كأي مجال آخر، يشكو غير دارسي العمارة من عدم فهمهم لأصدقائهم دارسي العمارة أحيانًا عند استخدامهم لبعض المصطلحات المعمارية، ولكن الفارق بين تلك المجالات وبين العمارة تحديدًا أن العمارة هي مجال يمس حياة كل منا بشكل قريب، كما قال أحدهم “يمكنك تجنب الأفلام، الموسيقى أو المسرح، لكن لا يمكنك أبدًا تجنب العمارة”، صدق! فالعمارة تحيط بنا، تؤثر فينا بشكل قوي، كما قال القائد الكبير تشرشل: “نحن نبني مبانينا، ثم مبانينا تبنينا”.
وقعت عيني على أحد منشورات الفيسبوك التي كتب فيها ناشرها ساخرًا أن شخصية مصر تطغي على أي صورة، فإذا حتى التقطت صورة في شارع فارغ من الناس في أوروبا ستشعر أن الصورة “نظيفة” – على حد تعبيره -، وإذا التقطت نفس الصورة بمصر فستعرف من أول وهلة أنها كانت في مصر! النقطة هنا أن تلك الملاحظة ليست لها علاقة في رأيي بمصر أو بغيرها، إنما الصواب أن لكل مدينة طبيعتها وشخصيتها المنفردة المتميزة عن غيرها، هذا ما نسميه الملمس في العمارة.
بعيدًا عن التشوه الحادث لعمارتنا المصرية منذ منتصف القرن المنصرم، فإن العمارة المستجلبة فيما قبل ذلك في عصر الخديوي إسماعيل الذي أراد بناء باريس جديدة على ضفاف النيل بعد زيارته لأوروبا، حتى تلك العمارة الأجنبية التي وُضعت جنبًا إلى جنب مع العمارة الإسلامية التقليدية فإنها تأثرت بالثقافة المصرية ولم تكن نسخة مقلدة تمام التقليد لعمارة باريس، حتى وإن كان طرازها مستوردًا من الخارج فستشعر بروح مصر بداخل تلك المباني.
كانت العمارة ولازالت مُعبرة عن ثقافة وحضارة الأرض التي تُبنى بها، ونرى بوضوح كيف يمكن للعمارة فقط أن تغير مستقبل دولة أو مدينة بأكملها إلى الأفضل أو إلى الأسوأ بالطبع، نرى مثلاً أن متحف جوجنهايم بمدينة بلباو بعد إنشائه زادت السياحة بمدينة بلباو، وعند مطالعة معالم جذب أولى المدن السياحية عالميًا وهي باريس، أن كل تلك المعالم عبارة عن عمارة! لا شك إذن أن العمارة لها دور هام في إبراز حضارة وثقافة أي مجتمع، ولسنا ببعيد عن الأهرامات، فمن كان يسمع بحضارة الفراعنة لولا وجود الأهرامات والمعابد ذات الطراز المعماري المذهل والسابق لعصره والتي بُنيت معبرةً عن حضارة أُقيمت في أوائل العصور على أرض مصر؟! وإلا فأخبرني مثلاً ماذا تسمع عن حضارة الهيتيت التركية؟ لا نسمع شيئًا ببساطة لعدم وجود آثار معمارية تدل على حضارتهم.
القاهرة رغم تصدرها لقائمة أكثر المدن كآبة في العالم، إلا أنني أرى لها سحرًا خاصًا، تلك المدينة التي تشارك شعبها أحاسيسهم، غير البعيدة عن قلوبهم ومشاعرهم، تجدها مبتسمة حين يفرحوا، غاضبة حين يغضبوا، ساهرة معهم ماداموا يقظين، لن تشعر بطعم القاهرة إلا حين مغادرتها والعيش في مدينة أخرى، بعيدًا عن أي اعتبارات سياسية، تظل القاهرة صاحبة طعم خاص لا يُنكره أحد منا، و دون أن ننكر أيضًا أن من أسرار تلك الكآبة التي نعيشها تلك الكُتل الخرسانية الضخمة التي تحيط بنا.
وبعد معرفتنا لأهمية العمارة، فإن وضع أهمية لها لا بد أن يكون من أولويات تفكيرنا، العمارة تحيط بنا، تُشكل حياتنا وتؤثر عليها بشكل كبير وواضح، أرى في بيوت النوبة مثالاً يجب أن يُحتذى به في علاقة الناس بالعمارة، تبني أو تشارك في تصميم وبناء البيت الذي ستسكنه، شيء منطقي وبسيط للغاية، أنت ستسكنه، إذن أنت تساهم في تصميمه!
بالطبع هذا قد يبدو مستحيلاً مع تلك العمارات الضخمة متعددة الطوابق التي يوجد بها تصميمًا واحدًا ستسخدمه أكثر من عشرين عائلة على سبيل المثال! تلك العائلات باختلاف طبائعهم وشخصياتهم واهتماماتهم سيضطرون إلى مشاركة تصميم واحد فقط بسبب قصور معماري مستورد من الغرب دون التفكير في تراثنا وثقافتنا واحتياجاتنا.
المعماري اللاتيني أليخاندرو الفائز بجائزة بريتزكر المعمارية الشهيرة العام السابق كان له حلاً رائعًا لتلك المشكلة، أنصح أن تتابعوا حديثه في محادثات تيد.
هنالك توجه معماري بدأ بالانتشار في السنوات الأخيرة يتجه إلى استخدام التوسع الأفقي بالعمارة بدلاً من التوسع الرأسي بعد إثبات الأخير فشله، لما لا نتجه إلى هذا الاتجاه خاصة أن تراثنا المعماري وثقافتنا يساعدان كثيرًا على هذا التوجه؟!
سُئل المعماري أحمد ميتو – رحمه الله – ذات مرة عن رأيه في العمارة التقليدية المصرية، قال: أي عمارة تقصد؟ المصرية القديمة؟ اليونانية؟ الإسلامية؟ النوبية؟ أم ماذا؟ نعم، فالطرز المعمارية تأتي مُلهمة للمعماريين والبُناة المحليين ليضيفوا إليها إبداعاتهم لتحويلها إلى منتج محلي خالص، بُني ليناسب الأرض التي وُضع بها، وهذا للأسف ما قد تفتقده بعد الطرازات المعمارية الحديثة.