ترجمة وتحرير نون بوست
في الواجهة، يمكنك سماع أزيز السيارات السريعة، رؤية مراكز التسوق المليئة بالكماليات باهظة الثمن، وملاحظة الرافعات التي تهيمن على أفق المشهد، ولكن احفر قليلًا تحت سطح هذا المشهد الخليجي المتلألئ، وسرعان ما ستجد دولًا منهكة جرّاء انخفاض أسعار النفط، التي وصلت حاليًا إلى حوالي 40 دولارًا للبرميل.
النمو يتباطأ، البطالة آخذة بالارتفاع، وصناع القرار الخليجيون أضحوا يجرؤون على لفظ الكلمة التي كانت محرمة منذ وقت قريب: الضريبة.
النفط سلعة أساسية لدول مجلس التعاون الخليجي الست، والتي أنفقت الزيادة الكبيرة في وراداتها خلال السنوات القليلة الماضية ببذخ، والتي تتمتع، على عكس العديد من الدول الأخرى المصدرة للنفط كنيجيريا وفنزويلا، باحتياطيات نقدية أجنبية مرتفعة بالتلازم مع انخفاض مستوى الدين العام، مما سمح لها بتغطية الثغرات التي نتجت عن انخفاض أسعار النفط على المدى القصير، ولكن بالنظر إلى نمط الإنفاق السخي ضمن القطاع العام، واعتماد القطاع الخاص ضمن تلك الدول بشكل هائل على النفط للعمل، فيجب على دول الخليج اتخاذ القرار بتغيير هيكلية اقتصاداتها، لتستطيع النجاة والاستمرار في عصر انخفاض الأسعار.
تشير إحصاءات صندوق النقد الدولي بأن انخفاض أسعار النفط تسبب بخسارة ما يقارب 340 مليار دولار من الإيرادات الحكومية المتوقعة ضمن البلدان العربية المصدرة للنفط في عام 2015، ويُتوقع بأن يشهد هذا العام خسارات أسوأ، فمؤسسة موديز، وهي وكالة تصنيف عالمية، خفّضت هذا الشهر تصنيف البحرين وسلطنة عمان، ووضعت باقي دول مجلس التعاون الخليجي، السعودية والكويت والإمارات وقطر، تحت المراقبة.
“الخليج يشهد نهاية حقبة”، تقول رزان ناصر من مصرف إتش إس بي سي في دبي، وتضيف: “لقد باشرنا لتونا برؤية بدايات هذه الآثار”.
تشكّل عائدات النفط عادة أكثر من 80% من مجمل الإيرادات الحكومية لدول مجلس التعاون الخليجي، بل ارتفعت نسبة مشاركة النفط ضمن الميزانية السعودية إلى أكثر من 90% قبل الأزمة، ولكن على الجهة الأخرى، شكّلت إمارة دبي استثناء من هذا النمط العام، حيث تقتصر مشاركة النفط في إيرادات الإمارة على 5%، عقب نجاحها في جهود تنويع مواردها الاقتصادية، التي باتت تعتمد بالمقام الأول على السياحة والخدمات.
استجابت الحكومات الخليجية لهذا الضغط على وارداتها بتطبيق مزيج من الإستراتيجيات المختلفة، فعولت من جهة أولى على سحب الاحتياطيات وسياسية الاقتراض، ومن جهة أخرى، فرضت تخفيضات كبيرة على الإنفاق، حيث لجأت بعض الدول في العام الماضي لفرض تعديلات كبيرة بهذا الخصوص، كالحد من المزايا الممنوحة للموظفين العموميين.
من المتوقع أن يشهد هذا العام إجراءات أشد صرامة؛ فعمان، على سبيل المثال، أخطرت جميع الشركات المملوكة للدولة بضرورة سحب الامتيازات الإضافية كالسيارات، كما سرّحت الشركات القطرية، بما فيها الجزيرة ومؤسسة قطر، بعض موظفيها، ومن خلال التعديلات التي قامت بها الكويت والإمارات وقطر، وهي الدول التي تمتاز بضآلة عدد السكان وارتفاع احتياطيات العملات الأجنبية، يمكن لها أن تستمر لمدة عقد كامل ضمن الأوضاع الحالية.
توضح هذه المخططات مدى هول الانخفاضات التي عانت منها دول الخليج خلال الأعوام من 2007 وحتى 2016، حيث يوضح المخطط اليساري تغير نسبة الناتج الإجمالي، والمخطط في الوسط يوضح ميزانية الانفاق الحكومي كنسبة من الناتج الاجمالي، أما المخطط اليميني فيوضح تغيّر أسعار النفط، وذلك ضمن السعودية (الخط الكحلي) الكويت (الخط الأزرق الغامق) الإمارات (الخط الأحمر) قطر (الخط البرتقالي) البحرين (الأزرق الفاتح) عمان (الخط الأخضر).
على الجهة المقابلة، تبدو أوضاع الدول الخليجية الثلاث الأخرى أصعب للغاية؛ فسلطنة عمان ومملكة البحرين تتمتعان باحتياطيات نقدية منخفضة نسبيًا، كما سجلت عمان عجزًا أكبر من المتوقع في ميزانتيها لعام 2015، يبلغ حوالي 16% من الناتج المحلي الإجمالي، وبحلول نهاية عام 2017 ومن المتوقع أن تصل نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في البحرين إلى 65%، ومن هذا المنطلق، فإن الدولتين بحاجة لارتفاع أسعار النفط حتى 120 دولارًا للبرميل لموازنة دفاترهما، وفضلًا عما تقدم، تعاني عمان والبحرين من مخاوف أخرى مختلفة؛ فسكان البحرين ذات الأغلبية الشيعية مستاؤون للغاية جرّاء حكمهم من قِبل نظام ملكي سني، كما وتعاني عمان من غياب في السلطة بعد أن غادر السلطان قابوس، مرة أخرى، إلى ألمانيا للعلاج من مرض سرطان محتمل.
علاوة على ما تقدم، المراقبون قلقون بشكل خاص حول المملكة العربية السعودية، والتي سيزورها باراك أوباما الشهر المقبل للقاء زعماء الخليج؛ فرغم ضخامة احتياطيات العملات الأجنبية التي تتمتع بها المملكة، والتي قُدرت بحوالي 740 مليار دولار في نهاية عام 2014، إلا أن المملكة استنزفت هذه الاحتياطيات بشكل مسرف، منفقة حوالي 115 مليار منها في عام 2015، وفضلًا عن عدد سكانها الذي يبلغ 30 مليون نسمة، وهو الأكبر ضمن دول الخليج، يتوجب على المملكة تحمل المصاريف المترفة والباذخة لأعضاء الأسرة الملكية الحاكمة.
لحسن الحظ، ساعدت التنبؤات التي تقلل من احتمالية ارتفاع أسعار النفط بطفرة سريعة على تركيز العقول لإجراء إصلاحات هيكلية، “هذا أمر جيد لمنطقة الخليج، فالفترة القادمة ستكون غنية في مجال صنع السياسات”، يقول ناصر السعيدي، الخبير الاقتصادي في دبي.
ومن هذا المنطلق، خفضت الإمارات دعم الوقود في العام الماضي، وحذت الدول الأخرى حذوها في ذلك، حيث رفعت البحرين الدعم عن بعض المواد الغذائية، كما زادت السعودية من أسعار الكهرباء والماء، وباشرت عمان بطباعة تكلفة دعم الوقود على فواتير الكهرباء المنزلية لإعداد السكان لدفعها في المستقبل.
ولكن تبعًا لتقارب الأسعار الحقيقية مع الأسعار المدعومة في هذا الوقت، أضحى مجال ادخار الأموال جرّاء التخفيضات التي تم فرضها أضعف مما كان عليه قبل بضع سنوات، خاصة في ظل ارتفاع إنفاقات الدول الخليجية، والتزامها بمشاريع بنية تحتية كبرى، كمشاريع المترو، المراكز المالية، الموانئ، والسكك الحديدية، فضلًا عن حاجة هذه الدول لإنفاق مليارات الدولارات على الأجور والمنح للسكان الذين تتزايد أعدادهم سريعًا، ناهيك عن أن الدول حديثة العهد منها نسبيًا تحتاج لإنفاق الكثير على قطاع التعليم، وأخيرًا وليس آخرًا، يلعب تورط معظم هذه الدول في حروب المنطقة المكلفة دورًا كبيرًا في صعوبة الحد من الإنفاق.
ما زاد الطين بلة هو أن التخفيضات في الإنفاق انعكست بأثر سلبي على القطاع الخاص الوليد في تلك الدول؛ فباستثناء الإمارات والبحرين، ترتبط معظم النشاطات الخاصة بقطاع النفط، حيث يقدم القطاع الخاص خدماته في فلك هذه الصناعة، كما أثرت تخفيضات الإنفاق العام على باقي القطاعات العاملة، كقطاع البناء.
النمو الاقتصادي يتباطأ في الخليج، وعدم وجود تدابير لمواجهة التقلبات الدورية يضخّم الآلام، كما تقول ناصر من مصرف إتش إس بي سي؛ فالبنوك تتبع سياسات أكثر صرامة في منح القروض في الوقت الذي تسعى فيه الحكومات الخليجية لتشجيع افتتاح المزيد من الشركات الصغيرة، كما تفيد بعض التقديرات بأن القطاع الخاص في الخليج يساهم في الناتج المحلي الإجمالي الآن بشكل أضعف مما كان عليه في العقود السابقة.
يجب على دول مجلس التعاون الخليجي أن تلجأ إلى ممارسة إجراءات أكثر وأكبر في حال أرادت تحقيق التوازن ما بين نفقاتها وإيراداتها في المستقبل؛ فتنويع الاقتصاد، الأمر الذي لطالما كان هدفًا غير محقق، يجب أن يتحقق الآن، رغم صعوبة تحقيقه في ظل الأوقات العصيبة، كما أن خطط تشجيع السياحة والخدمات اللوجستية، تبدو رائعة على الورق، على سبيل المثال، ولكنها على أرض الواقع أكثر غموضًا وتعقيدًا.
تشير التوقعات بأن منطقة الخليج ستفرض ضريبة قيمة مضافة متواضعة، حوالي 5%، بحلول عام 2018، كما رفعت عمان ضريبة الشركات من 12% إلى 15%، وتدرس غيرها من الدول فرض ضرائب على دخول العمال الوافدين، ولكن قبل كل شيء، يجب على القطاع العام أن يتوقف عن عمله بصفة “رب العمل الرئيسي” في الدولة، وهذا التحول بالذات سيكون تحولًا جذريًا ومنتجًا؛ فالمواطن الخليجي اعتاد كسب المال دون بذل الكثير من الجهد، والشركات الخاصة لا تخلق فرص عمل كافية لمواكبة عدد الشباب المتخرجين من الجامعات، كما أن القوى العاملة الوافدة الكبيرة تخلق منافسة قوية في سوق العمل.
يخشى حكام الخليج بأن يسفر خفض الإنفاق عن تغيير العقد الاجتماعي الراهن، والذي يتضمن شراء صمت الشعوب بالمال والمنح، ولكن لم يعد لدى دول الخليج من خيار، ويبدو بأن جيل القيادات الشابة، كمحمد بن سلمان في السعودية ومحمد بن زايد في الإمارات، هم أكثر استعدادًا لإجراء التغييرات الصعبة.
تمتعت دول مجلس التعاون الخليجي بسنوات رخاء ماضية مذهلة، فبنت وعززت بنيتها التحتية ووفرت بعض الأموال، ولكنها لم تتحضر لمستقبل ما بعد النفط، ويجب عليها الآن أن تلحق بالركب قبل أن يسبق السيف العذل.
المصدر: الإيكونوميست