يعد المذهب المالكي في منطقة المغرب العربي منذ قرون خلت مذهب الدولة الرسمي في كل من موريتانيا، المغرب، ليبيا، الجزائر وتونس ويعد واضعه إمام دار الهجرة مالك بن أنس، إمام المسجد الأكبر بالمدينة المنورة في القرن 9 ميلادي و2 للهجرة.
تاريخيًا تعد الحواضر الدينية الكبرى مثل قرطبة، فاس والقيروان أكثر المدن التي اشتهرت بنبوغ فقهاء مالكيين فيها خلال القرون الأولى وبعدها، ونذكر على سبيل الذكر لا الحصر الأئمة أسد بن الفرات وسحنون بن سعيد التنوخي وابن أبي زيد القيرواني وابن عبد البر المالكي وابن رشد وغيرهم من الأسماء التي تركت بصمتها في مجال الفقه والفتوى.
ويعتبر الإمام سحنون (تونسي قيرواني) أول من أدخل المذهب المالكي إلى المغرب العربي، والإمام سحنون هو أبو سعيد عبد السلام سحنون بن سعيد بن حبيب التنوخي، أصله شامي، من حمص، ولد بمدينة القيروان سنة 160هـ وتتلمذ على أكبر علمائها.
كان رفيع القدر، عفيفًا، أبي النفس، رحل إلى المشرق طالبًا للعلم سنة 188هـ فزار مصر والشام والحجاز ثم عاد إلى القيروان سنة 191هـ وعمل على نشر المذهب المالكي ليصبح بذلك المذهب الأكثر انتشارًا في إفريقية والأندلس، تولى القضاء سنة 234 هـ/848م حتى وفاته في رجب سنة 240هـ، ودفن بالقيروان.
من أشهر مؤلفاته المدونة الكبرى التي جمع فيها مسائل الفقه على مذهب مالك بن أنس، وأصل “المدونة” أسئلة، سألها أسد بن الفرات لابن القاسم، فلما ارتحل سحنون بها عرضها على ابن القاسم، فأصلح فيها كثيرًا، وأسقط ثم رتبها سحنون وبوبها، واحتج لكثير من مسائلها بالآثار من مروياته.
سمع رحمه الله من: سفيان بن عيينة والوليد بن مسلم وعبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم ووكيع بن الجراح وأشهب وطائفة.
انتشار المذهب المالكي في المغرب
تذكر المصادر التاريخية أن عدد الأفارقة الذين رحلوا إلى الإمام مالك بن أنس – رضي الله عنه – في ذلك الوقت يربو على الثلاثين، وفي ذلك يقول الخشني: “كانت إفريقية قبل رحلة سحنون قد غمرها مذهب مالك بن أنس، لأنه رحل منها أكثر من ثلاثين رجلاً كلهم لقي مالكًا وسمع منه، و إن كان الفقه والفتيا في قليل منهم”
ويذكر القاضي عياض في مداركه أنه قبل المذهب المالكي، كان المذهب السائد في القيروان وما وراءها من المغرب، مذهب الكوفيين إلى أن دخل علي بن زياد وابن أشرس والبهلول بن راشد وبعدهم أسد بن الفرات وغيرهم بمذهب مالك فأخذ به كثير من الناس، ولم يزل يفشو إلى أن جاء سحنون فغلب في أيامه.
وقد ذهب الشيخ الشاذلي النيفر إلى القول بأن علي بن زياد هو في الحقيقة المؤسس الحقيقي للمدرسة التونسية – القيروانية – بأجلى مظاهرها التي لا تزال إلى اليوم ممتدة الفروع، ثابتة الأصول، إذ هو الذي بث في المغرب -يعني الغرب الإسلامي – بكامله المالكية، فعمت جميع أقطاره بدون استثناء، وهو وإن شاركته المدرسة المصرية، فهو الذي دل عليها، ولولاه ما قصد سحنون ابن القاسم.
وبعد عودة الذين رحلوا لطلب العلم إلى بلادهم بدأت فكرة انتشار مذاهب فقهية معينة في بلاد المغرب خاصة مذهب أبي حنيفة النعمان ومذهب مالك بن أنس وبدرجة أقل مذهب الأوزاعي.
ثم كثر أتباع الإمام مالك وانتشروا في البلاد انتشارًا واسعًا حتى استحوذ هذا المذهب على الساحة الفقهية المغربية حتى صار لا يُفتى إلا به ولا يُولى إلا من انتسب إليه؛ وبذلك تشكل واقع متميز تمكن من القضاء على المذاهب المنافسة – أو تحجيمها على الأقل – حتى إن الرحالة المغاربة كانوا يتفاجأون من تعدد المذاهب التي يرونها في رحلاتهم إلى المشرق إضافة إلى بعض التصريحات الدالة على هذه السيادة مثلما قال ابن التبان: “لو نشرت بين اثنين ما خالفت مذهب مالك” أو مثلما تعبر عنه بعض الأمثال الشعبية الشائعة: “سيدي خليل والألفية، الحكمة ثمة مخفية” دون أن ننسى تأثر القوانين الحالية بالمذهب المالكي.
ومما ساعد على نمو هذه العلاقة بين المغاربة والمذهب المالكي تفسير العلماء لحديث النبي – صلى الله عليه وسلم – “يُوشِكُ أَن يَضرِبَ النَاسُ أَكبَادَ الإِبِلِ يَطلُبُونَ العِلمَ فَلاَ يَجِدُونَ أَحَدًا أَعلَمَ مِن عَالِمِ المَدِينَةِ” فقد قال العلماء إن مالكًا بن أنس هو المقصود بالحديث، وكان هذا التفسير بمثابة الحجة الشرعية الدالة على مبلغ علم الإمام مالك، وهذه الميزة لا تتوفر لأي مذهب من المذاهب الأخرى.
مميزات المدرسة المالكية
إن من مميزات هذه المدرسة إذا تتبعناها نراها كثيرة، وأهمها تلك التي ترتبط بالأصول فهي: مدرسة انبتت على فقه الموطأ، المؤسس على الدعائم الصحيحة من الحديث والآثار وغير ذلك مما وقف عليه مالك بن أنس وبنى عليه مذهبه المدعم بما عليه الجماعة بالمدينة المنورة، ولشدة حرص هذه المدرسة على اتباع هذه الأصول كان منهجهم تصحيح الروايات، وبيان وجوه الاحتمالات، مع ما انضاف إلى ذلك من تتبع الآثار، وترتيب أساليب الأخبار، وضبط الحروف على حسب ما وقع في السماع.
ولقد لقيت المدرسة القيروانية التونسية من جور العبيديين واضطهادهم الكثير، إلا أنها كافحت في سبيل البقاء، وصمدت لكل عوامل الظلم والاستبداد، حتى إذا ضعفت دولة العبيديين، ظهروا وفشوا عليهم، ونشروا المصنفات الجليلة، وقام منهم أئمة جلة، طار ذكرهم بأقطار الأرض، ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن خرجت القيروان وأهلها، وجهاتها، وسائر بلاد المغرب مجتمعة على هذا المذهب، لا يعرف لغيره قائم.
من أهم أوائل مؤلفات المدرسة المالكية القيروانية
يأتي في أوائل مصنفات المدرسة المالكية القيروانية مجموعة من الكتب أهمها :
1- الموطأ للإمام مالك بن أنس
ومعلوم أن الموطأ أصح كتب المذهب وأشهرها وأقدمها وأجمعها، وقد اتفق السواد الأعظم من الملة على العمل به والاجتهاد في روايته، ومن اليقين أنه ليس بيد أحد اليوم كتاب في الفقه أقوى من الموطأ، لأن فضل الكتاب، إما أن يكون باعتبار المؤلف، أو من جهة التزام الصحة، أو باعتبار الشهرة، أو من جهة القبول، أو باعتبار حسن الترتيب، واستيعاب المقاصد ونحو ذلك، وكل ذلك يوجد في الموطأ.
2- المدونة الفقهية الكبرى للإمام سحنون بن سعيد 240هـ
تعتبر المدونة من أمهات كتب المذهب المالكي، كما لا يعرف عن كتاب في المذهب بعد الموطأ نال من الإطراء والتقدير ما نالته المدونة على ألسنة المتقدمين والمتأخرين، فهي أصل علم المالكيين، بل هي عندهم ككتاب سيبويه عند أهل النحو، وككتاب إقليدس عند أهل الحساب، ويروى أنه ما بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك، ولا بعد الموطأ ديوان في الفقه أفيد من المدونة.
ومما أهل المدونة لهذه الرتبة المسائل التي اشتملت عليها، حتى قال أحد الشيوخ على سبيل المبالغة “ما من حكم نزل من السماء إلا وهو في المدونة”.
وقد تداولتها أفكار أربعة من المجتهدين: مالك بن أنس وعبد الرحمن بن القاسم وأسد بن الفرات وسحنون بن سعيد، ومما ينقل عن سحنون قوله: “عليكم بالمدونة فإنها كلام رجل صالح وروايته”، كان يقول أيضًا: “إنما المدونة من العلم بمنزلة أم القرآن من القرآن، تجزئ في الصلاة عن غيرها، ولا يجزئ غيرها عنها”.
“أفرغ الرجال فيها عقولهم وشرحوها وبينوها، فما اعتكف أحد على المدونة ودراستها إلا عرف ذلك في ورعه وزهده، وما عداها أحد إلى غيرها إلا عرف ذلك فيه، ولو عاش عبد الرحمن أبدًا ما رأيتموني أبدًا”,
وهي في المرتبة الثانية بعد الموطا، وفي ذلك يقول شيخ المغرب أبو محمد صالح (ت631هـ): “إنما يفتى بقول مالك في الموطأ، فإن لم يجد في النازلة فبقوله في المدونة، فإن لم يجد فبقول ابن القاسم فيها، وإلا فبقوله في غيرها، وإلا فأقاويل أهل المذهب”.
3- كتاب المجموعة لمحمد بن إبراهيم بن عبدوس 260هـ
وابن عبدوس من تلاميذ الإمام سحنون، والمجموعة كتاب شريف على مذهب الإمام مالك وأصحابه كالمدونة في نحو الخمسين كتابًا، أعجلته المنية قبل تمامه، والمجموعة أشهر مؤلفات ابن عبدوس، وأكثرها تداولاً في المذهب .
وكتابه هذا، يعتبر خامس كتب الدواوين، وهي كما يقول القاضي عياض: “كتاب رجل أتى بعلم مالك على وجهه”.
4- النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات
وهو كتاب مشهور، أزيد من مائة جزء، ويعتبر بمثابة تلخيص للكتب الفقهية الهامة للمذهب المالكي حتى ذلك الوقت؛ حيث جمع جميع ما في الأمهات من المسائل والخلاف والأقوال، فاشتمل على جميع أقوال المذهب وفروع الأمهات كلها.
وعلى العموم، الكتاب عبارة عن موسوعة فقهية شاملة، تضم الفقه وفنونًا أخرى، وهو كما يقول المرحوم أبو الأجفان في مقدمة كتاب الجامع: “فبالإضافة إلى النقول الفقهية، والفقه المقارن داخل المذهب، فإن في هذا الكتاب شذرات من الأخبار والسير، وآراء مالك في العقيدة، ووصفًا لأحداث وأدوات، مما كان متعارفًا في عهد الإسلام الأول، مما يجعل منه مادة صالحة للباحث التاريخي الاجتماعي.”
الواقع الحالي للمذهب المالكي في المغرب العربي
بعد أن شهد المذهب المالكي أهم فترات قوته في منطقة المغرب خلال القرون الأولى وصولاً إلى القرن الـ 13 للهجرة والـ 19 ميلادي تقريبًا، شهدت خدمة المذهب والاعتناء به وبروز علماء مالكيين جدد تراجعًا كبيرًا لعدة أسباب يبقى من أهمها الاحتلال الأجنبي الذي شهدته المنطقة مع نهاية القرن الـ 19.
يعد المذهب المالكي المذهب الرسمي لدول المغرب العربي اليوم لكن خدمته واعتناء الدول به لا يكاد يذكر وهو ما تسبب في عدم بروز أعلام مالكية معاصرة شبيهة بالعلماء السابقين من أمثال الإمام خليل ابن إسحاق صاحب المختصر وشراحه وغيره.
فمن الفقهاء المالكيين المغاربة المعاصرين في المغرب العربي يذكر البعض:
في المغرب الأقصى الشيخ الدكتور محمد الروكي، والشيخ الدكتور سعيد الكملي، والشيخ حسن الكتاني والشيخ محمد أبو خبزة المغربي والشيخ مصطفي البيحياوي وغيرهم كثير.
أما في تونس، فالشيخ الحبيب بن طاهر صاحب كتاب الفقه المالكي وأدلته وفي ليبيا الشيخ الصادق الغرياني صاحب كتاب مدونة الفقه المالكي وأدلته أما الجزائر فالشيخ محمد الطاهر آيت علجات الجزائري صاحب شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني والشيخ بن حنفية العابدين من محققي المذهب وله فيه مشاركات وشرح لمتن الرسالة سماه العجالة في شرح الرسالة.
ورغم قلة علماء المالكية في هذه البلدان المغاربية ظلت موريتانيا محافظة على تقاليدها في الاعتناء بالفقه المالكي وخدمة المذهب وتكوين دعاة وعلماء مالكيين ويبقى أبرز أعلام المالكية في موريتانيا الشيخ محمد سالم بن عدود رحمه الله والشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي والشيخ عبد الله بن بيه والشيخ محمد المختار الشنقيطي والشيخ محمد سيدي الحبيب.