حين تأسس حزب الله عام 1982 كرد فعل للغزو الإسرائيلي، أدرك مؤسسوه خطورة الالتزام قصير المدى للمجموعات المسلحة على شاكلة المقاومة الفلسطينية، والتي لا تملك رؤية إستراتيجية واضحة لمستقبلها ولا مقاتلين محترفين متفرغين لها، بقدر ما تضم هواة يخصصون جزءًا من وقتهم للمقاومة ويعتمدون على عنصر المفاجأة والعمليات التي تتم حين يُتاح إتمامها، كتفجير حافلة في تل أبيب أو خطف جندي وما إلى ذلك، ولربما كان هذا مناسبًا لطبيعة المقاومة الفلسطينية أنذاك كطرف يمس الحياة اليومية للفلسطينيين بما يكفي لجذب عدد كافٍ من المقاتلين “الهواة” يلتزمون بالمشاركة في صفوفها بين الحين الآخر.
على العكس من الفلسطينيين، لم يكن لبنان محتلًا مباشرة من قبل إسرائيل، وحين دخلته القوات الإسرائيلية فإنها لم تستوطنه على غرار فلسطين بشكل يخلق دافعًا وجوديًا للمقاومة، وبالتالي فإن الحزب الوليد كان يعي أنه بحاجة إلى إستراتيجية طويلة الأمد للتعامل مع إسرائيل كدولة عدو ومجاورة بالأساس تمتلك تفوقًا عسكريًا واضحًا، وككيان لا يمكن محاربته بتكتيك المقاومة الفلسطينية نتيجة غياب الدافع الكافي لدى اللبنانيين للقيام بذلك، وهو ما يعني ببساطة الحاجة لوجود قوات متخصصة للقتال تكرس وقتها بالكامل للحزب، ومن ثم الحاجة إلى قاعدة مالية للتنظيم تعولهم أولًا، وتقدم العون لعوائلهم ثانيًا حال استشهادهم.
قوة عسكرية أكثر نظامية إذن تلك التي أرادها حزب الله مقارنة بالمقاومة الفلسطينية في زمن الانتفاضتين، وهو ما استتبع الاتجاه نحو سياستين، أولهما امتلاك قاعدة اجتماعية واقتصادية مماثلة لتلك التي تمتلكها جماعة الإخوان المسلمين في بلدان شتى بتقديم الخدمات، نظرًا لاستحالة تواجد قوة عسكرية منظمة نسبيًا بهذا الحجم في لبنان دون ظهير شعبي، وثانيًا الاتجاه نحو بلد إقليمي ثقيل يقدم الدعم المالي والتدريبي اللازم لتشكيل تلك القوة المنظمة، والبلد الوحيد والمنطقي أنذاك كان إيران بالطبع، لا سيما بعد سنوات قليلة من ثورتها الإسلامية والتي جذبت أتباعًا عديدين بين الشيعة اللبنانيين.
حزب الله وعلاقاته المتغيرة بسوريا وإيران
اتجه حزب الله نحو إيران بالفعل، والتي أرسلت خمسة آلاف من صفوف الحرس الثوري الإيراني لبناء معسكرات تدريبية بالتنسيق مع سوريا، وتبعته بدعم مالي سنوي عبر مؤسسة الإمام الخميني للدعم بشكل أساسي، وهو دعم إيراني يصل اليوم إلى حوالي 140 مليون دولار دشن بها الحزب مؤسسات “المقاومة” بما فيها الرعاية الصحية والمدارس والورش المخصصة لتوظيف أبناء الشهداء ليتمكنوا من إيجاد مصدر رزق بديل وتقديم منح للدراسات العليا، كما دفع الحزب 70% من نفقات علاج المدنيين اللبنانيين المصابين جراء الحرب مع إسرائيل في تلك الفترة خوفًا من ظهور ردة فعل شعبية لبنانية ضده باعتبار ما يقوم به مغامرة على حساب اللبنانيين، وفي نفس السياق أسس مبادرة جهاد البناء لإعادة بناء البيوت المهدمة في الثمانينيات، والتي بنت ستة عشر ألف منزل حتى العام 2006، وأخيرًا تبلورت قدرات الحزب الإدارية مع نهاية الثمانينيات ليتمكن من توظيف 30 جرارًا أرسلتهم إيران كهدية في تحسين أحوال الريف بجنوب لبنان، ثم تنظيم خدمة جمع القمامة بالضاحية الجنوبية ببيروت لأول مرة منذ بداية الحرب الأهلية عام 1975.
بينما كان الحزب صغيرًا ومعتمدًا بالكُلية على الدعم الإيراني، لم يكن غريبًا أن نرى قدرة الإيرانيين على توجيهه لتحقيق بعض سياساتهم في لبنان، كما حدث في أكتوبر 1983 حين دبر الحزب هجمات انتحارية ضد الأمريكيين والفرنسيين التابعين للقوات متعددة الجنسيات بأوامر قيادات الحرس الثوري التي تقوم بتدريبه قواته، وأيضًا أثناء أزمة اختطاف رئيس الجامعة الأمريكية ببيروت، والتي أتت كرد فعل على اختفاء عاملين بالسفارة الإيرانية في إحدى الأحياء اللبنانية المسيحية، وهو توجيه لم يعجب الكثيرين في الحقيقة داخل حزب الله، فقد رأت البعض من القيادات بأن ضلوعه في الاختطافات عامة هي سياسة ستؤثر سلبًا على المقاومة، بل إن نصر الله، الأمين العام الثالث أنذاك، اعتبرها عبئًا على الحزب.
مدرسة تابعة لحزب الله في جنوب لبنان
تكررت تلك الاختلافات في صفوف التحالف القائم بين تنظيم شيعي لبناني يشكل فعليًا شبه دولة قائمة بذاتها، وبين دولة غير عربية ولو كانت إسلامية على بعد آلاف الكيلومترات ودولة عربية أخرى هي سورية العلمانية كما يفترض، لا سيما أن السياسة الدولية حتمت في أحيان كثيرين على الدولتين الأخيرتين دفع حزب الله نحو موائمات وسياسات لم يكن يرغب بها بالضرورة ولكنه اضطر لها نتيجة اعتماده على هذين الطرفين، وقد كانت تلك الخلافات سببًا في إحداث توتر شديد بين حزب الله والنظام السوري عام 1986 بعد دخول الجيش السوري لمواقع سيطرة حزب الله في بيروت، ثم بعد محاولة الأخير اغتيال قائد الاستخبارات السورية في لبنان عام 1987، والتي رد عليها الجيش السوري بإعدام 27 مقاتلًا لحزب الله تحولت جنازتهم إلى تظاهرة حضرها الآلاف وأطلقوا العنان فيها لهتافهم “الموت لسوريا.”
حاول الرئيس الإيراني أنذاك هاشمي رفسنجاني الضغط على حزب الله لتخفيف حدة خطابه، لكن التوتر عاد مجددًا حين وقع الخلاف بين حزب الله وحركة الأمل الأقرب لسوريا، لتشهد لبنان حربًا أهلية شيعية بين الحركة الأكثر علمانية وعددًا بدعم دمشق، والحركة الأكثر إسلامية وتنظيمًا بدعم طهران، وهي حرب لم تدم طويلًا نتيجة مصالح الدولتين معًا، لتنتهي بضغط إيران على حزب الله لقبول وقف إطلاق النار.
تغيّرت الأحوال بالطبع بعد هدوء الأجواء في لبنان ونهاية الحرب الأهلية، ثم وصول خاتمي لرئاسة إيران، وهي فترة تسنى فيها لحزب الله التركيز على نشاطاته الاجتماعية ودوره السياسي داخل الساحة اللبنانية والبرلمان والحكومات المحلية، إذ ازدادت قوته وخبرته بتسيير شبه دولته الخاصة بجنوب لبنان، كما ازدادت نشاطاته الاقتصادية داخل وخارج لبنان، والتي تعطيه دخلًا اقتصاديًا لا نعرف حجمه بالضبط، ولكنه لا يجعله معتمدًا بالكلية كما كان في الثمانينيات على الدعم الإيراني، وإن ظلت علاقته الإستراتيجية بإيران قائمة إلا أنها لا تستطيع اليوم على الأرجح تحريكه بسهولة لتنفيذ سياساتها كما كانت سابقًا وفق ما كتبه دانييل بيمان الأستاذ بجامعة جورج تاون في مقال سابق بمجلة فورين أفيرز.
ماذا يريد حزب الله من سوريا إذن؟
إن لم يكن الحزب ذراعًا لإيران واستطاع تحقيق استقلالية نسبية ككيان سياسي وعسكري اقتصادي ممثل لشيعة لبنان، ما الذي دفعه للساحة السورية؟ في الحقيقة ليست هناك علاقة بدخول الحزب إلى الساحة السورية والسياسة الإيرانية بالمنطقة، باستثناء التعاون الوثيق بينهما والذي تلى التقاء مصالح كل منهما في دعم نظام الأسد بأشكال مختلفة، وإن كنا نعلم الأسباب الإيرانية من الرغبة في الإبقاء على النفوذ الإيراني الممتد من جنوب العراق لجنوب لبنان، سيكون من المهم إلقاء نظرة على الأسباب الخاصة بحزب الله لدخوله تلك الحرب.
يُدرك حزب الله كما يُدرك الجميع أنه لا يمكن الفصل بين ما يجري في لبنان وسوريا، وهي حقيقة جغرافية وتاريخية، وأن الواقع على الأرض الآن تشكله الحقائق العسكرية والسياسية المتجاوزة لمنظومة الدولتين كما وضعها الاستعمار أكثر من أي وقت مضى، وحزب الله ببساطة هو كيان سياسي وعسكري طبيعي ممثل للمجتمع الشيعي اللبناني كما عرفناه على مدار قرون، وأهدافه بالتبعية في ظل المنظومة الحالية هي توسيع هامش حركته بشكل يتيح له تجاوز الدولة اللبنانية، والشرعية الرئيسية في تحركاته تلك هي أنه الطرف الوحيد في لبنان إن لم يكن في الشام كله، الأقدر على مواجهة إسرائيل.
محمد رعد، رئيس الكتلة البرلمانية لحزب الله مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف
تباعًا، وبينما انزلقت سوريا للحرب، قرر الحزب الدخول بثقله كله وبآلاف المقاتلين، والأهداف من تلك العملية متعددة، أبرزها استثمار القوة العسكرية بما يكفي في قلب نظام الأسد نفسه بشكل يجعل لحزب الله اليد العُليا في علاقته بالأسد، وهي مفارقة لأن ذلك يعني ببساطة أن قرار الحزب دخول سوريا لصالح الأسد كان لسببين متناقضين، أولهما الحفاظ على محور النفوذ الإيراني الذي لا يزال مهمًا بالنسبة له بما فيه نظام الأسد، وهو بذلك يحمي حليفه الإستراتيجي الأبرز، لا يسير وفق أوامر “سادته في طهران” كما يصور البعض، أما الثاني فهو رفع سقف تحركاته في المنطقة بشكل يعطيه كلاعب لبناني يدًا رئيسية في الساحة السورية، ويغلق الباب بالتبعية مستقبلًا أمام قدرة نظام الأسد على الضغط عليه أو الاصطدام معه مثلما حدث في الثمانينيات، علاوة على منحه مساحة أكبر للحصول على أنواع من الأسلحة من نظام الأسد الضعيف الآن لم يكن ليحصل عليها سابقًا، مثل الصواريخ الروسية بعيدة المدى، حيث نشرت فورين بوليسي تقاريرًا تفيد بامتلاك الحزب 12 صاروخًا من صواريخ ياخونت المضادة للسفن عبر النظام السوري.
بخصوص الحزب نفسه فإن الدخول للساحة السورية يُحدث تحولات هائلة في إستراتيجيته كلاعب إقليمي وإن لم يكن دولة بالمعنى الكلاسيكي، فقد استمر الحزب قوة عسكرية دفاعية بالأساس مهتمة بأساليب حروب العصابات وتعزيز الترسانة العسكرية التي يمتلكها في مواجهة إسرائيل بجيشها النظامي، أما بدخوله سوريا فإن الحزب يكتسب ولا يزال خبرات الحرب الهجومية أولًا، ويتيح لنفسه الاقتراب أكثر من عقليات الجيوش النظامية على غرار نظام الأسد في وجه انتفاضة شعبية وقوات غير نظامية على الناحية المواجهِة له بشكل يوسع من أفقه عسكريًا ويعطيه خبرات غير مسبوقة، وثالثًا فإن احتكاكه بإيران وأساليبها العسكرية النظامية وغير النظامية، خارج إطار التدريبات التقليدية التي يتلقاها، يعزز مرة أخرى من خبراته على الأرض إذا ما واجه إسرائيل مجددًا في المستقبل، أو واجه قوى غير نظامية داخل لبنان نفسه في أي وقت.
مواجهة القوى “السُنية” في سوريا بكافة أشكالها أيضًا فتح للحزب ولأول مرة مساحة للبحث عن حلفاء جدد بعيدًا عن إيران، والتي ربما يُحدث الاتفاق النووي مع الغرب تغييرًا في سياساتها يتيح لها مجددًا الضغط على حزب الله من أجل تفاهماتها الإقليمية، الأمر الذي لا يريده حزب الله، والحليف الجديد الذي انفتح عليه الحزب بقوة هو روسيا، والتي تشكل ربما المكسب الأهم من تدخل حزب الله في سوريا، فالقتال إلى جانب الروس بعد تدخلهم العام الماضي، وهم واحدة من أكبر ثلاث قوى عسكرية عالميًا، هو مكسب لا يقدر بثمن بالنسبة لتنظيم مسلح، لا سيما وأن كفاءة الحزب مقارنة بضعف قوات الأسد النظامية دفع الروس للميل ناحية التنسيق المباشر معه والاعتماد عليه أكثر وفق مصدر لم يفصح عن نفسه، ليشكلا بالفعل غرفتي عمليات في اللاذقية ودمشق تتيح لكوادر الحزب الجلوس مباشرة مع خبراء روسيا العسكريين، والحصول على خبراتهم في الشيشان وأوكرانيا وغير ذلك، ومتابعة استخدامهم للأنظمة الصاروخية التي جلبوها معهم، بل وحتى الاستفادة من الحصول على نُسَخ أحدث من معدات بسيطة كنظارات الرؤية الليلية.
كل تلك الخبرات ستجعل من قوة حزب الله أكثر تنظيمًا حتى مما كانت سابقًا، وأقدر على تحقيق أهدافها العسكرية مستقبلًا، وهي أهداف لا تتضمن فقط هزيمة إسرائيل، بل وربما التوغل لبضعة مئات من الأمتار داخل حدودها الشمالية كما قال نصر الله في أي حرب مقبلة، وهو أمر ليس بعيد المنال بالنظر للخبرات العسكرية التي حصل عليها من سوريا، بالإضافة إلى تمكين الحزب من مواجهة أية قوى عسكرية سنية غير نظامية تحاول تقويض موقعة في لبنان أو على حدوده، فإستراتيجية الحزب الآن لم تعد مجرد الحفاظ على موقعه كأكبر قوة ممثلة لشيعة لبنان ككيان اجتماعي وسياسي تاريخي بالشام، ولكن حماية هيمنته العسكرية في لبنان من أية منافسة “سُنية،” والسبب الرئيسي هو أن تبلور أية مقاومة سنية في لبنان ضد إسرائيل، كما فعل الفلسطينيون سابقًا، تُفقد حزب الله موقعه الفريد كقوة مقاومة وحيدة في لبنان، لا سيما أنها ستحظى بدعم وتعاطف أوسع نتيجة المحيط السني الذي يتواجد فيه حزب الله، وهو ربما ما يفسر قيامه، كما أشارت تقارير سابقة، بتدشين قرى شيعية بجنوب سوريا، في محاولة لاحتكار الجبهة العربية الإسرائيلية الشمالية بالكامل.
إجمالًا، تبدو لنا دوافع دخول حزب الله للمعركة السورية دوافع ذاتية تمامًا في إطار أولوياته كقوة لبنانية شيعية مهتمة بتوسيع نطاق عملياتها إقليميًا، كأي دولة راغبة في توسيع نفوذها ودورها، والتدخل السوري إن كان قد أفقد حزب الله كل الدعم المعنوي الذي حصل عليه سابقًا بين السنة، فإنه منحه تواجدًا في جنوب سوريا يعطيه عُمقًا إستراتيجيًا لم يكن ليحلم به، علاوة على خبرات عسكرية وتنظيمية من التنسيق مع الروس تحوّل عقيدته العسكرية من الدفاع إلى الهجوم، وتعطيه إمكانية إضافة أسماء جديدة لقائمة أعدائه إلى جانب إسرائيل، ستكون على الأرجح تنظيمات سنية مثل داعش والنُصرة وأي فروع لهما في لبنان.