تذكروا كيف وصلنا إلى هنا. قبل ثلاثة أشهر كانت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا تتحفز لشن هجوم آخر على بلد عربي ومسلم آخر، هذه المرة كان المستهدف هو سوريا التي هشمتها الحرب. إلا أن تصويتاً غير متوقع وغير مسبوق من قبل أعضاء البرلمان البريطاني وضع حداً لمحاولات التصعيد باتجاه الحرب. وهذا الذي جرى في بريطانيا صلب مقاومة الكونغرس الأمريكي لإعطاء موافقة على الذهاب إلى الحرب. وبينما كان أوباما يناضل من أجل كسب الدعم لتوجهه بضرب سوريا استغلت روسيا الفرصة للدفع باتجاه خيار آخر هو تدمير الأسلحة الكيماوية السورية بإشراف الأمم المتحدة. تم التوصل إلى اتفاق وتم التخلي عن التهديد بشن هجوم. بعد شهرين من ذلك تمكنت إيران، حليف سوريا الأقرب، من توقيع اتفاق مع القوى الكبرى تحد بموجبه من برنامجها النووي مقابل رفع للعقوبات المفروضة عليها، وفي هذه الأثناء عادت محادثات السلام السورية لتحتل موقعها من جديد في أجندة العام الجديد.
وبذلك تكون محاولة الغرب مواجهة “محور المقاومة” الإيراني السوري قد انقلبت رأساً على عقب، وتعزز موقف روسيا دونما أدنى جهد، وبات أقرب حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، إسرائيل والسعودية، يندبون ما اعتبروه غدراً بهم ويطالبون أصدقاءهم في الكونغرس الأمريكي التدخل لتخريب الصفقة.
والحقيقة هي أن الاتفاقين ببساطة يعكسان اعترافاً بالواقع بعد اثني عشر عاماً من الحروب الفاشلة للتدخل في مختلف أنحاء الشرق الأوسط. ففي الحالة السورية، ورغم التدخل غير المعلن من قبل الدول الغربية والدول الخليجية، ها هو نظام بشار الأسد يحقق المزيد من المكاسب الميدانية بينما يتقهقر معسكر الثوار الذين ما برحوا يقعون بشكل متزايد في قبضة الجهاديين الطائفيين المرتبطين بالقاعدة.
وفيما يتعلق بإيران، فقد تعززت هذه الجمهورية الإسلامية الشيعية بقدر هائل بفضل الحرب الغربية على الإرهاب وبشكل خاص بسبب الغزو الأمريكي البريطاني للعراق. من المؤكد أن إيران تضررت كثيراً بسبب العقوبات التي فرضتها عليها الدول المتسلحة نووياً بسبب حملات الاغتيالات والتخريب التي شنتها عليها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
ولكن القيود التي ستفرض على برنامجها لتخصيب اليورانيوم بموجب الاتفاق الذي أبرم في جنيف يوم الأحد أقل بكثير وأخف بمراحل من تلك التي عرضتها إيران في عام ٢٠٠٥ حينما رفضت الولايات المتحدة رفضاً قاطعاً الاقتراح الإيراني بوقف الطرد المركزي عند مستوى خمسة آلاف، بينما، يسمح الاتفاق الآن لإيران بمستوى من الطرد المركزي قدره ستة عشر ألفاً.
الذي تغير فعلاً هو ارتفاع تكلفة المواجهة مع إيران بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، وتضاءلت بشكل متناهي مصداقية شن هجوم عسكري شامل على طهران، وبات حلفاء الغرب العرب في حالة من الاضطراب العارم وهم غارقون في حرب طائفية عبثية، وغدت إيران تمسك بيدها بمفاتيح الصراعات التي يرغب الأمريكان في حلها من فلسطين إلى أفغانستان.
سواء صمد اتفاق النووي مع إيران أم لا، فقد غدت جنيف مقياساً للواقعية في منطقة انقلبت رأساً على عقب بفعل تحالفات باتت بشكل متزايد في غاية الشذوذ. خذ على سبيل المثال ذلك التحالف الحاصل الآن بين إسرائيل، الدولة اليهودية العلمانية، والمملكة العربية السعودية، الدولة الدكتاتورية الطائفية السنية. لا يقتصر تحالفهما على العمل معاً ضد إيران، بل كانا يدعمان بقوة الهجوم على سوريا، وكلاهما قادا الانقلاب العسكري ضد الرئيس الإسلامي المنتخب في مصر.
النظام السعودي الدكتاتوري الثيوقراطي المدعوم أمريكياً ودولة الإمارات العربية المتحدة والأردن وإسرائيل كلهم الآن في تحالف وثيق مع النظام العسكري العلماني في القاهرة المنشغل حالياً بشراء السلاح من روسيا، حليفة سوريا. في هذه الأثناء تعتبر المملكة العربية السعودية وغيرها من دول الخليج الداعم الأساسي لفصائل الثورة الإسلامية والجهادية في سوريا. والحقيقة أن السلطات السعودية عرضت على جهادييها المعتقلين في سجونها أن تطلق سراحهم إذا ما وافقوا الذهاب للقتال في سوريا ولبنان مع جماعات مرتبطة بالقاعدة مثل الدولة الإسلامية في العراق والشام. في هذه الأثناء تحاول تركيا الإسلامية، التي تدعم أيضاً الثوار السوريين، الاقتراب أكثر فأكثر من إيران.
هذه الحالة من الفوضى وتقاطع التيارات إنما هو نتاج الحرب على الإرهاب والانتفاضات العربية التي نجمت عنها قبل حوالى ثلاثة أعوام تقريباً. فالحملة العسكرية التي بدأت في أفغانستان ثم انتقلت إلى العراق لتدمره والغارات التي تشنها طيارات بدون طيار ضد الجماعات الإرهابية التي أفرزتها الحروب هنا وهناك، وصل مداه الأخير من خلال محاولات اختطاف أو سحق الثورات الشعبية في أرجاء العالم العربي.
عند كل نقطة وفي كل مرحلة كانت الحرب تفشل فشلاً ذريعاً في تحقيق هدفها المعلن من مكافحة الإرهاب وكانت تترك وراءها ذيلاً من الدمار والموت والصراع الطائفي من باكستان إلى ليبيا. كما كشفت هذه الحرب عن محدودية، بدلاً من مدى، قدرة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين على فرض إرادتهم على الآخرين بقوة السلاح. ما من شك في أن الصفقات التي أبرمت هذا الخريف مع كل من إيران وسوريا إنما تعكس الهزيمة الاستراتيجية التي مني بها التحالف الغربي.
والآن، تبعث الإدارة الأمريكية إشارات مفادها أنها تريد لعب دور أكثر تواضعاً في الشرق الأوسط، مركزة على إيران وسوريا والصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بينما تصب جل اهتمامها على القوة الصاعدة للصين. وقد عبرت عن ذلك سوزان رايس، مستشارة أوباما للأمن القومي، بقولها: “لدينا مصالح وفرص في كل ذلك العالم.” وقد فسر ذلك البعض على أنه مقدمة لانسحاب أمريكي من المنطقة التي شهدت أعظم سيطرة غربية مباشرة في العالم في زمن تضاءل فيه اعتماد الولايات المتحدة على النفط القادم من الشرق الأوسط.
لعل ذلك مما يتمنى ولا يدرك، فالولايات المتحدة الأمريكية ما فتئت تعزز وجودها العسكري وتوسع من قواعدها الأرخبيلية في الخليج، إذ يبقى الشرق الأوسط منطقة في غاية الأهمية لأسواق الطاقة العالمية. إلا أن فشل الحرب على الإرهاب وضعف الولايات المتحدة الأمريكية سيدفعها على الأغلب إلى اللجوء إلى تخفيف التوتر مع إيران وتقليص تدخلاتها العسكرية في المنطقة.
من شك في أن ذلك سيكون موضع ترحيب لدى شعوب المنطقة التي تسعى إلى رسم ملامح مستقبلها بنفسها. إلا أن الحرب المشؤومة التي يقودها الغرب على الإرهاب ستستمر في مختلف أرجاء العالمين العربي والإسلامي ولكن من خلال هجمات تشنها طائرات من غير طيار ومن خلال عمليات تقوم بها قوات خاصة. أما الحملات العسكرية الشاملة جواء وبراً فيبدو أنه لم يعد ثمة شهية لها. وهذه بلا شك أخبار سارة لنا جميعاً.
مترجم من الجارديان