لا يمكن للزائر أن يمر على مدينة بنزرت التونسية الجميلة، درة المتوسط، دون المرور بالمرسى القديم، هذا الميناء العتيق، مشيًا على الأقدام والترجل، فحين ترسو على جانب المرفأ، يمكنك التخلي عن سيارتك أو أي وسيلة ركوب أخرى، لتمضي قدمًا وتتنعم بسحر المنظر الخلاب الذي يتجلى في أبهى حلة زرقاء.
المرسى القديم؛ هذا الحوض الذي ينسدل من عباب المتوسط، كعروس بحر تتماوج في مشهد أخاذ وسط المدينة، على امتداد ألف متر أو يزيد، هناك حيث امتزجت زرقة البحر وجماله بالتاريخ القديم، بدايةً من وصول الفينيقيين من صيدا وصور إلى الحضارة الأندلسية، وكذلك تجسمت الحضارات العريقة التي صنعها الإنسان على مدى آلاف السنين وتركت آثاره شامخة إلى يومنا هذا على ضفاف المرفأ البحري.
المرسى العتيق
المرسى العتيق؛ هذا القلب النابض لمدينة بنزرت الشمالية، يُعد أحد أجمل الأحواض بالبحر الأبيض المتوسط بحكم موقعه الاستراتيجي الهام، يذكرنا إلى حد كبير بمدينة البندقية الإيطالية وهو أهم معلم تاريخي ومزار رئيسي للسياح الأجانب وزوار المدينة.
على أرصفة المرسى القديم، تقع المنطقة المركزية، تجمع بين المسجد الرئيسي (الجامع الكبير) وأهم الزوايا (سيدي المسطاري وسيدي أحمد التيجاني) وأجمل سبيل (عين الجرينة) والحمام الكبير وحمام الشاطئ وهو ما يضفي على المدينة طابعها المعلمي، وتحتفظ هذه المعالم الدينية ببنية تقليدية يرجع تاريخها إلى العهد الوسيط.
كما تتمركز مختلف الأنشطة التجارية والحرفية حول المرسى القديم حيث توجد مختلف الأسواق المنظمة حسب اختصاصاتها وهي: سوق الجزارين وسوق الزنايدية (صانعي الأسلحة) وسوق الحدادين وسوق النجارين وسوق العطارين وسوق الثمار والخضر.
على كلا جانبي المرسى القديم ترسو زوارق وقوارب الصيادين والبحارة، قوارب نقشت عليه أسماؤها بالبنط العريض، أسماء علم، وذلك تبركًا بها فهي مصدر رزقهم وقوت صغارهم وعائلاتهم.
وعلى متن أحد الزوارق جلس أحد الصيادين ليرقع شبكة صيد غليظة وبجانبه قدح شاي يتلذذ بترشفه من حين إلى حين ويطرب سمعه بصوت المذياع الذي تصدح منه الأغاني العتيقة، أغاني الزمن الجميل،أغاني صليحة والشيخ العفريت الذي ينشد لجارته حسنا قائلاً: “حسنا جارتي، حسنا ياللا…”.
على امتداد الأرصفة المرصعة بالحجارة الكلسية الأندلسية التي فرشت الأرض فازدانت بها، تجلب انتباه الرائي المحلات التي فتحت أبوابها لصنع الأكلات البنزرتية الشعبية والمشهورة في مدينة بنزرت سواء منها المالحة والحارة كاللبلابي والكفتاجي البنزرتي أو الحلويات التي تدغدغ أرنبة أنف المار.
المقاهي بدورها قد تربعت على أرصفة المرسى القديم ليتمتع الحرفاء بجمال المنظر إلى جانب قهوة البن اللذيذة التي امتزجت بمذاق ملوحة حوض درة المتوسط، أو رائحة الشاي الأخضر المزدان بطعم النعناع ورائحة الشيشة.
حصن القصبة
هذه المقاهي التي جمعت بين العراقة والتحضر، تعج بالحرفاء ولا تترك للمار ممرًا للعبور إلى حيث يتجلى التاريخ وطابع الحضارات التي مرت على المدينة.
يمضي المار قليلاً على رصيف المرسى العتيق ليخرج قليلاً من هرج المقاهي وصخبها، فيشد انتباهه حصنان كبيران عظيمان على طرفي الميناء وهما القصبة والقصيبة وهما من أشهر القلاع التي تحدث عنها التاريخ فقال إنهما بمثابة مراكز حراسة لمدخل الميناء العتيق والمدينة من الهجمات البحرية والغزوات في تلك الفترات الزمنية البعيدة المدى ولم تتفق الدراسات حول الأصول التاريخية لمثل هذه المعالم، وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن المرجع الحقيقي لهذين الحصنين هو إرث أغلبي وبيزنطي، وأجمعت معظم البحوث على دورها كقلاع لحماية المدخل المائي من الجهة الجنوبية والشمالية.
ولا ننسى الحصن الإسباني تلك القلعة المشرفة الأخرى على المدينة في شكل نجمة ذات خمسة أذرع.
قلعة القصبة، تعلو الضفة الشمالية للقنال المفضي إلى المرسى القديم، في شكل مستطيل منتظم بدقة، وهي مشيدة فوق قطعة أرض شبه منبسطة، وحيث يتعلق الأمر بمنشأة دفاعية، فإن سورها لا يحتوي إلا على باب واحد مكوع على واجهتها الغربية التي تربط مباشرة بينه وبين أقدم نواة لمدينة بنزرت: ألا وهي المدينة العتيقة، ويقع الربط في ساحة عمومية تدعى “رحبة الفحم” وهي إحدى ساحات بنزرت الأشد ازدحامًا والأكثر شعبية.
هذه القلعة الضخمة محصنة بثمانية أبراج، وهي عبارة عن أجزاء مربعة ومستطيلة الشكل، ويقع كل برج في زاوية من زوايا القلعة: واحد في الجدار الغربي واثنان في الجدار الشمالي وواحد في الجدار الشرقي، وهناك مسلك دائري مهيأ في أعلى السور خلف الجدران الحاجزة يسمح للحرس بالجولان على الواجهات الثلاث: الشمالية والشرقية والغربية.
تحوي القصبة الجامع الشهير جامع القصبة الذي يقع على شاطئ المرسى القديم، ويرجح أنه أول جامع وقع تشييده في بنزرت إبان دخولها الإسلام، وقد عرف المسجد العديد من التجديدات على مستوى المئذنة والوحدات المعمارية الداخلية، ولكن تظل مواد البناء القديمة المعتمدة في الأعمدة التي تعلوها تيجان كورنثية وثنية.
وقد أرجع بعض المؤرخين إعادة تأسيس الجامع إلى ملوك بني الورد الذين حكموا بنزرت مدة الأزمة الهلالية حتى فتح المهدية على يد عبد المؤمن سنة 555 للهجرة (18).
معقل القصيبة يتراءى للمشاهد في الضفة الجنوبية لقنال المرسى القديم، وهو بمثابة حصن خصص للدفاع عن الميناء القديم وقد أقامه البيزنطيون يتركب من برج ضخم مستطيل الشكل، يحتوي على قاعة كبرى للحراسة مربعة الشكل مغطاة بأربع قباب عتيدة مضلعة مستندة إلى عمود مركزي ضخم مربع المقطع، وتوجد قاعتان صغيرتان ملحقتان بالقاعة الكبرى مخصصتان لاستراحة أعوان الحراسة، وقاعتان مماثلتان تقعان في الطابق الأول، كما توجد مجموعة من الحجرات الضيقة تفتح على ساحة داخلية.
ثم إن المتمعن في تفاصيل الهندسة المعمارية وفي استعمال الأقواس ذات الأصل العربي والمواد المستخدمة وتداخل البناء، يقودنا إلى التفكير في كون تلك الحجرات قد أضافها العرب إلى البرج البيزنطي الأصلي، خلال القرن التاسع أو العاشر للميلاد، وبافتراض أن تكون الجيوش العربية قد حولت البرج إلى رباط وأضافت إليه الحجرات لإيواء الحرس أو لخزن المواد الغذائية والأسلحة.
ويمثل البرج المستدير الجزء الأمامي من الجهاز الدفاعي عن مدخل المرسى القديم، وهو مرتبط بالبرج البيزنطي المستطيل الشكل بواسطة جدار مطوق بدرب الحراسة يصل بين البرجين.
وقد حول معقل القصيبة اليوم إلى مقهى وإلى فضاءٍ للرسم والإبداع والشعر، ومن الجهة الأخرى (الخلفية) فتح أبوابه “لدار الحوت”، حيث تجد الأسماك الحية معروضة في أحواضها البحرية.
كما يقع على الطرف الشمالي للحي جامع القصبية، وجاءت تسميته اقترانًا بالحي الذي يوجد فيه، ويعود تأسيسه للعصور الوسطى (19)، ويتميز بمدخل جانبي، مِمَّا يذكرنا بجامع المهدية الفاطمي.
ومن المعلوم أن المَعْلم شيد بمواد بناء معادة الاستعمال تم جلبها من المدينة العتيقة – حيث يقع المسجد – أغلبها تعود للحصون والقلاع البيزنطية.
تسير في اطمئنان على يسارك حصن عظيم وعلى يمينك حوض نابع من قلب البحر الأبيض المتوسط، الأزرق الكبير، بسحره وجمال منظره الخلاب ويقطع صمتك صوت قارب يعبر الحوض، ماضيًا في سبيله إلى البحر الممتد في اطمئنان ومودة.