شرع الله – سبحانه وتعالى – الزواج لأسباب عدة وغايات كثيرة، منها أنه سببًا في استمرارية الحياة وتواصلها عن طريق الإنجاب، وتلبية لحاجات كلا الجنسين من رغبات ملحة ومشاعر وعواطف تجيش بالقلب وتحتاج إلى من يتلقاها، والشعور بالرعاية والاحتواء لتخطي مصاعب الحياة وعواصفها، والترابط الأسري والاجتماعي الذي ينشأ بعد تلاحم المجتمع عن طريق التصاهر وتقوية أواصر المودة والمحبة بين الناس.
لذلك حضت الأديان والشرائع على عدم التكلف في الزواج لتسهيله وتيسيره على الشباب والفتيات الذين يريدون العفاف من الرذائل والفواحش التي تحوم من حولهم، وقد حثنا ديننا الحنيف على عدم المغالة في المهور إذ قال صلى الله عليه وسلم: “يُمن المرأة؛ خفة مهرها ويسر نكاحها وحسن خلقها، وشؤمها؛ غلاء مهرها وعسر نكاحها، وسوء خلقها”، وقال أيضًا: “أقلهن مهورًا أكثرهن بركة”.
ولمّا كان الزواج هو بداية حياة جديدة لكلا الزوجين، يأنس كلاهما بالآخر ويستحل لكلاهما ما حرم على أي أحد من قبل اجتماعهما، فإنه أصبح الآن شيئًا شاقًا ومتعبًا بسبب ما جد في عرف المجتمع من عادات لم يذكرها الدين ولا الشرع بشيء، فنجد أن الشاب يسافر ويعمل لسنين طوال ربما تزيد عن النصف عقد لكي يأتي فقط ببيت وجهاز، ولكن أي بيت وجهاز! بيت فيه كل شيء يخيل إليه وليس مقتصرًا فقط على الضروريات أو فوق الضروريات بمستوى، ونجد أن والد الفتاة وأخاها – إن وجد – يجدّان ويجتهدان لسنين وربما يبيعون الغالي والنفيس من ممتلكاتهم حتى يجهزونها بأفضل الأشياء وأعلاها منزلة فقط “حتى لا يأكل الناس وجوههم”.
أصبح المعيار في تجهيز الجهاز ودفع المهر نظرة المجتمع لهذا الزواج، أُفرغ من مضمونه الروحي الترابطي، وأصبح تجارة يعمل الشاب لسنوات حتى يشتري السلعة المعروضة ويكلفها الأب تكلفة جيدة حتى يبيعها بيعة جيدة، أصبح المعيار ماديًا بامتياز حتى في طريقة الاختيار؛ فالمفترض أن تكون طريقة الاختيار بالكفء والتساوي في المستوى العقلي والاجتماعي والخلقي والمالي، ولكن ما يحدث الآن في شرائح كثيرة ومتعددة في المجتمع هو أن المعيار بات ماديًا على نطاق واسع، فالشاب الذي يمتلك من الماديات الكثير ولكن الكفاءة الخلقية والعقلية عنده قليلة ونادرة تفضله قطاعات واسعة في المجتمع عن الشاب المتوسط الحال والكفء عقلًا وخلقًا.
استحدثت هذه العادات بعد أن وأدها الإسلام إبان ظهوره وتمكينه، فقد حض الإسلام على عدم المغالة في المهور والتجهيز، كي يسهل الحلال فيصبح الحرام صعبًا، ويتزوج كل شاب في مقتبل عمره بما في أيديه من موارد لا تبخس حق المرأة في النفقة، ولا تحط من مقدارها في المهر.
ولنا في زواج السيدة فاطمة – بنت رسول الله – بعلي بن أبي طالب الأسوة الحسنة في إعطاء المرأة حقها الكامل في المهر بما يوافق الشرع والتسهيل والتيسير في الجهاز حتي يكون فيه بركة ويستطيع الشاب المقبل الإتيان به؛ فقد دخل عليٌ على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يريد أن يخطب فاطمة فقعد بين يديه لكنه لا يستطيع الكلام لهيبته، فقال له: ما جاء بك؟ ألك حاجة؟ فسكت عليّ، فقال عليه الصلاة والسلام: لعلك جئت تخطب فاطمة، فقال: نعم، قال: فهل عندك من شيء تستحلها به؟ فقال: لا والله يا رسول الله، فقال: ما فعلت بالدرع التي سلحتكها؟ فقال: عندي، قال: قد زوجتك فابعث بها فإن كانت لصداق فاطمة بنت رسول الله، وكان جهازها في خميل وقربة ووسادة أدم حشوها ليف الإذخر.
وكان من المعتبر أن يكون صداق وجهاز بنت قائد المسلمين ورسولهم أعظم شيء ممكن أن يقدمه الخاطب لها، ولكنه حثٌ منه – صلى الله عليه وسلم – على التيسير في الجهاز والمهر دون تكلف ولا تفريط في أي حق من حقوق الزوجة.
لم يقتصر التكلف فقط على المهور والجهاز، فقد طال كل شيء يخص العرس، الوليمة والتي كان الدعوة إليها بمثابة الإشهار للزواج أصبحت شيئًا مبالغًا فيه لدى كثير من الناس، الإسراف قدر الإمكان “حتى لا تأكل وجوهنا الناس”، وحتى إقامة العرس نفسه، بات شرطًا في أيام الخطبة تحديد القاعة المناسبة التي سيأتي لها كلا الطرفين وأهليهما، وأي قاعة! يجب أن تكون على أعلى مستوى من التجهيز والكلفة “حتى لا تأكل وجوهنا الناس”!
ربما يظن القارئ لأول وهلة أن هذا الكلام أصبح ظاهرة في المدن فقط ولم ينتقل إلى القرى والأرياف، وهو ظنٌ مخطئ، فالقرى مجتمع متماسك مترابط إلى حد كبير، الكل يعرف بعضه، وأصبحت القاعدة “حتى لا تأكل الناس وجوهنا” تعمل بشكل كبير وواسع لاختلاط الناس أصلًا ببعضهم في القرى أكثر من المدينة، أصبحت الندية رمز في الزيجات، فالرجل يعمل العملين في يوم واحد، والثلاثة إخوة يسافرون إلى العمل لسنوات، فقط ليزوجوا أختهم، وما أدراك ما تزويج الأخت! أموال كثيرة تهدر بلا طائل تكون الندية للأقارب أو الجيران الدافع الرئيسي ورائها.
الكارثة في هذا الموضوع هو أنه بات معممًا على نطاق واسع حتى على بعض المحافظين وأصحاب المبادئ، فالأب المحافظ بات يفعل كل ما بوسعه للإتيان بأعلى مستوى للتجهيز حتى لا تحزن ابنته بين صديقاتها ويعيرونها بالبخل، وكأنها لم تجهز بأي شيء إلا اذا أتت بأفضل الأشياء وأغلاها!
ربما أصبح الزواج سلعة، عرض بأفضل حالة وشراء بسعر مناسب، وقد خلا من مضمونة، ولذلك نجد مشاكل وقضايا كثيرة تثار بعد الزواج، فالزوج قضى سنين شبابه عاملًا مجتهدًا ربما يعمل العملين في اليوم والليلة ولا ينام إلا القليل حتي يقيم عرسًا على أعلى مستوى ممكن ويجهز جهازًا ترضاه زوجته ومهرًا عاليًا حتى ترضي به، فأنّا بالسعادة بعد ذلك!
لذلك يجب أن يتدارك المجتمع هذه الظاهرة وإبعادها عن أذهانه، فالأمر جلل وخطير، فتصعيب الحلال الذي أحله الله أدعى لأن يسلك الكثير مسلكًا لا يرضاه أحد، فنجد حالات كثيرة من العنوسة بسبب أن الزواج أصبح شيئًا مرهقًا لسنوات حتى تجمع تكاليفه وحاجياته المبالغة المتعارف عليها في المجتمع بدعوي “حتى لا تأكل وجوهنا الناس” وهو مبدأ يستحيل أن تكون هناك سعادة حقيقية مستمرة بين زوجين إن سارا عليه.
قال عليه السلام: “يُمن المرأة؛ خفة مهرها ويسر نكاحها وحسن خلقها، وشؤمها؛ غلاء مهرها وعسر نكاحها وسوء خلقها”.
كثير من الناس جهلوا هذه التعاليم وحادوا عنها وتعلقوا بعادات الجاهلية من التغالي في المهور ورفض التزويج إلا إذا دفع الزوج قدرًا كبيرًا من المال يرهقه ويضايقه ويرتب على نفسه الديون كأن المرأة سلعة يساوم عليها ويتجر بها.
النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير”.
فليتق الله كل شخص في نفسه وفي أولاده وبناته وليبادر إلى تزويجهم بما تيسر، فأعظم النكاح بركة أيسره مؤنة.