمددها، في ظل صعود تيار الدولة التقليدية في الشرق الأوسط، وأخذه زمام المبادرة، وبدء مساعي فرض حلول سياسية في مناطق الأزمات، كما في سوريا وليبيا، وهي – أي هذه الأزمات – التي كانت في الأساس، العامل الأول لتمدد هذه الجماعات، في مناطق غابت عنها الدولة وسلطتها.
[1] المسمى الرسمي لمرشد الجمهورية الإيرانية؛ حيث هو القائد الأعلى للثورة الإسلامية وليس الإيرانية، وبموجب الدستور الإيراني، مادة (107).
[2] داليا رشدي: هيكلية الخطر: قراءة في احتمالات انتشار الدويلات الجهادية وانهيارها، “السياسة الدولية”، عدد (203)، يناير 2016م، ملحق “تحولات إستراتيجية”، ص.ص36:31