“عم خليفة” واحد من مجاذيب طفولتى وحيي، كان يغيب بلا حساب ويعود بغير إخطار، ليس له مستقرّ ولا رحيل معلوم، له جلابية واحدة أظنها كانت يومًا بيضاء قبل أن تأخذ طيف الرماد الترابيّ، تتدلّى من فوق كتفيه عصا غليظة تحمل كيسان من القماش ممتلئان لأقصى طاقات استيعابهما بأشياء لم نعرفها ولم نرها، وكان في حشوة الجلابية أشياء وانتفاخات أخرى لا علم لنا بها أيضًا، كانت لحيته شعثاءً وعمامته مغبرة، ووجهه يخاصم الماء.
كان عم خليفة مرتقَب الحضور من قِبل أتباع في عائلتي وخارجها، ينسبون له الزهد، ويحيكون له الكرامات، يجلسون رهن إيماءاته، يكذبون له وبه، يدّعي واحد منهم أنه رآه في بورسعيد في ذات اللحظة التي يقسم فيها ثانٍ أنه كان يحادثه في الإسكندرية إبّان نفس التوقيت، دائمًا يسمعون كلامه الذي لا يعطيك جملًا متشكّلة المعنى وإنما كان أخلاط حكي وأشلاء عبارات وسباب متطاير وضحك غير مسبب، لكن التأول كان سابق التجهيز على يد التابعين والأشياع والمريدين، إنه لا يكلمنا نحن، إنه الآن بجسده هنا بينما يمسح جبهة مريض في دمياط، إنه ثاقب للزمن خارق للأمكنة ذو مكارم “لا تستوعبها حواسكم”.
الوحيدون الذين لم يفتنهم خليفة كنا نحن الأطفال، نتلهف لعودته ومنابذته بلقبه الأحب إلينا “خليفة ليفة وصل يا عيال”، كنا نقذفه بالحصيات، نركله عامدين بالكرة، نسبّه، نتراقص بين يديه، مطمئنين لثقل محمله وبطانة ثيابه، وحين كان الكبار – من شعبه – يعلمون، كانوا يرهبوننا بمآلات إغضاب الشيخ ولعنة سخطه، ويحكون لنا عن التاجر الذي أفلسته نظرة، والرجل الخصيب الذي أعقمته دعوة الشيخ، كانوا يحاجوننا بأن خليفة “ليس كالبشر بأمارة أنه لا يقضي حاجته مثلنا، وهو بالفعل لم يُر ذاهبًا لدورة المياه يومًا، لكننا كنا نراهن الكبار من وكلائه على أنه يقضى حاجته في بطانة ملبسه، ونأمرهم بشق الثياب والتفتيش عن خفايا الفضلات، فكانوا يغضبون ويسبون ويقطعون الجدال بالزجر والنهر.
من باب الإنصاف، لم يكن لخليفة أي علاقة بالتشيخ أو التدين، لا ينسبه مظهر ولا جوهر لا للكرامة الإنسانية ولا لكرامة ولاية الله، لا ينتسب للتخلّق الحسن، ولا التبسم ولا اللين، كان فظًّا، شتّامًا، شديد الغلو في التقطيب، يزيد قبحه فيزيده شعب الأتباع اتباعًا وامتثالًا وتسويقًا للطاعة وحكًّا للمعجزات في المواقف والاستقاءات والدعوة إلى التأسّي بلزوم أقدام الشيخ.
تجرأنا في مرة وسألنا عن سبب سب الشيخ خليفة للدين، أليس الرجل زاهدًا عابدًا قاضيًا للحاجات، لماذا يسبنا الرجل ويسبّ ديننا إن استفززناه؟ وكانت الإجابة التي لا تزال تغور في أفلاك تفكيري مرارةً وإضحاكًا حتى يومي هذا “أصلكوا مش فاهمين حاجة، هو بيسب الدين عشان تجيبوا سيرته فتاخدوا سيئات وهو ياخد من حسناتكوا”.
هكذا، ببساطة التنفّس يعتذرون ويتأولون للرجل الذي أحبوه مظنة التدين، وباعوا محبته للعامة على أنها دين، فتَبنَّوا كل مثالبه، واستَعموْا عن رداءته، واختلقوا ما ليس فيه لحدّ التصديق والتسويق، وبرروا له حتى أصبح التأول ذاته نهجًا يقود لتقرير أمر مُخرِج من الدين الذي له وبه يزعمون المحبة والاتباع والتأويل.
في ضمير الشعوب إرث تاريخ، وثقافة، وتديّن، وتفكير، واستحقاقات لكل ما سبق، لا تعدم الشعوب الباحثة تكرار فرز روافدها وانتخاب أفضل الأفكار والنظم لحياتها، بينما الشعوب المستريحة للقناعات الواحدة لا تعتني بالفرز ولا التجريب، ولا يشغل شأنها كثيرًا ولا قليلًا مراجعة خلاصات الفكر والرأي والتسيّس، إن الشعوب الأولى نادرة القطع، قليلة الفصل الأحاديّ في المسائل، متجددة النهل والحرث والاستقاء، بينما شعوبنا تقبع في قيعان الاستراحات الزمانية والمكانية، تتولّد قناعاتها بيسر وهوان وبساطة وانبساط، ثم تأخذ تضخّمًا أزليًّا بقوة التراكم والتصديق والنفخ، وتتوالد الاستقطابات لذا وبهذا، منطقيات مختلقة تكلّست حتى أخذت رسوخ الجبال في البواطن والأذهان، وما هي إلا هشاشات وأغلاط وأخلاط تصور وتأويل وأمنيات.
إن البلاد تنهض لأن البعض يرى ذلك، تنهض بمشروع مدروس أو مرتَجَل، والسياحة تنتعش ولو باختطاف طائرة، والاقتصاد يتنفس ولو أصبحت جبهة الجنيه تناطح كعب الدولار، بالمقابل يتم “التحفيل” على شخصيات مستقلة غير متمادية في الموالاة كهشام جنينة، وتصنيفه بسهولة تمهيدًا لاستحلال ما سيحلّ به أو عليه – وعلينا – وضمير الشعب المستريح يبيع بطاقات الوطنية لكثيرين من مثبتى العداوة، ويُقصى أفرادًا لا استقطاب لهم من درر الوطن، والمنطق هنا ليس مكيال المعايرة.
والتبرير في جيوب الناس، يسبق الأسماع والأفكار، والاستنباط معتزل في معتكفه حيال قدرة جبّارة على طمس الحكمة، وشراء سلعة وحيدة، مجتمعات الشيخ خليفة وشعبه لا تستبقى إلا الرأي الواحد، تسحق حكمة الأطفال الغضّة البريئة بالتبرير المحاك المغرض، لا يقولون “لعلّ” ولا يحبون سماع “ربّما” ولا يستريحون لـ “اقنعنى” ويتململون من كلمة “وارد”، تنعشهم كلمة “دائمًا” وترويهم “أبدًا” ويدافعون عن منطق التصوّر بخسران الحياة الفعلية، فترنّ في مقاهيهم ومساطبهم أيمانات “عليّ الطلاق من ديني”، والدين والتديّن حاضران بقوة، في السبّ والطلاق وضرب المُثُل، كما في تسويغ سبّ الدين عند الغلاة من شعب خليفة.
يقول سائقو الميكروباص في حكمهم التي تذيّل أدبار عرباتهم “التقدير خسّرنا كتير”، وأنا أستعير حكمتهم لفكرتي فأقول “التبرير خسّرنا كتير”.